شهدت سوريا حدثًا تاريخيًا بإعلان سقوط النظام السوري في تطور يطرح تساؤلات جوهرية حول ملامح المرحلة الانتقالية، وشكل سوريا الجديدة، وما إذا كانت ستتسم بالاقتتال الداخلي أو الاستقرار خاصة أن هناك غيابا في التوافقات في اتجاهات الأيديولوجيات الفكرية المكونة للفصائل المعارضة والتنظيمات المسلحة وصعوبة إيجاد توافقات بينها على الرغم من اتحادها على إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، وهو ما يمثل تهديدًا لاستقرار سوريا، وبما ينذر بصراعات محتملة.
وقد جاءت هذه الأحداث بعدما شنت فصائل المعارضة المسلحة والجماعات الإرهابية أكبر هجوم لها ضد الحكومة السورية منذ سنوات، واستولت على مساحة واسعة من الأراضي شمال غرب سوريا، بما في ذلك معظم مساحة مدينة حلب، ثاني أكبر مدينة في البلاد، بعد سحب الجيش السوري لقواته، وقد أدت المكاسب العسكرية المفاجئة التي حققتها هيئة تحرير الشام في شمال سوريا، بما في ذلك حلب ــ ثاني أكبر مدينة في سوريا ــ إلى إعادة تسليط الضوء على الحرب الأهلية الكامنة في البلاد، وعلى الرغم من أن هذه التطورات قد ظهرت بصورة سريعة ومفاجئة، إلا أنها متوقعة منذ فترة طويلة باعتبار أن الحكومة السورية أكثر عُرضة لمثل هذه الاضطرابات منذ سنوات.
وقبل هجوم قوات المعارضة، كان ينظر إلى الأزمة في سوريا كما لو أن الحرب قد انتهت فعليًا بعد استعادة الحكومة السورية السيطرة على المدن بمساعدة كل من روسيا وإيران وتزويدها بالخبراء والقوات العسكرية، ومع ذلك، كان هناك أجزاء كبيرة من البلاد خارج سيطرة الحكومة المباشرة.وتشمل هذه الأجزاء مناطق شمالية وشرقية يسيطر عليها تحالف جماعات مسلحة بقيادة الأكراد المدعومينمن جانب الولايات المتحدة الأمريكية.كما يقع آخر معقل للمعارضة المسلحة في محافظتي حلب وإدلب في الشمال الغربي، والتي تقع على الحدود مع تركيا ويقطنها أكثر من أربعة ملايين شخص.في حين تسيطر جماعة هيئة تحرير الشام المسلحة على الشمال الغربي، في حين يسيطر الجيش الوطني السوري على أراض هناك بدعم من تركيا.
أسباب السقوط:
يمكن إرجاع أسبابسقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسدوتصاعد تحركات الفصائل المعارضة المسلحة والتنظيمات الإرهابية إلى مجموعة من العوامل، وذلك على النحو التالي:
1. تراجع القدرات العسكرية للجيش العربي السوري: منذ أكثر من عقد من الزمان، كافح الجيش السوري للحصول على السيطرة الميدانية في الحرب الدائرة هناك، وهذه العملية الاستنزافية أدت إلى تراجع قدراته العسكرية ومعنوياته. وعلى الرغم من استقرار الوضع بشكل ملحوظ لصالح الحكومة السورية منذ عام 2018، إلا أن الجيش السوري لم يحصل على فرصة للتعافي وإعادة ترتيب صفوفه بعد أن كان ينظر إليه باعتباره واحدًا من أكبر جيوش المنطقة، إلا أن تحول الأوضاع الداخلية في السنوات الأخيرة ساهم في إيجاد خليط مجزأ من الفصائل والميليشيات المتأثرة بشدة بالقوى الإقليمية والدولية، بما في ذلك إيران وروسيا وتركيا.
2. تراجع معنويات الجيش: من المحتمل أن يكون تنامي نشاط القوى الخارجية، وإنشاء القواعد العسكرية الأجنبية وفرض سيطرة القوى الخارجية على نطاقات جغرافية في جميع أنحاء البلاد، قد أثر على معنويات الجيش العربي السوري خاصة بعدما تعرضت البنية التحتية وقواته ومراكزه القيادية وقواعده العسكرية لاستهداف مستمر من قبل الغارات الجوية الإسرائيلية على مدى العقد الماضي. وقد أدت مئات من هذه الضربات إلى إضعاف قدرته العملياتية بشكل خطير. وقد وجهت هذه الضغوط الخارجية، إلى جانب تراجع الجيش وتراجع معنوياته، ضربة معنوية كبيرة لمعنويات الجيش والفعالية الإجمالية للجيش السوري.
