للمرة الثانية في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، يقع رئيس الوزراء الفرنسي ضحية التصويت بسحب الثقة من قبل أغلبية النواب في الجمعية الوطنية، ليعلن بذلك رئيسها، يائيل براون بيفيت، استقالة ميشيل بارنييه القسرية بعد ثلاثة أشهر فقط من توليه منصب رئيس الوزراء. جاء ذلك نتيجة لرفض المعارضة اليمينية واليسارية لتدابير التقشف في ميزانية 2025. ويترتب على هذه الأزمة تداعيات سياسية واقتصادية قد تذهب إلى أبعد من الحدود الفرنسية وتؤثر على حلفاء فرنسا. وقد أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون عن استكمال بقية ولايته حتى عام 2027. ومع ذلك، سيحتاج إلى تعيين رئيس وزراء جديد للمرة الثانية بعد أن أسفرت الانتخابات التشريعية في يوليو الماضي عن تشكيل للجمعية الوطنية لا يوفر الأغلبية الناجزة. فما هي مختلف السيناريوهات الآن للخروج من هذه الأزمة غير المسبوقة وماهي التداعيات المحتملة على الداخل الفرنسي والجوار الأوروبي؟
تلاحق الأزمات في فرنسا جاء منذ الإعلان عن الانتخابات التشريعية المبكرة التي تكللت بتعيين ميشيل بارنييه رئيسا للوزراء فى سبتمبر 2024، وذلك بعد أن ظلت فرنسا بلا حكومة لعدة أسابيع خلال الصيف. لكن الانتخابات التشريعية أسفرت بدورها عن تجزئة الجمعية الوطنية إلى ثلاث كتل (تحالف اليسار، والماكرونيين، ويمين الوسط واليمين المتطرف) دون أغلبية مطلقة. وقد أصر بارنييه، الذي كان يعد أحد المفاوضين البارزين للاتحاد الأوروبي، على استدعاء المادة 49-3 من الدستور الفرنسي، متجاوزا التصويت البرلماني، للدفع بميزانية مثيرة للجدل لعام 2025، وهي الخطوة التي رفضتها الفصائل اليمينية واليسارية المتطرفة على حد سواء، موحدة بذلك صفوف المعارضة ضد حكومة رئيس الوزراء.
ولحل هذا المأزق، يطرح ماكرون على الجمعية العامة "قانونا خاصا" للطوارئ ومشروع قانون جديد لميزانية 2025منتصف ديسمبر الجاري باعتبار القانون الخاص أداة دستورية لضمان استمرارية الخدمات العامة للدولة، بينما تتولى الحكومة التي لم تُسمى بعد إعداد موازنة جديدة في بداية 2025، كما تقول صحيفة لوموند.
تضيف "لوموند" في تقرير أعده دينيس كوسنار، ونشر على موقعها في 6 ديسمبر، أن قصة مشروع قانون موازنة الجمهورية الخامسة الأكثر تعقيدا انتهت نهاية "عبثية". وقد أطلق عليها وصف "الموازنة الملعونة"حيث أعدتها حكومة جابرييل أتال المستقيلة؛ثم أعاد خليفته ميشيل بارنييه صياغتها خلال أسبوعين، وأرسلت إلى الجمعية الوطنية بعد الموعد النهائي. ويشير التقرير إلى أن المعارضين من جميع الأطراف "مزقوها إلى أشلاء"، وتم إلقاؤها الآن في "سلة مهملات الرئيس". وأشار إلى كونها ميزانية مستحيلة، ممزقة بين الحاجة إلى اتخاذ تدابير قوية لتقليص العجز المتصاعد، وعجز الجمعية العامة المنقسمة عن الاتفاق على السياسة التي ينبغي لها أن تنتهجها.
