تلعب المناظرات الانتخابية دورها فى الدفع بحظوظ المرشحين أو حتى بالعكس فى تراجع أسهمهم ، كونها تعد فى مقدمة مرجعيات الرأى العام ، حيث تسهم فى إلمام الناخب بقناعات هؤلاء المرشحين وتوجهاتهم، وعبر تسليط الضوء على البرامج والإستراتيجيات المستهدفة، سيما ما تعلق بالقضايا العالقة والإشكاليات المزمنة تحديدا المرتبطة بالداخل الوطنى، وأزمات المواطن أو بمعنى أدق الناخب، والذى يمثل الطرف الأكثر فعالية وأهمية بالعملية الانتخابية، وإن كانت العملية الانتخابية الأمريكيةمختلفة و معقدة من بين الأنظمة الانتخابية بمختلف دول العالم، على عكس النظم البسيطة، التى يخرج فيها المواطن أو الناخب من أجل الإدلاء بصوته بشكل مباشر، و من ثم اختيار مرشحه، نجد نظام الانتخاب الأمريكي مبتعدا عن هذه البساطة و مسجلا عدة خطوات و إجراءات مركبة و معقدة ، وهو ما اعتدنا تسليط الضوء عليه بشكل موسمى، وكلما اقتربت الانتخابات الأكثر تأثيرا حول العالم.
بداية يتوجه الناخب الأمريكى من أجل التصويت، ومنح صوته لأحد الوكلاء_ أعضاء المجمع الانتخابى_ و ليس لإعطاء صوته على نحو مباشر للمرشح الرئاسى، ذلك لأن الاقتراع الأمريكى فى انتخابات الرئاسة، هو اقتراع عام غير مباشر، يستند لما يعرف بالمجمع الانتخابى، أى مجموعة من الأعضاء قد يبلغ عددهم 538 عضوا أو مندوبا، لكل ولاية عدد معين من هؤلاء، يتحدد طبقا لمقاعدها بالكونجرس " مجلسى النواب و الشيوخ "، و لكى يتمكن المرشح الرئاسى من الفوز، لا بد أن يحصل على الغالبية المطلقة من أصوات المجمع الانتخابى أو ما يعرف أيضا بالهيئة الناخبة، و هو ما يعادل 270 صوتا من إجمالى 538 صوتا، و ليس أكثرية الأصوات الشعبية فى الولايات، بمعنى آخر ..أن حصول المرشح على أى عدد من الأصوات الشعبية فى الولايات المختلفة، لا يتيح له الفوز، حتى و إن تجاوز منافسه محققا الأغلبية المطلقة، فالفيصل فى هذه العملية المعقدة، هو مقدار ما يحصل عليه المرشح من أصوات المجمع الانتخابى .
طبيعة المناظرات الأمريكية:
ربما المناظرات الأمريكية طالما عٌرف عنها مدى مساهمتها وبشكل فعال، فى توجيه الناخب الأمريكى وتحديد اختياراته، ومن ثم إما الدفع بحظوظ المرشحين أو حتى تراجع مواقفهم، فكلما ازدادت سخونة الانتخابات وارتفعت حدة المنافسة، اتجهت الأنظار إلى هذه الآلية فى التعويل عليها لإيضاح المشهد والوقوف على مفرداته، غير أن هذه المناظرات نفسها مؤخرا لم تتمكن من أداء مهمتها الرئيسية والتعريف بالمرشحين وبرامجهم، خصوصا مع بروز نوعية غير معتادة من المرشحين، اعتبروا وجوها جديدة على الشاشة السياسية الأمريكية، ولعل أبرزهم ترامب المرشح الجمهورى والرئيس السابق الأكثر إثارة للجدل، وربما الذى استطاع تحويل مضامين هذه المناظرات من برامج مهمة وخطط واستراتيجيات وغيرها، إلى تراشق بالألفاظ والاتهامات، وربما دفع بالعديد من منافسيه إلى هذه النوعية من السجالات فى مقدمتهم المرشحة الديمقراطية هيلارى كلينتون (انتخابات2016) ، أيضا المرشح الديمقراطى والرئيس الحالى جوبايدن، والذى تراجعت أسهمه عقب مناظرته بايدن، وحينما تمكنت منه عوامل السن والشيخوخة، لتأتى هاريس لتغير قواعد اللعبة.
