مقالات رأى

"معضلة السجين".. ديناميكيات العلاقة بين الهند وباكستان

طباعة

جدير بنا عند التطرق إلى "معضلة السجين" بين الهند وباكستان ألا نتجاهل الجانب التاريخى عند تحليل خصوصيات العلاقات الثنائية بين البلدين، حيث إن أغلب المشكلات تكمن فى الأحداث التاريخية التى جرت بينهما، ولذلك فمن الضرورى مراجعة النقاط الرئيسية التى أثرت على الوضع الراهن.

فبعد استقلال شبه القارة الهندية فى عام 1947، نشبت العديد من الحروب والاشتباكات المسلحة فى منطقة الحدود الهندية-الباكستانية. وعلى الرغم من اتفاقية شيملا لعام 1972 التى تؤكد التزام الأطراف بتطبيع العلاقات وتعزيز السلام والأمن فى جنوب آسيا، إلا أن الهند وباكستان لعدة سنوات منذ منتصف الثمانينيات، انخرطت جيوشهما فى مبارزات جوية، أو مدفعية شبه يومية فى الطرف الشمالى من الحدود مع الصين حول الملكية المتنازع عليها لنهر سياتشن الجليدى فى أعلى جبل سياتشن عند سفوح نهر كاراكورام. وحتى عام 1983، كان وجود باكستان والهند يقتصر على الحد الأدنى من الوحدات العسكرية فى منطقة الإقليم المتنازع عليه "كشمير".

تأثير العامل النووى:

فى عام 1999، عُقد إعلان لاهور بين الهند وباكستان الذى تعهدت فيه كل منهما"باتخاذ تدابير فورية للحد من خطر الاستخدام العرضى أو غير المصرح به للأسلحة النووية ومناقشة المفاهيم والمبادئ بهدف تطوير عملية بناء الثقة لمنع الصراع باستخدام الأسلحة النووية أو التقليدية".

وفى الفترة من 19 إلى 20 يونيو 2004، عُقدت فى نيودلهى مشاورات بين الهند وباكستان حول تدابير بناء الثقة فى المجال النووى. وتضمنت الاتفاقات التى تم التوصل إليها خلال المشاورات وقف التجارب النووية والسعى للحد من مخاطر الصراع المسلح. واقترحت الهند حينها عقيدتها النووية التى تتلخص فى أنها"لن تكون أول من يبدأ باستخدام الأسلحة النووية"، ولكن باكستان رفضت إعلان تبنى تلك العقيدة حيث إن العقبة الرئيسية أمام الحوار بشأن الأسلحة النووية، بعيدا عن القضايا الإقليمية التى لم يتم حلها، تتلخص فى مخاوف باكستان بشأن الحشد العسكرى الهندى والتعاون مع الولايات المتحدة وإسرائيل. وعلى وجه الخصوص تقوم الهند بشراء الأسلحة والمعدات العسكرية الإسرائيلية بقيمة عدة مليارات من الدولارات.

وبالنسبة للهند، فإن امتلاك الأسلحة النووية، بالإضافة إلى تخويف باكستان، له أهداف أخرى: جيوسياسية (احتواء الصين) وزيادة هيبة البلاد. والعنصر الأخير له أهمية أيضًا بالنسبة لباكستان: فالأسلحة النووية هى مصدر فخر لإسلام آباد فهى تحسن بشكل كبير صورتها أمام العالم الإسلامى (حيث يطلق على القنبلة النووية الباكستانية اسم القنبلة النووية الإسلامية) التى بدأ البرنامج النووى العسكرى لها فى عام 1972. وعلى النقيض من الهند، كانت الأسلحة النووية الباكستانية تحت سيطرة الجيش منذ البداية، واليوم، يعتبر الخبراء أن جنوب آسيا منطقة محاطة بخطر الصراع المسلح باستخدام الأسلحة النووية.