وقد ظن بعض النواب، ومنهم فيليب برون النائب الاشتراكي المتخصص في قضايا الموازنة، أن تعيين رئيس وزراء جديد على وجه السرعة من قبل الرئيس الماكرون من شأنه إنقاذ الموقف وإعداد مشروع جديد للموازنة بحيث يعتمده النواب قبل عيد الميلاد، بحسب موقع لو باريزيان. غير أن خطاب الرئيس الفرنسي بدد تلك الآمال لتتوقف محاولات إقرار الموازنة بحلول نهاية العام وتبدأ مساعي إصدار قانون خاص، وهو الإجراء الذي لم يستخدم إلا مرة واحدة عشية عيد الميلاد عام 1979، عندما أبطل المجلس الدستوري مشروع ميزانية عام 1980،مما دفع رئيس الوزراء آنذاك ريموند بار إلى تمريره دون اتباع الإجراء الصحيح. وعلى سبيل الاستعجال، أقرت الحكومة مشروع قانون من جملتين يسمح لها "بمواصلة تحصيل الضرائب في عام 1980"، بحسب الموقع نفسه.
ويتوقع مراقبون أن تكون معادلة تشكيل الحكومة الجديدة حاليا معقدة بقدر تعقيد تعيين ميشيل بارنييه من قبل، حيث إن اليمين والوسط واليسار منقسمون بشأن الاتفاق على حكومة ائتلافية جديدة. كما يتوقع مراقبون أن يظل العجز المالي في الميزانية الجديدة والمقدر له 6% تحديا كبيرا أمام الحكومة المستقبلية. وهكذا، يتعين على الرئيس ماكرون التعجيل بتعيين رئيس وزراء جديد قادر على كسب ثقة الجمعية الوطنية في ضوء الانقسام الغالب عليها. وتشير الترشيحات إلى عدد من السياسيين، مثل زعيم حزب الحركة الديمقراطية الوسطية، فرانسوا بايرو، إضافة إلى وزير القوات المسلحة سيباستيان ليكورنو. غير أن الائتلاف اليساري يرشح لوسي كاستيتس، الخبيرة الاقتصادية. ويرجح مراقبون أن يرفض الرئيس ماكرون هذا الترشيح خاصة وأنه سبق واستبعدها على رأس الحكومة السابقة، ويميلون إلى تغليب الرئيس لاختيار شخصية تكنوقراط بعيدة عن الاستقطاب السياسي تستطيع قيادة فرنسا وإخراجها من الأزمة التي تهددها.
تداعيات التطورات السياسية في فرنسا على اقتصادها وحلفائها بالاتحاد الأوروبي:
يجمع المراقبون على أن تبعات سحب الثقة من حكومة بارنييه من شأنها التأثير على كافة مجالات الحياة اليومية للفرنسيين، خاصة في ضوء الوضع السياسي والاقتصادي الحرج في البلاد. ومن خلال متابعة ريبورتاجات مصورة في عدد من القنوات التلفزيونية الفرنسية يمكن ملاحظة سيطرة حالة من القلق الشديد على المواطنين الذين باتوا يتساءلون حول احتمال توقف المرتبات وتعويضات التأمين الصحي، حيث يواجهون موقف الإغلاق (shutdown) مشابه لما تعرضت له الولايات المتحدة الأمريكية عند نشوب خلاف حول الموازنة العامة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. وقد أجاب خبراء اقتصاد وقانونيون عن هذه التساؤلات في عدد من برامج "التوك شو" الفرنسية، موضحين أن الدستور يتيح في مثل هذه المواقف الحصول على تصويت كل شهر من الجمعية العامة لتنفيذ ميزانية الشهر نفسه من السنة السابقة، وإن كانت نسبة الزيادة السنوية في المرتبات والمعاشات وفقا لأرقام التضخم قد لا يتم احتسابها، وهي بدورها إشكالية تفاقم الوضع الاجتماعي. ويشير الخبراء أيضا إلى أن الوضع الاقتصادي مرشح للمزيد من الصعوبات حيث يبلغ الدين العام الفرنسي 3228 مليار يورو، بينما تبلغ خدمة الدين السنوية 60 مليار يورو، فيما تستمر عمليات الاقتراض للإنفاق العام وهو ما يثير المزيد من القلق بين المستثمرين نظرا لرفع سعر الفائدة عند الحصول على قروض جديدة؛ وهذا مناخ طارد للاستثمار عموما في فرنسا. وقد ظهرت ملامح تلك الاضطرابات مباشرة على أسواق المال الفرنسية التي شهدت تقلبات، مع ارتفاع عائدات السندات وتعرض اليورو للضغوط.