معايير التقييم:
لم تختلف كثيرا المناظرة التى جمعت المرشحة الديمقراطية ونائبة بايدن "كامالا هاريس"، ودونالد ترامب، عن المناظرات التى اعتمدها ترامب مع منافسيها، إلا أن هاريس سعت إلى تصدر المشهد بديلا عن ترامب، بل وتقلد دوره الهجومى، وهنا يمكن إجراء تقييم المناظرة الأخيرة على أساس معيارين:
معيار شكلى: يبدو أن هاريس قد تدربت جيدا قبيل المناظرة، وهى التى أثبتت عدم قدرتها علي إجراء المناظرات، ما برز إبان المناظرات التمهيدية، حينما أجرتها بينما كانت تستعد كنائبة لبايدن، على العكس تدربت بشكل جيد فى محاكاة حقيقية قبيل مناظرة ترامب، خصوصا أن هاريس فى احتياج لإقناع فصيل كبير من الأمريكيين لا يزالون لا يعرفونها، وبحسب استطلاع أجرته نيويورك تايمز أن أكثر من 30% يشعرون بالحاجة إلى معرفة أكثر عن المرشحة الديمقراطية، ومنه مكنتهاالمحاكاة الحقيقية من اللعب على الجانب الاستعراضى عبر انتهاجها سياسات الهجوم، وإلحاق التهم بالخصم، تحديدا فيما تعلق بالملفات الجدلية وأبرزها ملفات الرعاية الصحية، والتنقيب عن النفط، أيضا أمن الحدود وغيرها، ومن ثم تحول ترامب صاحب الشخصية الهجومية إلى الدفاع عن نفسه بإبراز عناصر قوته وخططه وتوجيه الحديث ناحية الاقتصاد والهجرة، وهنا تمثل الأداء فى الهجوم بالاتهامات والدفاع عبر إزاحتها، وربما ثقته بنفسه الزائدة وامتناعه عن التدريب، خصوصا أنه سبق واجتاز أكثر من سبع مناظرات، وعليه ظهر بهذا الأداء الضعيف، على عكس ما كان متوقعا
معيار موضوعى: خلال هذا المعيار يُطرح تساؤل مهم، هل نجحت المناظرة فى توجيه الرأى العام، ودفعه إلى خَيار بعينه؟ أو بمعنى أدق، هل تمكن أحد المرشحين من حصد فصيل بعينه، أو حتى من تغيير وجهة نظر فئة أمريكية معينة؟ الحقيقة فإن المناظرة لم تستطع إحداث أى من هذه التغييرات، حتى إن استطلاعات الرأى رجحت أن 4% فقط من الأمريكيين من تفاعلوا وعدلوا فى اختياراتهم عقب هذه المناظرة.
المناظرة استعرضت مجموعة من القضايا الخلافية بين الجانبين، لم يفصل أي مرشح من المرشحين فى أى قضية من بينها، بل زد على ذلك انتهج المرشحان عدم الوضوح، الاقتصاد تحديدا شكل الملف الأكثر إثارة، خصوصا أن ترامب اعتمد فيه على خلفيته كرجل للمال والأعمال، أيضا بعض التغييرات الاقتصادية والتى اعتمدها خلال حقبته 2016_2020 وربما التى استمرت مع مجئ بايدن، وأهمها استمرار السياسات الاقتصادية الأمريكية تجاه الصين، إلا أن هاريس عددت للمرشح الجمهورى بعض الإخفاقات الاقتصادية والتى عاصرتها الولايات إبان حكمه منها ارتفاع نسب البطالة، مشيرة إلى مستهدفاتها الاقتصادية القادمة وطبعا فى المقدمة خفض الضرائب، غير أن قضية الإجهاض اعتبرت ضمن أبرز القضايا الإشكالية، كونها تشغل الفصيل الأهم بالولايات، وهو ما لعبت عليه هاريس فى صياغة مواجهة ما بين الرئيس السابق والمرأة الأمريكية خصوصا بإشارتها لحالات الفقر والاغتصاب وغيرها من الكوارث المجتمعية، كونه أفقدها أهم حقوقها، ليتهمها ترامب بأنها قاتلة للأطفال.
