لم تكن الانتخابات الأمريكية التي جرت مؤخرا كسابقاتها بل حبس الجميع أنفاسهم داخليا وخارجيا أمام السباق المحتدم والاستثنائي، وأظهرت تلك الانتخابات أنها تمثل أبرز حدث سياسي واقتصادي على المستوى العالمي، حيث تؤثر نتيجتها على الأمريكيين وكذلك على صراعات العالم، وحروبه واقتصاده، وعلى معيشة الناس وأزماتهم أو رفاهيتهم. وقد شبه البعض عودة ترامب إلى البيت الأبيض بطائر الفينيق الذي انبعث من الرماد. وقال آخرون إن التاريخ يعيد نفسه في انتخابات بنكهة هوليودية. وتوقع الجميع تغييرات واسعة، وربما جذرية، في السياسة الداخلية وفي علاقات الولايات المتحدة الأميركية مع كثير من دول العالم، ومنها الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط؛ وفي حين يشير البعض إلى إمكانية الاستفادة من رئاسة ترامب لتوثيق مصالح بعض الدول، يرى البعض الآخر أن هناك تحديات جسيمة في انتظارها من أجل التكيف مع تداعيات سياساته. وبالتالي، ستشهد السنوات الأربع المقبلة بلا شك إعادة حسابات داخليا ودوليا.
على المستوى الداخلي، يعد فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية إحياء لآمال الأمريكيين في خفض التضخم وتحسين مستوى المعيشة والحد من الضرائب والبطالة وخلق فرص عمل. كما أنه جرس إنذار للمهاجرين غير الشرعيين.
تحسين مستوى المعيشة للأمريكيين:
تنتظر طبقات عريضة وسطى وفقيرة من الأمريكيين الذين منحوا أصواتهم للرئيس ترامب أن ينفذ الأخير وعوده بتحسين دخولهم المنخفضة والحد من الارتفاع الجنوني لأسعار المعيشة. وأشار مركز أبحاث أديسون إلى أن حوالي 31% من الناخبين قالوا إن الاقتصاد هو قضيتهم الأولى، وصوتوا لصالح ترامب بنسبة 79% مقابل 20% للمرشحة الديمقراطية. كما كشفت نتائج استطلاعات المركز أن نحو 45% من الناخبين في جميع أنحاء الولايات المتحدة قالوا إن الوضع المالي لأسرهم أصبح أكثر سوءا مما كان عليه قبل أربع سنوات، وفضلوا ترامب بنسبة 80% مقابل17% لمنافسته هاريس التي كانت تمثل في نظر العديد من الأمريكيين امتدادا لبايدن في ضعفه وأزماته والتي كانت عناوينها الكبرى التضخم وارتفاع الأسعار وتدهور الأحوال الاقتصادية. لذلك، استطاع ترامب أن يدغدغ آمال الأمريكيين ويجسد التغيير الذي ينشدوه الآن وبفارغ الصبر. وقد وعدهم ترامب بتطبيق السياسات الحمائية لتشجيع الصناعات المحلية وإنعاش الاقتصاد وذلك بفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 60% على البضائع الصينية المتهمة بإغراق الأسواق الأمريكية. في المقابل، تعهد ترامب بخفض الضرائب على الأمريكيين وبناء أسوار شاهقة لمنع دخول المهاجرين غير الشرعيين المتهمين بخلق أزمات اجتماعية وفوضى في المجتمع الأمريكي. لا شك أن مثل هذه القرارات قد يتضرر منها العديد من دول العالم، غير أنها بالنسبة للأمريكيين الذين ساندوا ترامب بمثابة القرارات العلاجية للتضخم والغلاء والبطالة ووقف موجات المهاجرين غير الشرعيين، خاصة القادمين من الحدود عبر المكسيك.
مخاوف المهاجرين:
يتخوف المهاجرون في المقابل من تنفيذ الرئيس ترامب تهديداته، عندما أكد أنه سيحشد الوكالات في مختلف أنحاء الحكومة الأمريكية لمساعدته في ترحيل أعداد قياسية من المهاجرين، وهي عملية قدّر جي دي فانس، نائب ترامب في الانتخابات، أنها يمكن أن تؤدي إلى ترحيل مليون شخص سنويًا من خلال الاستفادة من جميع الموارد المتاحة والضغط على ما يسمى بسلطات "الملاذ" القضائية لطرد المهاجرين.
