في زمن "الفراغ الرئاسي" الطويل الذي عاشته لبنان بين عامي 2014 و2016، وجد اللبنانيون أنفسهم عالقين بين الجمود السياسي والهموم اليومية، لكنهم لم يفقدوا حس الدعابة؛ الذي طالما رافقهم حتى في أحلك الظروف. عروسان قررا أن يواجها هذا الواقع، حينها، بكتابة عبارة ساخرة دعوة زفافهما: "سنتزوج رغم أن البلد بلا رئيس. إذا جاء الرئيس سندعوه لتقطيع التورتة"، لتلخيص حالة العبثية التي أحاطت بالمشهد السياسي اللبناني، وتعقيدات الفراغ المتكرر، الذي لم يكن مجرد تغييب لرئيس، بل تعبيرًا عن صراع مرير بين الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية، تتماهى فيه تفاصيل الحياة اليومية،لدرجة أن اللبناني أصبح يراقب السياسة من نافذة بيته، لا من الأبواب المغلقة لقصر "بعبدا".
رئيس مجلس النواب، نبيه بري، أعلن، مؤخرًا، عن جلسة انتخابية جديدة مقررة في التاسع من يناير المقبل، بعد سلسلة فشل أجهضت 13 جلسة سابقة لاختيار الرئيس، ولم تُسفر سوى عن المزيد من إظهار هشاشة المشهد السياسي وتناقضاته الحادة، قبل وضوح الصورة، نسبيا، من عبر الأسماء المتنافسة، حاليا: قائد الجيش اللبناني جوزيف عون الذي يحظى بدعم سياسي متنوع، وسليمان فرنجية، المرشح المفضل للتيار الشيعي، وجهاد أزعور، ذو الخلفية الاقتصادية الدولية، لكنها ليست سوى قمة جبل جليد، غارقة في بحر من المصالح المتشابكة والتوازنات المتعثرة، بينما الحل يبدو عالقا في متاهة يصعب فك خيوطها، حيث كل خطوة نحو التقدم تصطدم بعقدة سياسية جديدة.
مجلس النواب اللبناني، المكوّن من 128 نائبا بتوزيع معقّد يعكس كل تفاصيل الجغرافيا السياسية للطوائف، يتأرجح بين العجز والشلل. 34 مارونيا، 28 سنيا، 28 شيعيا، 14 أرثوذكسيا، 8 دروز، 8 كاثوليك، 5 أرمن، علويان، ومقعد للأقليات المسيحية؛ كل هذه الأرقام تخفي وراءها انقسامات حادة تعرقل أي اتفاق. الآلية الدستورية لانتخاب الرئيس واضحة: في الجولة الأولى يحتاج المرشح إلى أغلبية الثلثين، أي 86 صوتا، وإذا تعذرت هذه النتيجة، يصبح الحسم ممكنا بأغلبية النصف زائد واحد، أي 65 صوتا، في الجولة الثانية. لكن هذه القواعد التي تبدو بسيطة على الورق، تتحول في الواقع اللبناني إلى أحجية مستعصية، تغرق في تفاصيل الخلافات المحلية وامتداداتها الإقليمية والدولية.
الإخفاق المستمر في انتخاب رئيس جديد ليس مجرد تفصيلة عابرة في المشهد السياسي اللبناني، بل هو انعكاس مباشر لخلل عميق في نظام يقوم على المحاصصة. هذا النظام، الذي صُمم أساسا لضمان التوازن بين الطوائف، تحول مع الوقت إلى عقبة رئيسية أمام اتخاذ أي قرارات حاسمة. جلسات البرلمان التي تُعقد منذ نهاية ولاية، ميشيل عون، تحولت إلى مسرح لاستعراض الانقسامات الحادة بين الكتل السياسية، حيث يغيب التوافق الذي يمكن أن يحقق النصاب المطلوب ينهي "الفراغ الرئاسي"، والنتيجة هي شلل سياسي شامل يعمّق الإحباط الشعبي ويُشعر اللبنانيين بأن مؤسساتهم أصبحت عائقا بدلا من أن تكون حلا.
