مع استمرار الصراع بين حزب الله اللبنانى وإسرائيل، تواصل هذه الأخيرة اعتداءاتها المتكررة على مقار بعثة الأمم المتحدة المؤقتة فى لبنان "اليونيفيل"، مطالبةً أفراد البعثة بالانسحاب وإخلاء مواقعهم فى جنوب لبنان، وهو ما يُشكل تعديًا على الأمم المتحدة وتحديًا خطيرًا لقراراتها، وما قد يرتبه ذلك من تداعيات على الاستقرار الإقليمى فى المنطقة وانتشار الفوضى على نطاق أوسع.
قوة الأمم المتحدة المؤقتة فى لبنان.. النشأة والمهام:
فى أعقاب الاجتياح الإسرائيلى لجنوب لبنان فى مارس 1978، أصدر مجلس الأمن الدولى القرار رقم 425، والذى دعا فيه إسرائيل إلى وقف عملياتها العسكريَّة وسحب قواتها فورًا من الأراضى اللبنانيَّة كافة، كما تضمن القرار أيضًا، بناءً على طلب الحكومة اللبنانيَّة، إنشاء قوة دوليَّة مؤقتة، وهى القوة المعروفة اختصارًا بـ "اليونيفيل"، تأخذ على عاتقها مسئولية مراقبة انسحاب القوات الإسرائيليَّة، وتقديم الدعم اللازم لحكومة لبنان لاستعادة سلطتها الفعالة فى المنطقة،بما يضمن إعادة السلام والأمن إلى سابق عهدهما([1])، إلا أنَّ مهمة هذه القوة وولايتها قد طرأت عليها الكثير من التعديلات، نتيجة التغيرات السياسيَّة التى شهدتها لبنان خلال العقود التالية، أهمها جلاء القوات الإسرائيليَّة من الجنوب اللبنانى عام 2000، وعلى إثر ذلك حددت الأمم المتحدة منطقة "خط الانسحاب" التى تمتد لمسافة 120 كيلومترًا على طول الحدود بين شمال إسرائيل وأراضى لبنان الجنوبيَّة سُميت بالخط الأزرق([2])، وعهدت إلى قوة اليونيفيل بمهمة مراقبة هذا الخط لضمان الأمن والاستقرار على طول هذه الحدود الهشة وتجنب حدوث أية استفزازات غير ضرورية.
تليا ذلك اندلاع حرب قصيرة بين الجيش الإسرائيلى وعناصر حزب الله اللبنانى فى يوليو 2006،فأصدر مجلس الأمن، بالإجماع، فى جلسته المعقودة بتاريخ 11 أغسطس من العام نفسه القرار رقم 1701 والذى دعا فيه إلى وقف الأعمال القتاليَّة بين الجانبين، وإنشاء منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطانى، تكون خاليةً من أى جماعات مُسلحة أو معدات عسكريَّة باستثناء ما يخص الحكومة اللبنانيَّة وقوات اليونيفيل التابعة للأمم المتحدة([3])، وبذلك وسّع القرار من ولاية هذه القوة المؤقتة، ليشمل مهمة الانتشار فى المنطقة المذكورة الممتدة بين الخط الأزرق ونهر الليطانى، وأيضًا متابعة وصول المعونات الإنسانيَّة للمواطنين المدنيين، كما رخص القرار لليونيفيل باتخاذ ما يلزم من إجراءات وتدابير فى مناطق انتشارها بما يكفل لها القيام بمهامها على النحو المطلوب. وتنتشر قوات اليونيفيل فى منطقة رأس الناقورة فى جنوب لبنان، ويبلغ قوامها اليوم نحو 10,300 جندى ينتمون إلى 49 بلدًا من الدول الأطراف فى الأمم المتحدة([4]).
الاعتداءات الإسرائيلية.. السياق والدوافع:
بالتزامن مع استمرار حربها على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، اتجهت إسرائيل، منذ سبتمبر الماضى، إلى توسيع نطاق عملياتها العسكريَّة إلى لبنان بهدف تفكيك البنية العسكريَّة لحزب الله.
إلا أنَّ الهجمات الإسرائيليَّة لم تقتصر على المنشآت المدنية اللبنانيَّة أو المواقع العسكريَّة التابعة لحزب الله، بل طالت أيضًا قوة الأمم المتحدة المؤقتة فى لبنان التى صرحت بتعرضها لهجمات متكررة من جانب جيش الدفاع الإسرائيلى استهدفت أبراجًا للمراقبة فى منطقة الخط الأزرق، وأسفرت عن وقوع قتلى وإصابات بالغة فى صفوف عناصرها وتدمير منشآت ومراكز تابعة لها فى منطقة الناقورة([5])، وفى بيان صحفى لليونيفيل بتاريخ 8 أكتوبر 2024، جاء فيه "أقدمت حفارتان وجرافة للجيش الإسرائيلى على تدمير جزء من سياج وهيكل خرسانى فى موقع تابع لليونيفيل فى رأس الناقورة، لكن الجيش الإسرائيلى نفى ذلك وطلب بشكل متكرر مغادرة جنود الأمم المتحدة لمواقعهم بالقرب من الخط الأزرق من أجل سلامتهم"([6])، وترى قيادة اليونيفيل أنَّ هذه الممارسات الإسرائيليَّة ستعوق القوة المؤقتة عن القيام بالمهام المسندة إليها، كما أنها تشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولى والقرار رقم 1701 على وجه التحديد.