وفى سياق تفعيل قوى التطرف الدينى والعرقى والإرهاب، فإن احتمال حصولها على أسلحة الدمار الشامل يشكل تهديدا كبيرا إلى حد ما، وتتعلق المخاوف أكثر بباكستان كدولة ذات سياسة داخلية غير مستقرة بسبب المشكلات الداخلية المعقدة، وقربها من أفغانستان والمواجهة مع الهند. لكن التطرف وزعزعة الاستقرار قد يترافق مع تطورات الوضع ومع تعزيز مواقع الإرهابيين الإسلاميين المختبئين فى باكستان وعلى حدودها مع أفغانستان (أتباع القاعدة، الحركة الإسلامية فى أوزبكستان، الانفصاليون من الشيشان، شينجيانغ). ومع ذلك، فإن السيناريو الكارثى الذى ينطوى على استخدام الأسلحة النووية أمر غير وارد على الرغم من حرمان السلطات الباكستانية من القدرة على السيطرة الكاملة على أراضيها.

وبتقييم العلاقة المعقدة بين الدولتين يمكننا أن نستنتج أنها حاليا مثال على المعضلة الأمنية. وهنا نحاول تحليل الصراع من وجهة نظر "معضلة السجين"، وهى لعبة بين لاعبين.

1- قضية كشمير ومعضلة السجين:

يمكن تحليل العلاقات بين الهند وباكستان والتى كانت فى حالة صراع منذ إنشاء الدولتين فى عام 1947، باستخدام "معضلة السجين" الكلاسيكية. فهما يعملان على زيادة قوتهما العسكرية وإمكاناتهما النووية، لكنهما لا يستطيعان ضمان النصر الكامل على بعضهما البعض.

والصراع الإقليمى حول كشمير لا يشكل التناقض الأساسى بين الهند وباكستان، ولكنه غالبا ما يتم تقديمه باعتباره العامل السلبى الرئيسى فى العلاقات الثنائية فى الوعى المشترك (وفى العديد من الدراسات). علاوة على ذلك، إلى جانب الهند وباكستان، من الضرورى أن نأخذ فى الاعتبار مصالح الجهات الفاعلة الأخرى، مثل روسيا، والصين، والولايات المتحدة الأمريكية، والمنظمات الدولية، والمنظمات غير الحكومية التى تعتبر أدوارها مهمة أيضًا فى اتخاذ القرارات النهائية.

واستنادًا إلى نظرية اللعبة، يمكننا القول إن الهند وباكستان لديهما استراتيجيتان مماثلتان للتين كانتا لدى الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى خلال الحرب الباردة: بناء القدرات النووية أو تقليل الرءوس الحربية النووية.

وعند تحليل الاستراتيجية المهيمنة كفرصة للاعب للحصول على فوز أكبر هو ما يلى. إذا اعتقدت باكستان أن الهند سوف تختار"البناء العسكري"، فإنها سترفع نفقاتها إلى الحد الأقصى من أجل اختيار"البناء العسكري"أيضا. ولكن حتى لو أدركت باكستان أن الهند تختار تخفيض"البناء العسكرى"، فإنها أيضا سوف تعمل على زيادة قدراتها النووية. الشىء نفسه ينطبق على الهند التى ستبنى قدراتها النووية بغض النظر عما تختاره باكستان. لذا فإن اختيار كليهما هو "البناء"، وهو ما سيعطى كلا منهما نوعا من "التأمين" ضد أى تصرفات للخصم (الاستراتيجية المهيمنة). ومع ذلك، فإن هذه النتيجة ليست الأفضل بأى حال من الأحوال. فإذا تمكنا من الاتفاق على خفض عدد الرءوس الحربية النووية، والاقتصار على الأسلحة التقليدية كجزء من أمنهما الخاص، فإن كلا منهما قد يستفيد إلى حد كبير من خلال توجيه الإنفاق إلى مجالات أخرى وإعطاء الأولوية للاستقرار والسلام. والمشكلة الرئيسية فى هذه "المعضلة" هى أنه إذا تم التوصل إلى مثل هذه التسوية، فإن كل طرف سيكون لديه الحافز لخداع الطرف الآخر وخرق الاتفاق. على سبيل المثال، إذا أدركت باكستان أن الهند لا تعمل على خفض عدد الرءوس الحربية النووية كجزء من الاتفاقية، فسوف يكون لها مصلحة فى زيادة عدد الرءوس الحربية وانتهاك الاتفاقية. ثم سوف تصبح هى المهيمنة مرة أخرى، وعلى نحو مماثل، سيكون للهند أيضًا مصلحة مماثلة. وفقط عندما تجد كلتا الدولتين نفسيهما فى توازن، فلن يكون أى منهما مهتما بتغيير استراتيجيته.