3. تراجع الدعم الروسي: هناك حالة من الإرهاق الأوكراني لروسيا الذي تعاني منه بعد تنامي الدعم الأمريكي والغربي، أو بالأحرى الإجهاد الناجم عن حربها المطولة في أوكرانيا، ففي عام 2015، وإعلانها التدخل لدعم الحكومة السورية، لعبت روسيا دورًا محوريًا في استعادة قدرة النظام على التأثير الميداني في مجريات المعارك الدائرة، كما كانت الضربات الجوية الروسية حاسمة في تحويل ميزان المعارك الميدانية، وهو ما سمح للحكومة السورية بدعم من القوات الإيرانية المتحالفة معها بالحصول على اليد العليا في التأثير.
ولكن الوضع اليوم مختلف بصورة جذرية بعدما تحول تركيز روسيا بالكامل تقريبًا إلى خدمة المجهود الحربي في أوكرانيا والعمل على ضمان القدرة على توفيرها. ورغم أن روسيا لا تزال تحتفظ بوجود عسكري في سوريا وقيامها بشن المزيد من الضربات الجوية ضد المتمردين، فإن أولوياتها تكمن في الأساس حول الصراع الدائر مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية في أوكرانيا؛ حيث يتم توجيه الذخيرة والموارد المحدودة نحو الجبهة الأوكرانية، كما أعيد نشر الكثير من أفراد النخبة العسكرية الروسية، وخاصة القوات الجوية.ولقد أدى هذا التحول في الموارد والتركيز الروسي على أوكرانيا إلى إضعاف قدرة روسيا على دعم الحكومة السورية بالفعالية نفسها التي كانت عليها من قبل. ونتيجة لهذا، أدى هذا التحول إلى المزيد من تآكل وتراجع القدرات العسكرية للقوات المسلحة السورية وتشجيع الفصائل المتمردة، التي اغتنمت الفرصة لاستغلال تراجع التركيز الروسي على سوريا.
4. تراجع الدعم الإيراني: لم تساند إيران نظام الرئيس بشار الأسد بالصورة التي كانت عليه من قبل، ويمكن إرجاع ذلك إلى توجيه الدعم الإيرانيناحية لبنان لمساندة حزب اللهفي مواجهة التصعيد الإسرائيلي، وهو ما أدى إلى تراجع دعمها الرئيسي لسوريا وخفض الإمدادات الداعمة لسوريا بشكل كبير. وقد أدى هذا التحول إلى خلق فجوة في شبكة دعم نظام الأسد. كما أدى انخفاض الدعم من حزب الله وغيره من العناصر المتحالفة مع إيران إلى تقويض قدرة النظام على الحفاظ على السيطرة الميدانية ومعالجة التحديات التي يواجهها بشكل فعال.
5. التغيرات في شبكة التحالفات: يضاف إلى ذلك قد يكون للتغيرات التي طرأت على مجريات وديناميكيات التحالف بين نظام الرئيس السوري بشار الأسدوالميليشيات الإيرانيةخلال تطورات الأزمة السورية الأثر الكبير في إضعاف قدرة الحكومة السورية على مواجهة تحركات المعارضة المسلحة والتنظيمات الإرهابية؛ حيث كان يُنظر إلى هذا التحالف باعتباره ضروريًا لمساعدة الحكومة السورية ودفع تقدم الجيش العربي السوري. ومع ذلك، في العام الماضي، تغيرت الديناميكيات داخل هذا التحالف بشكل كبير.فمنذ السابع من أكتوبر 2023، تصاعد الصراع بين إسرائيل وحزب الله إلى مستويات غير مسبوقة. وخلال الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله، وجهت إسرائيل ضربات للقدرات العسكرية لحزب الله. وقُتل ما يقرب من 4000 من مقاتلي الحزب ونخبته العسكرية والسياسية، مثل حسن نصر الله وشخصيات أخرى بارزة، كما تضررت بنية قيادة الجماعة، وعلى الرغم من تعيين قادة جدد، فإن التغيير القيادي ساهم في ترك الحزب في حالة من الارتباك.