وتسعى إسرائيل من وراء هجماتها المتعمدة والمتكررة على مناطق تمركز قوة الأمم المتحدة المؤقتة فى جنوب لبنان إلى تحقيق عدة أهداف متداخلة، يأتى فى مقدمتها محاولة إسرائيل التخلص من أية آلية لرصد انتهاكاتها وأنشطتها العسكريَّة قد تضعها فى موقف حرج أمام حلفائها والمجتمع الدولى،فمن المتعارف عليه أنَّ اليونيفيل هى الجهة المفوضة من الأمم المتحدة لمراقبة خروقات وقف إطلاق النار فى المنطقة الحدوديَّة التى يتضمنها الخط الأزرق، وإبلاغ مجلس الأمن الدولى بوقوع أيَّة انتهاكات عملًا بالقرار رقم 1701، ولذلك تُبدى إسرائيل عدم رضائها عن هذه القوة المؤقتة وتعتبرها عديمة الجدوى، ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل تعتبرها منحازةً لحزب الله وتغض الطرف عن تسليحه وهجماته المتكررة عبر الحدود([7])، ولذلك تعمل تل أبيب على إبعاد هذه القوات ودفعها إلى إنهاء وجودها أو انسحابها إلى الشمال.
من ناحية أخرى، تهدف إسرائيل من هجماتها على أفراد اليونيفيل ومراكزها إلى إجبار البعثة على الانسحاب من المواقع الاستراتيجيَّة التى تريد توسيع غزوها انطلاقًا منها وتدمير معدات الاستطلاع ونقاط المراقبة على طول الخط الأزرق، فى إطار استراتيجية إسرائيليَّة ترمى إلى خلق حقائق جديدة على الأرض، دون وجود قوة مزعجة تعترضها([8]).
يضاف إلى ما سبق، رغبة إسرائيل فى إنشاء منطقة عازلة تدار بطريقة لا تتضمن وجود أى قوات بما فيها قوة الأمم المتحدة -التى ترى إسرائيل أنها لم تمنع حزب الله من القيام بأنشطة عسكريَّة فى بعض المناطق ضدها- لضمان السيطرة الإسرائيليَّة الكاملة عليها([9])، ويدلل على ذلك الطلب الإسرائيلى لقوات اليونيفيل بالتراجع خمسة كيلومترات عن الخط الأزرق. ويعتقد بعض المحللين أنَّ قوات اليونيفيل تحتل الخطوط وطرق النقل الرئيسيَّة فى جنوب لبنان، ما يجعلها أكبر عقبة أمام التقدم السريع لقوات الدفاع الإسرائيليَّة فى المنطقة، ومن ثمّ تحاول إسرائيل إجبارها على الانسحاب عبر تكرار الهجمات عليها.
من مجمل ما تقدم، يمكن القول إنَّ الاعتداءات الإسرائيليَّة على بعثة اليونيفيل ما هى إلا انعكاس لعلاقة إسرائيل العدائية مع الأمم المتحدة، فقد سبق للقوات الإسرائيليَّة أن هاجمت مرارًا مدارس الأمم المتحدة ومراكزها الطبيَّة وعمال الإغاثة التابعين لها، وسبب هذا العداء يرجع إلى الدور الذى لعبته هيئات الإغاثة وحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة على مدى عقود فى حماية الفلسطينيين وتسليط الضوء على الانتهاكات فى ظل الاحتلال الإسرائيلى، ولم تتوان إسرائيل عن مهاجمة الأمم المتحدة واتهامها بالتحيز ضدها، إلى حد وصفها بـ "بيت الظلام" من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو([10]).
التداعيات ومستقبل اليونيفيل:
أثارت الاعتداءات الإسرائيليَّة المتكررة على بعثة اليونيفيل انتقادات دوليَّة واسعة، لاسيَّما من جانب الدول المساهمة فى تشكيل هذه القوات التى أدانت تلك الهجمات وطالبت بتوفير الحماية لعناصرها وتقديم الدعم اللازم لها، كما دعت القوى الأوروبيَّة، كفرنسا وإسبانيا، إلى منع تصدير الأسلحة إلى إسرائيل باعتبار أنْ ذلك هو الوسيلة للضغط على الحكومة الإسرائيليَّة لوقف اعتداءاتها على بعثة الأمم المتحدة وإنهاء الحرب الدائرة فى الشرق الأوسط([11])، كذلك عبَّرت بعض القوى الدوليَّة، مثل روسيا والصين، عن غضبها إزاء الممارسات الإسرائيليَّة بحق بعثة اليونيفيل، محذرةً من تداعيات استمرار هذه الهجمات على الأمن والاستقرار فى المنطقة.