وهذا ممكن فقط إذا كانت كل دولة على ثقة تامة من أن الطرف الآخر يتصرف حصريًا وفقًا للاتفاقيات. تظل القوة النسبية للدول ثابتة. وفى الوقت نفسه، يقومون بتوفير الأموال التى سيتم استخدامها لأغراض أخرى -غير عسكرية. وإذا انتهك أحد الطرفين الاتفاقية، فإن منافسه سوف يرد على الفور بشكل مناسب، وإذا كانت الدول مهتمة بالسلام، فإنها لن تعتبر مثل هذا السلوك مفيدًا ولن تنتهك أبدًا الاتفاق الذى تم التوصل إليه. فإذا اعتقد كل منهما أن الآخر سيتصرف كما يعامل، وأن ذلك سيعاقب عليه بنوع من"العقوبات"، فإن كليهما سيختار التقليص فى كل فترة، ولن يكون لدى أى منهما أى سبب لتغيير افتراضاتهما بشأن الوضع.

ولسوء الحظ بالنسبة لباكستان: فإن الاستراتيجية السائدة هى"التعزيز"، والاستراتيجية الأقل تفضيلا قد تكون استراتيجية أحادية الجانب لخفض الأسلحة، لأنها تهدد أمن البلاد. والوضع مع الهند مماثل أيضا، حيث يأخذ فى الاعتبار أيضا العوامل الخارجية.

ففى عام 2014، أجبر الخلاف مع الهند باكستان على إنفاق نحو 50 مليون روبية يوميا، وهو ما يكفى، على سبيل المثال، لمضاعفة تكاليف الرعاية الصحية تقريبا. ومن المهم تسليط الضوء على عامل آخر هو عدم وجود آلية تسمح للطرفين بالتوصل إلى تسوية وتعاون. كما أن الطبيعة الفوضوية للنظام الدولى تخلق حوافز للمشاركة فى سباق التسلح ولا تسمح لهما بالتوقف.

2- تطور التعاون الإقليمى لجنوب آسيا:

إن التعاون والتكامل الاقتصادى من الممكن أن يكون له تأثير إيجابى على العلاقات الهندية الباكستانية. والمشاريع الاقتصادية المشتركة أيضا لها التأثير نفسه. وهكذا، وقعت الدولتان فى عام 2012 اتفاقيات تعاون بشأن عدد من القضايا التجارية. ولكن من المؤسف أن موقف باكستان يحد بشكل كبير من التأثير الإيجابى للنظام الاقتصادى، وفى الوقت نفسه تطالب الهند أن يؤدى النهج البنائى إلى تغيير فى الاستراتيجية -وهذا فى الواقع دحض للصور النمطية وابتعاد كل دولة عن صورة العدو- وينبغى استبعاد الخطاب القومى عند مناقشة مسألة الانتماء الإقليمى لكشمير. وتعتبر الاتصالات غير الرسمية بين الأطراف المتصارعة من أهم آليات وقف تصعيد النزاع، لأنها تسمح ببناء الجسور على المستوى الشعبى، وزيادة الثقة وتعزيز التفاهم المتبادل و يمكنهم المساعدة فى التغلب على المخاوف الخاطئة وغير المعقولة، وكذلك إزالة صورة العدو من الأذهان.. ومن المهم العمل على تحسين العلاقات بين الشعوب وحمايتها من الاستفزازات الحكومية، وهذا دور القوى الناعمة فى مجال الموسيقى، والسينما، والفن، والأدب، ووسائل الإعلام حيث لها دورها فى القضاء على الصور النمطية والأحكام المسبقة. ولكن سيكون من السذاجة أن نتوقع أن تؤدى زيادة الاتصالات على المستوى الشعبى إلى تجنب المشكلات الإقليمية. فعلى الأرجح أن هذا لن يؤدى إلا إلى إعدادهم للحوار، حيث إن المواجهات الدينية جعلت الهند وباكستان رهينتين لانعدام الثقة المتبادلة بينهما. لذلك، ليس فقط هيكل العلاقات، على غرار"معضلة السجين"، ولكن أيضًا المصالح المحلية لا تسمح لهم باتخاذ خطوة نحو العمل المشترك. ويتم التعبير عن ذلك فى الإحجام عن إعادة النظر فى وجهة نظر لم تتغير منذ عقود بسبب الأفكار المتناقضة والمعتقدات. فضلا عن تنظيم الهجمات الإرهابية، مما يؤدى إلى التراجع حتى عند محاولة التوصل إلى اتفاق بشأن عدد من القضايا. والعقبة فى طريق حل "معضلة السجين" فى حالة الدول المعنية هى الخوف من عدم وجود الثقة، ورغم أنهما يدركان (أى الهند وباكستان) أن التعاون قد يكون الحل الأفضل. ومع ذلك، فإن الحقائق التاريخية المتعلقة بسياسات الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى خلال الحرب الباردة تشير إلى أن بناء القدرات النووية هو نهج غير عقلانى. وإدراكًا لذلك بدأت الدولتان فى الاتفاق على خفض أسلحتهما النووية.