"الفراغ الرئاسي"الحالي، يمتد منذ نهاية ولاية الرئيس المنتهية ولايته، ميشيل عون، في 31 أكتوبر 2022، لم يعد مجرد ثغرة سياسية عابرة يمكن ملؤها بالتعليقات الطريفة التي طالما تميز بها اللبنانيون، بل تحول إلى عبء ترزح تحته البلاد بأكملها، فالفراغ لم يكتفِ بغياب الرئيس، بل اتسع ليبتلع ما تبقى من قدرة اللبنانيين على الهروب بالفكاهة من قسوة الواقع، ممثلا في انهيار شامل يكاد يلتهم كل ما تبقى من استقرار هش في لبنان، والأزمة الاقتصادية تواصل اندفاعها نحو الأسوأ، كأن البلاد تسير بلا مكابح نحو هاوية مجهولة. الحدود الجنوبية، رغم وقف إطلاق النار، لا تزال على صفيح ساخن مع تصاعد التوتر الأمني والعسكري، فيما الانقسامات السياسية تُحكم قبضتها على البلاد، تشل تشكيل حكومة جديدة وتعمّق حالة الجمود السياسي، بينما المشهد العام أشبه بلوحة قاتمة تفيض بالكآبة والغموض، تغطيها سحب من الإحباط الذي بات يوميا في حياة اللبنانيين.
في النظام اللبناني، رئيس الجمهورية ليس مجرد شخصية رمزية بل يمثل صمام أمان للسلطة التنفيذية ومحورا أساسيا لتشكيل الحكومات وتفعيل القوانين، ومن ثم فغيابه يترك البلاد في حالة فراغ تعطل فيها الإصلاحات الاقتصادية الحيوية، في وقت يحتاج فيه لبنان إلى خطوات جريئة للخروج من أزمته المالية غير المسبوقة، ووفقا لتقارير البنك الدولي، يتجاوز معدل التضخم في البلاد 171% خلال العام الأخير، ما أدى إلى تآكل القدرة الشرائية إلى مستويات خطيرة، بينما بلغ معدل البطالة أكثر من 40%، في حين يزداد عدد اللبنانيين الذين يهاجرون بحثا عن فرص أفضل في الخارج، هربا من واقع يخنق أحلامهم ويدفعهم إلى منافٍ جديدة، وبعدما كانت لبنان، يوما، مرادفا للأمل والحيوية، أصبحت رمزا للأزمة التي تأبى أن تنتهي.
خلف الأرقام الباردة التي ترسم ملامح الأزمة اللبنانية، تتوارى قصص إنسانية تختصر، بكل مرارة، معاناة وطن بكامله، فليست الأرقام وحدها من تحدد مصير لبنان، حاليا، بل تعكس القصص المأساوية الواقع اليومي لشعبٍ يعانى في صمت. في أحياء بيروت، تعبر الشوارع عن أوجاع لا تُرى بالعين المجردة، يقف العديد من اللبنانيين على أطراف الحلم، محاولين الحفاظ على القليل من الأمل وسط بحرٍ من الأزمات، يتحول كفاح المحلات الصغيرة إلى صراع مرير من أجل البقاء، في ظل التكاليف التي تتصاعد بشكل يومي وتجعل من المستحيل أن تستمر الأعمال على نحو طبيعي.
في قلب العواصف، يجد المواطن نفسه في وضع لا يُحسد عليه، بين إغلاق أبواب مصدر رزقه أو الانطلاق في رحلة للهجرة، عله يجد فرصة للحياة بعيدًا عن وطن تآكلت معالمه، وفي زوايا أخرى من المدن، شباب، كان من المفترض أن يعيشوا فيه أحلامهم، يحاربون من أجل مجرد البقاء في المهنة التي اخترعوها لأنفسهم.حلم اللبنانيين بعالمٍ أفضل تحول إلى معركة يومية مع تحديات لا تنتهي، ولم تعد التكنولوجيا، كرمز للتقدم، قادرة على التغلب على الأزمات الأساسية، فالانقطاعات المستمرة للكهرباء تعيق العمل والإنتاج، وتجعل البقاء في هذا الوطن أمرًا صعبًا، ورغم هذا، يتمسك البعض ببصيص أمل، منتظرين أن يأتي يوم ينهض فيه لبنان من جديد، لكن مع استمرار "الفراغ الرئاسي" يشعر الكثيرون أن الأزمة السياسية قد أصبحت تهديدًا وجوديًا حقيقيًا للدولة وللمستقبل.