غير أن الملفات الخارجية اعتبرت الأكثر حساسية، فيما يخص كيفية تعاطى المرشحين معها، خصوصا الحرب الإسرائيلية على غزة، حيث تباينت مواقف المرشحين، فبينما أكدت هاريس إنهاء الحرب بمجرد توليها مقاليد الأمر، أكد ترامب معالجة الأمر سريعا إذا ما تم تنصيبه، ومع ذلك لم يوضح أى مرشح منهما الكيفية أو حتى الأساليب التى سيتم انتهاجها فى تناول الصراع والوقوف على مضامينه، لكن المرشحة الديمقراطية وبلا شك تنتوى دغدغة مشاعر العرب والمسلمين، _كونها سياسة ديمقراطية متعارف عليها_ وعبر الاتجاه بالحديث ناحية ضرورة حل الدولتين، إلا أن المرشحين لم يتمكنا من التعامل مع الصراع الروسى_ الأوكرانى، خصوصا بعد ما أغضبت تصريحاتهم الكريملين، على إثر الأساليب والتى تم خلالها ذكر اسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث أكد الكرملين أنه "لم يعجبه الطريقة التي تم بها تداول اسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في المناظرة بين هاريس وترامب"، منتقدا تصريحات ترامب بأنه يمكنه إنهاء الحرب في أوكرانيا باتصال هاتفي مع بوتين، مشيرا إلى الآلية الوحيدة والتى يمكن من خلالها إنهاء الصراع، فقط هو توقف الولايات المتحدة عن استخدام أوكرانيا كوسيلة لإضعاف روسيا، وربما المناظرة نفسها التى سعت إلى تفنيد الحلول للتعاطى مع الملفات العالقة، هى نفسها من آثارت روسيا للتوعد بالرد بالمناسب حال أن سمحت واشنطن لكييف بالضربات الصاروخية.
وعليه يكشف الإطار الموضوعى لهذه المناظرة مدى فراغها السياسي وسطحيتها، كونها اشتملت على إهانات متبادلة واتهامات، ولم تتمكن من التعاطى الموضوعى والوقوف على صياغة حلول للإشكاليات الأمريكية داخليا وخارجيا، والأكثر تراجعا هو أن الأمر من قبل المرشحين، ويمكن القول إن هاريس ستعمل على الاستفادة من سابقيها وربما ستنتهج سياسات على العكس من قناعاتها، شريطة حصول تأييد فئات بعينها، أيضا ستعمل على استغلال خلفياتها القانونية والسياسية، وإن استفادت من تصدر هيلارى 2016، كإمرأة أفسحت الطريق أمام فصيل طالما استبعد من الطريق إلى البيت الأبيض، وهنا تبرز هاريس وأدواتها، على العكس من ترامب الذى لم يعد بإمكانه حصد مكاسب الأسلوب الهجومى_ كما اعتاد_ حسبما جاء أداؤه فى المناظرة الأخيرة، وربما محاولات استهدافه تأتى فى إطار المناورة الجمهورية لعودة تأثير مرشحهم، بعد المناظرة الكارثية .
ختاما: بالرغم من اعتماد المناظرات كآلية فعالة فى الحكم على المرشحين ومن ثم توجيه الناخبين، إلا أن المناظرات الأمريكية والتى أجريت مؤخرا، كشفت عن تراجع واضح فى النضج السياسي الأمريكي، نتج عنه تقويض مستهدفات هذه النوعية من الفعاليات السياسية المطلوبة واللازمة، ومن ثم كان بديهيا الانتكاسة الأمريكية الواضحة على المستويين السياسي والأمنى.