6. ضعف التماسك الداخلي وتدهور الأوضاع الاقتصادية: يمكن الإشارة هنا إلى أن هناك عاملا مهما تسبب في تدهور الأوضاع الداخلية وخاصة داخل الأراضي الخاضعة لسيطرة الحكومة،فمنذ عام 2018، وتمكن نظام الأسد من استعادة السيطرة على ما يقرب من 70 في المائة من البلاد، في حين لا تزال سوريا تواجه تحديات اقتصادية شديدة، ولم تتمكن الحكومة من توفير الخدمات الأساسية للمواطنين مثل إمدادات الطاقة، وهو ما أدى إلى زيادة معاناة المواطنين فيالعديد من المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة منذ سنوات دون وصول موثوق إلى الخدمات بما ساهم في زيادة استياء المواطنين.وقد ساهم هذا الوضع في تصاعد شرارة الاحتجاجات في المناطق التي كانت تعتبر تقليديًا معاقل لدعم الحكومة السورية، كما كشفت هذه المظاهرات عن الفجوة المتزايدة بين المناطق التي كانت تدعم الحكومة السورية. ولم تؤد هذه الأحداث إلى تراجع نفوذ الجيش السوري فقط، بل أدت أيضًا إلى تقويض الاستقرار المؤسسي للنظام وخلق فرص لجماعات المعارضة، بما في ذلك المعارضة المسلحة والتنظيمات الإرهابية لتعزيز مواقعها.
اتجاهات محتملة:
مع سقوط النظام السوري يمكن القول إن هناك تغييرات جذرية على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وهو ما يفتح المجال أمام مجموعة من الاتجاهات المستقبلية المحتملة لتطور هذه الأوضاع، وذلك على النحو الآتي:
1.مسار الحرب الأهلية: بانهيار النظام السوري، فإن العملية السياسية المتنازع عليها بين الفصائل المسلحة المتمردة متعددة الاتجاهات والأيديولوجيات ستبدأ. وبالنظر إلى أن لديهم توجهاتٍ إقليمية وسياسية متنافسة، فإن ذلك سيساهم في حدوث مزيد من الخلافات وعدم الاستقرار. وهو ما ظهر في طبيعة التحركات الميدانية بالنسبة للفصائل المعارضة والتنظيمات الإرهابية فهناك العديد من اللاعبين والعديد من الجبهات، فالجبهة الرئيسية هي جبهة "ردع العدوان" التابعة لإدارة العمليات العسكرية بقيادة هيئة تحرير الشام، التي انطلقت من إدلب، ثم غرفة عمليات "فجر الحرية" التابعة للجيش الوطني، التي انطلقت من مناطق درع الفرات في ريف حلب الشمالي والغربي، وهؤلاء يتبعون لتركيا بشكل كامل. كما التحقت بهم غرفة عمليات "كسر القيود" من الجنوب السوري، وهذه الغرفة تضم فصائل كثيرة ليست على وفاق مع بعضها. وإلى جانب ذلك، هناك قوات سوريا الحرة التي انطلقت من منطقة التنف جنوبي شرقي سوريا على الحدود الأردنية- السورية،إضافةً إلى كل ذلك، هناك قوات سوريا الديمقراطية في الشمال الشرقي لسوريا، المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، وهؤلاء في خصومة مع كافة فصائل المعارضة.
فبعد سقوط النظام ووجود كل هؤلاء الفرقاء سيبدأ كل طرف بحصد المكاسب وتعزيز السيطرة الميدانية في المناطق وهنا سيبدأ الخلاف. وقد ظهرت هذه المؤشرات بالفعل في الأيام الأولى من بداية العمليات العسكرية ضد الحكومة السورية بين غرفة عمليات ردع العدوان وفجر الحرية في غرب حلب وشمالها، حتى تم التواصل بين الطرفين للتفرغ للنظام الآن، وكأن معركتهم الحتمية قد تم تأجيلها، وهذا يبدو منطقيًا في وقته باعتبار أن الأولوية كانت في إسقاط النظام.
وما يعزز من حدوث هذا الاتجاه، افتقار الجبهات والفصائل المنتشرة إلى قيادة عسكرية موحدة ومرجعية سياسية تجمعهم؛ فلكل طرف حكومته الخاصة، فهيئة تحرير الشام لديها حكومة الإنقاذ، والجيش الوطني لديه الحكومة المؤقتة، وقوات سوريا الديمقراطية لديها حكومة الإدارة الذاتية. ولا يوجد أي تواصل أو قنوات اتصال بين هذه الحكومات.وفي الوقت نفسه، يغيب الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة عن المشهد كليًّا، وهو من المفترض أن يكون الجهة السياسية الشرعية، بل أثبتت السنوات الماضية ضعف وفشل الائتلاف وغيابه عن المشهد السوري.
