مقالات رأى

معارك الاستنزاف الدولية والحرب العالمية الثالثة!

طباعة

تشهد خريطة الصراع الدولى على مختلف الجبهات أطول حروب استنزاف بين القوى الدولية المتصارعة ممتدة منذ مطلع الألفية وستستمر حتى تتشكل موازين القوى العالمية الجديدة، فلم تعد الحرب العالمية الثالثة معركة حسم عسكرى فى ظل وجود عوامل قوى ونفوذ أخرى سواء اقتصادية، أو سياسية، أو حتى تكنولوجية وصناعية وغيرها من مفردات تأثير للدول فى المحيط الدولى، هذا بالإضافة لتشابك المصالح التى فرضتها تلك المفردات بين القوى الكبرى المتصارعة، خاصة فى ظل عولمة الاقتصاد تحديدا، الأمر الذى فرض معركة استنزاف القوى عبر استخدام وكلاء الحرب من جماعات وميليشيات بل فى بعض الأحيان استخدام دول لتصبح ساحات حرب بديلة لتلك القوى الكبرى، وهو ما ظهر جليا عقب الخريف العربى أو ما يحدث الآن على صعيد جبهات أخرى فى شرق أوروبا، والشرق الأوسط، أيضا منطقة الساحل والصحراء الإفريقية.

تنوعت جبهات الصراع على الخريطة الدولية بل إنها اتسعت خلال العقدين الماضيين بشكل يدفع العالم نحو حافة الهاوية والذهاب نحو المعركة الفاصلة فى تلك الحرب العالمية الثالثة الدائرة الآن، فلا يمكن فصل تلك المواجهات المباشرة وغير المباشرة بين القوى الكبرى على مختلف دوائر الصراع الدولى عن فكرة الحرب العالمية الثالثة، بل إن حروب استنزاف القوى القائمة الآن بين تلك القوى  هى جزء لا يتجزأ من أى حرب كبرى، فنحن فى خضم تلك الحرب العالمية الثالثة شئنا أم أبينا، فليس علينا انتظار قنبلة نووية على غرار الحرب العالمية الثانية للتأكد من هذا الأمر، فى حين أن تلك القنبلة الذرية التى كانت إبان الحرب العالمية الثانية كانت تمثل نهاية الحرب وليست بدايتها، فلا تنتظر أن تشاهد النهاية وأنت لا تتابع البدايات والأحداث الجارية وتتفاعل معها.

النظام الدولى يتشكل من جديد ولا خلاف على ذلك، بل إنها النتيجة الطبيعية التى تفرضها الحروب العالمية، فقد حدث أن تغير شكل النظام الدولى عقب كل من الحرب العالمية الأولى والثانية، ومن ثم شواهد التغيير التى تحدث على مدار العقدين الماضيين تؤكد أننا بصدد حرب عالمية ثالثة ولكنها ذات طبيعة خاصة، وأيضا أدوات وآليات حرب من أجيال متطورة تجعل البعض يتابع المعارك بشكل منفصل بينما لا يستطيع رؤية الصورة كاملة للحرب، وهو ما تحققه حروب الشائعات والأكاذيب التى تدخل الدول المستهدفة لتصبح مسرح صراع بين القوى الكبرى فى ديمومة الإفشال حتى تستلم تلك الدول لعرض مسرحى مسلح بين تلك القوى الكبرى على أراضيها، والنماذج فى الشرق الأوسط باتت كثيرة خاصة للدول التى استجابت لمخطط الولايات المتحدة الأمريكية المتعلق بالفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد، فقط التفتت شرقا وغربا لتجد أدوات القوى الغربية والشرقية العسكرية متناحرة على تلك الساحات.