في الريف اللبناني، حيث كانت الأرض مصدر رزق وكرامة، أصبح الحفاظ عليها حلمًا بعيد المنال، فالارتفاع الجنوني لأسعار الأسمدة وشح المياه جعل العديد من المزارعين في مأزق حقيقي، ليضطروا إلى بيع أراضٍ كانت تمثل جزءًا من هويتهم وكرامتهم، وفي المدن، حيث يعتبر التعليم أمل الأجيال القادمة، تحول إلى عبء ثقيل، نتيجة انهيار قيمة الرواتب وتفاقم الأزمة الاقتصادية، وأصبح من المستحيل على كثير من الأسر تأمين احتياجات أبنائها التعليمية، فشريحة كبيرة من الأمهات والآباء، الذين كانوا يؤمنون بأن التعليم هو المفتاح لمستقبل أفضل، وجدوا أنفسهم مضطرين لإخراج أطفالهم من المدارس، رغم أن ذلك يدمّر مبدا لطالما اعتقدوا به. تعليم الأطفال أصبح رفاهية لا يمكن تحملها، وتضاءلت الفرص المستقبلية لهم.
أما قطاع الأعمال، الذي كان يومًا من ركائز الاقتصاد اللبناني، فقد سقط بدوره في فخ أزمة"الفراغ الرئاسي"، حيث لم تعد الشركات الصغيرة والمتوسطة قادرة على الصمود أمام تكاليف التشغيل المتزايدة، ومع ارتفاع أسعار الوقود والمواد الخام، اضطر العديد من رجال الأعمال إلى إغلاق أبواب مصانعهم، بينما انتقل آخرون إلى خارج البلاد بحثًا عن بيئة أكثر استقرارًا، ورغم أن البعض منهم نجح في العثور على فرص جديدة في الخارج، إلا أن الندم على ما فقدوه في وطنهم كان لا يُطاق. تتكرر القصص في عموم لبنان، من أقاصي الريف إلى قلب العاصمة.
في لبنان "الفراغ الرئاسي" ليس جديدا على بلد اعتاد عبر تاريخه المعاصر أن يتأرجح بين المحطات الدستورية المتعثرة والتسويات المؤقتة، ومنذ استقلاله عن الاستعمار الفرنسي في عام 1943، تكررت فترات الفراغ الرئاسي، لكنها لم تكن جميعها على الدرجة نفسها من التعقيد، وتبدو الأزمة الحالية مختلفة، ليس فقط بسبب طول مدتها، بل لأنها تعكس تفاعلا معقدا بين العوامل الداخلية والخارجية التي تحاصر النظام اللبناني من جميع الجهات.
داخليا، يظهر "حزب الله" لاعبا محوريا في الأزمة، مستفيدا من الفراغ لتعزيز قبضته على القرار السياسي والأمني في لبنان، وفي المقابل، تعمل قوى المعارضة جاهدة لتعطيل أي تسوية قد تفضي إلى انتخاب رئيس محسوب على الحزب، ما يخلق دائرة مفرغة من التعطيل المتبادل. وإقليميا، يبدو أن الأزمة اللبنانية جزء لا يتجزأ من خريطة النفوذ في المنطقة، فإيران التي تدعم حزب الله بقوة، ترى في الفراغ فرصة ذهبية لتعزيز نفوذها في لبنان كجزء من استراتيجيتها الإقليمية الأوسع، وتبدى دول عربية تحفظا ملحوظا، إذ تراجعت استثماراتها بشكل كبير، ما يمثل ضربة قوية للاقتصاد اللبناني، الذي كان يعتمد بشكل كبير على الدعم الذي كانت تمثله هذه الاستثمارات في أوقات الأزمات.
دوليا، تتباين المواقف بين المبادرات الفرنسية التي تسعى جاهدة إلى تحقيق استقرار سياسي في لبنان، باعتباره جزءا من المصالح الفرنسية التاريخية في المنطقة، والموقف الأمريكي الذي يبدو أقل تركيزا على الأزمة بحد ذاتها، حيث تُعامل كجزء من مشهد أوسع للصراعات في الشرق الأوسط. بين هذه التفاعلات، يظل لبنان ساحة مفتوحة للتأثيرات الخارجية التي تزيد من تعقيد الوضع بدلا من حله.
تجاوز أزمة "الفراغ الرئاسي" يتطلب أكثر من مجرد انتظار توافق داخلي قد لا يتحقق قريبا. يحتاج لبنان إلى خطوات جريئة تتجاوز التقليد السياسي المعتاد. إحدى الخطوات الممكنة هي إعادة إحياء الحوارات الداخلية بين القوى السياسية للوصول إلى مرشح توافقي يُجنب البلاد مزيدا من الانهيار، ويمكن للبنان استلهام تجارب دول أخرى واجهت أزمات مشابهة، مثل العراق، الذي استطاع تجاوز الأزمات الرئاسية عبر إجراء تعديلات دستورية تُلزم بمهل زمنية صارمة لإنهاء الاستحقاقات الرئاسية.