وكان مقررًا انتهاء ولاية قوة الأمم المتحدة المؤقتة فى لبنان بحلول نهاية أغسطس من العام الجارى، إلا أنَّ الحكومة اللبنانيَّة طلبت من الأمين العام للأمم المتحدة، فى رسالة بتاريخ 24 يونيو 2024، تمديد ولاية القوة لفترة مدتها سنة واحدة، مما دعا مجلس الأمن، فى جلسته المعقودة فى 28 أغسطس الفائت، إلى تبنى القرار رقم 2749 والذى أعلن فيه أنَّ الوضع فى لبنان لا يزال يشكل خطرًا على السلم والأمن الدوليين، كما قرر أيضًا تمديد ولاية قوة اليونيفيل حتى 31 أغسطس 2025.
ورغم استمرار الاعتداءات الإسرائيليَّة عليها ونداءات الجيش الإسرائيلى لأفرادها بالمغادرة، إلا أنَّ بعثة اليونيفيل عازمةً على البقاء فى مواقعها، مؤكدةً أنها تمارس مهامها بموجب قرارات مجلس الأمن وهو الجهة الوحيدة المعنية بإنهاء ولايتها. وفى هذا الإطار أعلنت 16 دولةً فى الاتحاد الأوروبى، خلال اجتماعها عبر تقنية الفيديو فى منتصف أكتوبر الماضى، أنَّ أى قرار يتعلق بمستقبل "اليونيفيل" يجب أن يتخذ بالإجماع ضمن إطار الأمم المتحدة، مؤكدةً على أهمية ممارسة أقصى درجات الضغط السياسى والدبلوماسى على إسرائيل لوقف اعتداءاتها على البعثة الأممية([12])، ومن جانبها دعت الولايات المتحدة إسرائيل إلى وقف إطلاق النار على عناصر اليونيفيل والعمل على ضمان سلامة أفرادها.
ختامًا، فإنَّ الاعتداءات الإسرائيليَّة المتواصلة ضد قوات اليونيفيل تعد اعتداءً مباشرًا على الشرعية الدوليَّة وهيئة الأمم المتحدة ذاتها، وقد تحفز تلك الممارسات العدوانيَّة أطرافًا أخرى للقيام بهجمات مماثلة ضد بعثات الأمم المتحدة الأخرى للسلام المنتشرة فى مناطق النزاع حول العالم، ولذلك ينبغى على المجتمع الدولى تكثيف ضغوطاته على الحكومة الإسرائيليَّة لكف هجماتها، بل وتعزيز قوة اليونيفيل وتوسيع صلاحياتها بما يُمكنها من الدفاع عن أفرادها فى وجه الاعتداءات الإسرائيليَّة.
المراجع:
[1]- قرار مجلس الأمن رقم 425 (1978 )، الصادر في 19 مارس 1978.
[2]-It's time to talk about the Blue Line: constructive re-engagement is the key to stability, United Nations Peacekeeping, 5 Mar 2021,Available on:https://2u.pw/KzF73t4i
[3]- قرار مجلس الأمن رقم 1701 (2006)، الصادر في 11 أغسطس 2006.
[5]- "لبنان.. يجب إجراء تحقيق أممى فى الهجمات الإسرائيلية على اليونيفيل"، هيومن رايتس ووتش، 11 أكتوبر 2024، متاح على https://2u.pw/NH8J1fGJ
[7]- عائشة البصرى، "الهجوم الإسرائيلى على بعثة اليونيفيل.. أسبابه وأبعاده"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سلسلة تقييم حالة، 3 نوفمبر 2024، ص7.
[8]-Albert Trithart, "What Is Behind Israel’s Deliberate Attacks on UN Peacekeepers in Lebanon? An Interview with KarimMakdisi", Global Observatory,Available on:https://2u.pw/ys67dhHn
[9]- نجية دهشة، "الأهداف الإسرائيلية وراء استهداف قوات يونيفيل فى لبنان"، الجزيرة، 11 أكتوبر 2024، متاح على https://2u.pw/5tuwtaXw
[10]-What is Unifil and why has Israel been firing on its positions in Lebanon?, The guardian, 15 Oct 2024,Available on:https://2u.pw/lvBS49m9
[11]- أسماء عادل، "لماذا تستهدف إسرائيل قوات حفظ السلام الأممية “اليونيفيل” الموجودة فى جنوب لبنان؟"، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 20 أكتوبر 2024، متاح على https://2u.pw/dICDYnOW