بالعودة مجددا للصورة الكاملة لمشهد التصارع الدولى فيمكن تصنيف جبهات حروب استنزاف القوى الكبرى على نحو متعدد الاتجاهات حيث تمتد من أقصى الشرق ناحية بحر الصين الجنوبى مرورا بالشرق الأوسط وشرق أوروبا وصولا لمنطقة الساحل والصحراء الإفريقية، فتلك هى النقاط الأكثر سخونة على خريطة العراك الدولى والتى تشهد تشابكا عسكريا، واقتصاديا، وأيضا سياسيا ودبلوماسيا بين قوى رئيسية وهى الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، والصين بينما يوجد قوى إسناد أخرى لكل طرف، على سبيل المثال أوروبا واليابان يمثلان قوى إسناد ودعم للولايات المتحدة الأمريكية، وهناك دول أخرى تؤدى دورا، وظيفيا مثل إسرائيل فى منطقة الشرق الأوسط، وبين هذا وذاك توجد دول لا تنخرط فى تلك الصراعات الدولية والإقليمية بما يشعل المزيد من الحروب والأزمات، وهنا يمكن أن تجد الدولة المصرية نموذجا لفكرة الحياد الإيجابى الذى لا يستجيب لأى من استقطابات هذا الصراع الدولى، بل تعمل فقط على إيجاد حلول سياسية ودبلوماسية لتهدئة الأزمات الإقليمية المحيطة بها، وبالتوازى تقوم بتحصين جبهتها الداخلية عبر تماسك شعبى وبناء مجتمعى قوى يستطيع الصمود أمام المتغيرات الدولية التى تعصف بالدول النامية تحديدا.

تأثيرات الصراع الدولى على الدول المتقدمة والصاعدة وأيضا النامية لا  يستثنى منه أحد وبالتحديد الدول النامية التى باتت تدفع ضريبة التغيرات الجيوسياسية المتسارعة على الصعيد الأمنى والاقتصادى تحديدا، فبالنظر للساحات البحرية التى تشهد معارك بين مختلف القوى الدولية الكبرى فستجد أن منافذ التجارة الدولية للصناعة والسلع الاستراتيجية محل صراع، حيث هناك فى شرق أوروبا وبالتحديد بحر أزوف والبحر الأسود قد أثر على إمدادات الأمن الغذائى العالمى، بينما بالاتجاه إلى أعلى فبحر البلطيق بانضمام فنلندا والسويد إلى الناتو تحول هو الاخر لنقطة توتر مع الجانب الروسى، وبالعودة جنوبا ما يحدث عند باب المندب من توترات تعيق حركة التجارة العابرة باتجاه قناة السويس مما يؤثر على الإمدادات التجارية الدولية، ثم بالاتجاه إلى أقصى الشرق والتوتر الأمريكى-الصينى عند بحر الصين الجنوبى يشكل عائقًا كبيرًا فى حال انفجار الأوضاع ما يؤثر على الإمداد والتوريد الصناعى والتكنولوجى وأيضا الدوائى عالميا، ورغم أن تبعات تلك الآثار على دول العالم كافة إلا أن الدول النامية وتحديدا العربية والإفريقية تستشعر تلك التداعيات بشكل مضاعف، وهو ما يجعل مواطنى تلك الدول يستشعرون أزمات اقتصادية داخلية بينما لا يمكنهم إدراك طبيعة أنها أزمات مستوردة من الخارج نتاج الصراع الدولى.

الدول النامية تستنزف نتاج هذا الصراع، بل إنها طوال الوقت تتعرض لاستقطاب واستفزاز من أجل الانخراط فى معارك الاستنزاف الدولية، بل إن القوى الكبرى تستغل الآثار الاقتصادية والأمنية الناتجة عن العراك الدولى للضغط أكثر على الدول النامية لتسليم أرضها لتصبح مسرح عمليات لحروب الوكالة على خريطة الصراع الدولى، وقد استجابت دول نامية بالفعل لتلك الضغوط وبالتبعية ستفقد تلك الدول قدرتها مستقبلا على أن تجد لنفسها مكانا ضمن النظام الدولى الذى يتشكل من جديد، لهذا فطوق النجاة من تلك الحرب العالمية الثالثة ومعارك الاستنزاف الخاصة بها يتمثل فى قدرات الدول الداخلية وما تتمتع به من قوة شاملة وتماسك شعبى ولحمة وطنية تمكنها من العبور إلى العالم الجديد بأمان.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    جمال رائف

    جمال رائف

    نائب مدير تحرير مجلة أكتوبر