2. إعادة تقييم الأدوار الإقليمية والدولية: من المحتمل أن تتجه بعض الدول إلى تعديل موقعها في سوريا بعد أن كان نظام الأسد يمثل امتدادًا للمحور الإيراني داخل المنطقة العربية، وأن سقوطه يعني نهاية النفوذ الإيراني المباشر في دمشق. كما أن هذا الفراغ الذي سيتركه النظام في سوريا سيدفع دولًا مثل تركيا إلى التنافس على النفوذ هناك خاصة وأن هناك ارتباطا عضويا بين بعض من هذه الفصائل وتركيا، في المقابل، قد تسعى روسيا للحفاظ على مواقعها في الساحل السوري، وهو ما يجعل الصراع حول النفوذ الروسي-الأمريكي جزءًا أساسيًا من المرحلة المقبلة. كما قد تتجه إسرائيل إلى تعزيز مواقعها العسكرية والدخول في مناطق أخرى بعد انسحاب الجيش السوري من العديد من المناطق الحدودية، وهو ما ظهر بعدما بدأت إسرائيل بخطوات غير مسبوقة لتوسيع وجودها في سوريا؛ حيث سيطرت قواتها على منطقة جبل الشيخ السورية، وأعلنت عن إنشاء منطقة عازلة.وتبرر إسرائيل تحركاتها الأخيرة بالقول إنها تهدف إلى حماية المستوطنات في الجولان ومنع تسلل المجموعات المسلحة إلى أراضيها. ومع ذلك، تشير التطورات إلى أن الخطوات الإسرائيلية تتجاوز مجرد الدفاع إلى تعزيز نفوذها الإقليمي بعدما ألغت اتفاق فض الاشتباك لعام 1974 مع سوريا بشأن الجولان.
وتشير بعض الآراء إلى أن هناك أهمية قصوى لدور الدول العربية في الضغط للحفاظ على وحدة الأراضي السورية وتقديم خارطة طريق للحل السياسي، وأن الدور العربي سيكون أساسيًا في سد الفراغ الذي تركته إيران وحزب الله في سوريا،ولأن أي انقسام داخلي سيفسح المجال أمام القوى الإقليمية والدولية لتعزيز نفوذها وتنامي احتمالية تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ إقليمية، أو دولية، أو طائفية.
3. استقرار الأوضاع: هناك احتمالية لأن تتعاون الفصائل وقوى المعارضة السياسية الأخرى على تشكيل حكومة ما بعد الأسد ولو بصورة مؤقتة، ولكن عملية التفاوض بشأن الشكل النهائي للحكومة ودستور الدولة بعد الحرب ستكون بطيئة وستتأثر بالأوزان المختلفة لكل فصيل، وكذلك بالتدخلات الخارجية التي ستعارض أي دستور لا يراعي مصالحها كما هو الحال بالنسبة لتركيا التي ترفض وجود دستور يمنح الحكم الذاتي للأكراد في مناطق الشمال الشرقي لسوريا. كما أنه في حال استقرت الأوضاع ستتجه الأنظار إلى عودة اللاجئين وإعادة إعمار سوريا، وإنهاء معاناة الشعب السوري من خلال رفع العقوبات وتقديم دعم مالي عربي لإعادة بناء البنية التحتية في سوريا، ويتطلب هذا الاتجاه وجود مجموعة من الشروط، منها توافر الدعم الدولي والإقليمي لتحقيق هذا التصور، فضلًا عن وضع خطة انتقالية وفق القرار الأممي 2254 لوضع دستور جديد وإجراء الانتخابات.
ختاما، هناك مجموعة من العوامل التي يمكن من خلالها وضع تصور حول اتجاهات بقاء الدولة السورية الآن وأكثر من أي وقت مضى، وهو ما يتطلب مزيدًا من التنسيق والتفاهم المتبادلين المكونات الداخلية والقوى الإقليمية والدولية، ومحاولة الوصول إلى تفاهمات داخلية، وإقليمية، ودولية من شأنها إيجاد عقد جديد بين المكونات السورية الداخلية بما يحفظ وحدة واستقرار أراضيها.