في هذا السياق، يصبح مشروع تعديل الدستور اللبناني خيارا لا مفر منه لتفادي تكرار الفراغ الرئاسي، يمكن أن يشمل هذا التعديل فرض مهلة زمنية واضحة لإنجاز الاستحقاقات الرئاسية، وربما تعديل آليات التصويت لضمان أن عملية الانتخاب لا تظل رهينة التجاذبات السياسية والطائفية، وفي نهاية المطاف، يتطلب إنقاذ لبنان شجاعة سياسية واستعدادا للتغيير الجذري في الأسس التي يقوم عليها نظامه السياسي، قبل أن تتحول أزماته إلى واقع دائم لا فكاك منه".
تتطلب الأزمة اللبنانية خطوات إصلاحية جذرية للاقتصاد، تبدأ بإعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي كان يوما ما أحد أعمدة الاقتصاد اللبناني، وضبط الدين العام الذي تجاوز الحدود المسموح بها. تقرير حديث لصندوق النقد الدولي أشار إلى أن تحسين النظام المالي اللبناني يشكل أولوية قصوى إذا كان لبنان يرغب في استعادة ثقة المستثمرين وجذب الاستثمارات الأجنبية التي تراجعت بشكل حاد في السنوات الأخيرة. إن تعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة الموارد العامة سيعطي إشارات إيجابية للمجتمع الدولي ويعيد فتح قنوات الدعم المالي الضرورية التي يحتاجها لبنان لتجاوز أزماته الاقتصادية الخانقة.
في المجال الأمني، فإن الانتخابات الرئاسية المقبلة يجب أن تكون نقطة انطلاق لإعادة بناء التنسيق بين الأجهزة الأمنية في البلاد، كون فراغ السلطة في لبنان فتح الباب أمام الميليشيات المسلحة للتمدد وزيادة نفوذها على حساب الدولة، وهو ما يهدد الأمن الداخلي والإقليمي على حد سواء. إعادة الدولة إلى ممارسة دورها السيادي في ضبط الأمن والحد من تأثير هذه الجماعات المسلحة هو أمر لا يمكن التغاضي عنه، وإلا فإن لبنان قد يتحول إلى ساحة للصراعات المفتوحة التي لا تنتهي.
معالجة الأزمة اللبنانية يجب أن تتجاوز الحلول السياسية والاقتصادية وحدها، فهناك حاجة ملحة لتحسين الخدمات الأساسية التي تلامس حياة المواطنين يوميا -التعليم، والصحة، والكهرباء- كأولويات لا يمكن تأجيلها، ولا يكفي أن يكون هناك حديث عن الإصلاحات في الجوانب السياسية والمالية بينما تظل هذه القطاعات الحيوية مهددة بالانهيار، واستثمار الجهود المحلية والدولية في تحسين هذه الخدمات يمكن أن يكون خطوة إيجابية نحو استعادة بعض الأمل لدى اللبنانيين، الذين يعانون من تدهور حياتهم اليومية نتيجة انقطاع الكهرباء، وتدني مستوى التعليم، وانهيار النظام الصحي.
يظل الحل الجذري لأزمة لبنان مرهونًا بإرادة داخلية حقيقية تُدرك أن المصلحة الوطنية يجب أن تكون فوق المصالح الفئوية، فالتوافق السياسي، الذي يعد حجر الزاوية في أي عملية إصلاح، يجب أن يبنى على مبدأ التعاون والتخلي عن المناكفات التي لا تفضي إلا إلى مزيد من التدهور، ومع ذلك، يبقى دعم المجتمع الدولي حيويا، لكنه مشروط بتقديم لبنان لمؤشرات حقيقية على التزامه بالإصلاحات الجذرية التي ستؤدي إلى تغيير ملموس في الوضع السياسي والاقتصادي.
إذا نجح لبنان في تجاوز هذه الأزمة، قد يكون ذلك بداية لمرحلة جديدة من الاستقرار والتنمية، ليعود البلد إلى مكانته الإقليمية والدولية كدولة ذات سيادة ومؤسسات فعالة، قادرة على تحدي الأزمات وتحقيق تطلعات شعبها"، وسط كل ذلك، يحاول المواطن، بعناد غريب، الحفاظ على روتين حياته، كأنه يمارس طقسا صامتا من المقاومة ضد الاستسلام للهاوية.