وعلى الرغم من أن الطريق إلى السلام قد يكون محفوفا بالمخاطر وصعبا للغاية، ولكن الوقت قد حان، والذى لم يعد فيه سباق التسلح فعالا. وأيضا لحل "معضلة السجين" فى حالة الهند وباكستان، فإن المستوى الإقليمى بما فيه من مؤسسات تتضمن التعاون المشترك، والاتصالات الفردية، وتوسيع التعاون الاقتصادى المتبادل المنفعة يشكل أهمية بالغة.

وأخيرا تظل المشكلة الرئيسية للعلاقات الدولية هى مشكلة التعاون. وتؤكد معضلة السجين على أن التسوية والتعاون من الفوائد التى يمكن أن يجنيها الطرفان، ومع ذلك، فإنه يعنى ضمنا مشاركة اثنين من الجهات الفاعلة، باستثناء الآخرين من الجهات الخارجية (القوى العالمية والمنظمات الدولية والإقليمية)، والداخلية (الشعوب والمنظمات غير الحكومية) حيث يجعل الوضع مثاليا إلى حد ما. ومن ثم تحتاج الدول إلى مجموعة من الإجراءات لتقليل احتمالية نشوب صراع نووى فى شبه القارة الهندية إلى الحد الأدنى وكسب ثقة العالم، أهمها تحقيق الاستقرار فى المنطقة، فمن الضرورى أن نضمن عدم قيام باكستان بإدراج الاستخدام الأول للأسلحة النووية فى عقيدتها العسكرية، كما فعلت الصين والهند.

وأشير إلى أنه على الرغم من العلاقات المتناقضة بين الهند وباكستان، إلا أنهما اليوم فى حالة إيجابية نسبيًا. ومن الجدير بالذكر أن النخب السياسية توقفت خلال خطاباتها عن استخدام لغة قاسية فيما يتعلق ببعضها البعض. والحقيقة المهمة هى أنه فى تفاعلهم هناك العديد من نقاط الاتصال فى المجال العسكرى والاقتصادى ومكافحة التطرف والإرهاب والتجارى. وهذا يوفر سببًا لمزيد من التكامل النشط، لكنه لم يؤدِ إلى حالة السلام الكامل حيث لا تزال قضية كشمير تبطئ كل المبادرات الإيجابية وتحفز الجانبين على تعزيز القدرات الدفاعية وتطوير البرنامج النووى وهو ما يوحى بتأجج الصراع فى المستقبل.

مصادر:

1- پاکب ھارت تعلقات، د. محمد عارف، 1972-1982، لاهور 1992.

2- Pakistan and Asian Peace, New Delhi, Patriot publisher, 1985.

 


 

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. منى حندقها أحمد

    د. منى حندقها أحمد

    أستاذ الدراسات الهندية-الباكستانية