ترامب الذي يبلغ (78 عاما) هو أكبر مرشح رئاسي يتم انتخابه على الإطلاق وأول رئيس يفوز بفترات غير متتالية منذ أكثر من قرن وأول رئيس سابق أدين جنائيا. وقد أعلن بعد فوزه مباشرة في الانتخابات الرئاسية أن "أمريكا منحته تفويضا قويا وغير مسبوق"، وهو بذلك يفتح لنفسه الطريق بهذا التفويض لتنفيذ سياسات مثيرة للجدل يعتبرها المدافعون عن المهاجرين "غير إنسانية". ويحذر هؤلاء من أن جهود ترامب لترحيل الملايين من المهاجرين ستكون مكلفة ماديا لحاجتها للمزيد من الضباط وأماكن الاحتجاز وقضاة محاكم الهجرة، ومعنويا لتسببها في انفصال الأسر وتدمير المجتمعات. كان مجلس الهجرة الأمريكي، وهو مجموعة ضغط لمناصرة للمهاجرين، قد أحصى تكلفة ترحيل 13 مليون مهاجر في الولايات المتحدة بشكل غير قانوني بمبلغ 968 مليار دولار على مدى العقد الماضي. وقال توم هومان، القائم بأعمال المدير السابق لإدارة الهجرة والجمارك الأمريكية (ICE) والذي من المتوقع أن ينضم إلى الإدارة الجديدة، في مقابلة مع وكالة رويترز للأنباء أجريت معه في أواخر أكتوبر الماضي، إن حجم عمليات الترحيل سيتوقف على الضباط المحتملين ومساحة الاحتجاز. وقد أعلن اتحاد الحريات المدنية الأمريكي وجماعات الدفاع عن المهاجرين في بيان نشرته مؤخرا وسائل إعلام أمريكية أنه بصدد الاستعداد لمعارك قضائية إذا اختبر ترامب حدود سلطته القانونية مرة أخرى. وقال ليجيليرنت، محامي اتحاد الحريات المدنية الأمريكي الذي قاد المعركة ضد سياسة ترامب المثيرة للجدل لفصل الأسرة، إن أكثر من 15 محاميًا ركزوا على الهجرة مع المكتب الوطني للمنظمة أمضوا العام في الاستعداد لاحتمال عودة ترامب.
ويشير مراقبون إلى أن ترامب فهم طبيعة الأمريكيين "البراجماتية"؛ فهم لا يريدون إصلاحا شاملا للهجرة -كما طرحت هاريس في حملتها الانتخابية- بل هم بالأحرى يريدون منع المتسللين من تجاوز الحدود وترحيل أولئك الذين يقيمون بدون أوراق رسمية وينغصون عليهم حياتهم وفقا لعبارات ترامب نفسه. كما يوضح مراقبون أن هذا الخطاب لم يجلب على ترامب حنق الأمريكيين من أصول لاتينية أو غير أمريكية، لأن رؤية هؤلاء الذين ينعمون بالجنة الأمريكية بعد أن كانوا هم أنفسهم مهاجرين تختلف عن أولئك الذين لازالوا يتطلعون للعيش بشكل قانوني في الولايات المتحدة وليست لهم أصوات في الانتخابات.
وقف الحرب في أوكرانيا والشرق الأوسط :
يرى أنصار ترامب في داخل الولايات الأمريكية وخارجها في مختلف دول العالم التي تعاني الحروب والصراعات أن الرئيس العائد للبيت الأبيض هو الشخص المناسب حاليا والذي يحتاجه هذا العالم المضطرب المليء بالنزاعات. ويرون أن ترامب بمقدوره إنهاء "الورطة" الأمريكية وتدخلها في الحرب إلى جانب أوكرانيا ضد روسيا وما كلفته الخزانة من مليارات الدولارات. كما أن علاقة الصداقة التي تربطه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد تجد له وللأمريكيين حلا مشرفا لكيفية الخروج من أوكرانيا. وفي المقابل، لن يكون غريمهما زيلينسكي مستقبلا بنفس التعالي، أو ربما الغرور، في طلب المساعدات الغربية. أما دول الناتو فستجد نفسها بدون الغطاء الأمريكي الذي ورطها في دعم غير محدود لأوكرانيا وستركز على إعادة صياغة علاقتها بالرئيس الأمريكي من جهة وسيف الأحزاب الشعبوية داخل بلدانها التي استقوت أنفاسها من جديد بعد فوز حليفها ترامب من جهة أخرى. وهذا سيؤدي بدوره إلى تغييرات كبرى منتظرة بالدول الأوروبية، خاصة ألمانيا وفرنسا في ضوء عدم رغبتهما السابقة في إعادة انتخاب ترامب. كذلك الشأن في إيران، فهي لا ترحب على عكس صديقتها روسيا بفوز ترامب لكن الأخير الذي لا يرغب في الحروب قد يستمر في نهج العقوبات والحرب الباردة. أما في الشرق الأوسط فقد يستدعي ترامب ذكريات سيئة خلفها باراك أوباما على العلاقات مع الشركاء العرب ويسعى لاستئناف صفقاته المعهودة. ويتوقع أنصار ترامب من الجانبين أنه قادر على فرض حلا في الشرق الأوسط ويرون أن علاقته المباشرة والقوية بزعماء المنطقة تمكّنه من عرض أوراق كثيرة والتنسيق معهم في كيفية استثمارها على النحو المرضي لعديد الأطراف، سواء لإنهاء الحرب على غزة أو وقف الحرب على لبنان، حتى لو كان غير مرض لجميع الفلسطينيين ويراه كل من حزب الله وإيران مجحفا. ولا ينتظر انتهاء الصراع العربي الإسرائيلي خاصة إذا كان الكيان المحتل قادرا على توسيع حدوده ومستوطناته بالقوة في ضوء إشارات خضراء من حليفه الجمهوري ترامب. أما الشعوب العربية والمسلمة فلم تكن تتوقع من أي رئيس أمريكي، جمهوريا كان أو ديمقراطيا، إلا حليفا للدولة العبرية بامتياز. لكنها ستميل غالبيتها لترامب فيما يخص دفاعه عن القيم الدينية والأسرية ومناهضته للمثلية الجنسية والإجهاض.
وهكذا فمن الواضح أن ترامب سيعيد ترتيب الكثير من الملفات الداخلية والخارجية وسيستخدم فوزه المدوي وثقته في نفسه وأنصاره للتأثير بشكل أكبر على مجريات الأحداث مقارنة بولايته السابقة.