ولا شك في أن الأزمة الفرنسية الحالية من شأنها إضعاف موقف الاتحاد الأوروبي التفاوضي مع الولايات المتحدة تجاه التعريفات التجارية الجديدة المتوقعة من الإدارة القادمة للرئيس ترامب والتي تستعد أيضا لإشعال نيران حرب تجارية مع الصين، إضافة لموقفها المناوئ للاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي، ناهيك عن الحرب في أوكرانيا واحتمالات الانسحاب من دعمها لكييف.
وقد يضاعف ذلك التحديات أمام تماسك الاتحاد الأوروبي بالنظر للوضع المتأزم بدوره داخل ألمانيا أكبر قوة داخل الاتحاد والتي تغذي التيارات الشعبوية في الدول الأعضاء والمفوضية.ليس ذلك فقط بل إن فرنسا لن تستطيع الوفاء بالتزاماتها تجاه حلف شمال الأطلسي (الناتو) وسياسات المناخ، وهي مشكلات سيتعين على الاتحاد الأوروبي إيجاد حلول لها للوفاء بالتزامات ثاني أكبر دولة بين أعضائه.
الرئيس ماكرون الذي خاطب الفرنسيين بعد عدة ساعات من مذكرة حجب الثقة عن الحكومة أكد أن الحكومة المقبلة ستكون أولويتها هي الموازنة وسيقدم مجددا قانونًا خاصًا للميزانية في البرلمان منتصف شهر ديسمبر، يعني بعد أقل من أسبوع، لينفي بذلك أي تكهنات عن استقالة مبكرة من جانبه يطالبه بها معارضوه. وشدد ماكرون على أن ولايته الممتدة لخمس سنوات سيمارسها بالكامل حتى نهايتها؛ هذا يعني استكمال المدة الرئاسية حتى موعد إجراء الانتخابات المقبلة في عام 2027.وهذا القرار أيضا ليس على هوى القوى اليمينية المتطرفة يمينا ويسارا، حيث كانت تأمل في استقالة الرئيس ودعوة مبكرة للانتخابات. مما يرجح المزيد من المواجهات وعدم الاستقرار السياسي. وقد اعتبر الرئيس الفرنسي كلا من اليمين المتطرف واليسار المتطرف "مناهضين لقيم الجمهورية" ويرغبان في خلق الفوضى. ووعد بتعيين رئيس وزراء على وجه السرعة.
لكن صحيفة لوموند لا تتوقع تنفيذ الوعد الرئاسي بسهولة، حيث إن أي ائتلاف يتم التوصل إليه لن يستطيع الصمود إلا إذا اتفق جميع الأطراف مسبقا على النقاط الخلافية، مشيرة إلى أن الأطراف كلما زاد عددها كلما زادت صعوبة التوصل إلى اتفاق بينها؛ وهذا "يتطلب وقتًا بينما لا يمتلك البلد رفاهية الانتظار"، وفقا للصحيفة. وعلّق زعيم اليسار الراديكالي، جان لوك ميلينشون، في مداخلات تلفزيونية بعد خطاب الرئيس ماكرون مباشرة، قائلا " إنه سبب المشكلة" ومتوقعا اختفاءه "بقوة الأحداث".
وسط هذه الصورة التي يسيطر عليها الاضطراب، ينتظر الفرنسيون وحلفاؤهم أن يختار ماكرون رئيسا للوزراء قادرا على تشكيل حكومة تستطيع إقناع الجمعية الوطنية بسياسات تخرج فرنسا من أزمتها السياسية والاقتصادية، وتلبي مطالب الفرنسيين الاجتماعية. فهل يتحقق ذلك على النحو الذي يأمله الفرنسيون؟