تحليلات

ارتدادات "مناورة كورسك" على مآلات الصراع الروسى-الأوكرانى

طباعة

لا يزال الصراع الروسي - الأوكرانى مستعرا، لم تحد من ضراوته التغيرات الجيوسياسية على المستويين الإقليمي والدولى، حتى مع الاتزان الروسي على الصعيد العالمى، وانخراطها فى الحلول السياسية للعديد من القضايا المتصدرة، تصر موسكو على التعاطى العسكرى مع الصراع الأوكرانى، فمنذ اندلاع الصراع قبل نحو أكثر من عامين، والأمور مرجحة لصالح الدب الروسي، وعلى الرغم من الإمدادات العسكرية واللوجستية من الغرب لكييف، تظل السيطرة الروسية على الجنوب والشرق من أوكرانيا، حيث أهم أربع مقاطعات: "لوجانسك"،"دونيستك" زابوجيا"،و"جزيرة القرم" منذ 2014، ما مثل ما يقارب الـ 20% من المساحة الكلية لأوكرانيا، معظمها تم خضوعه لروسيا بشكل كامل وعقب استفتاء رسمى، ليبرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذه السيطرة من أجل دعم المنتمين لروسيا، ساعده فى هذا التقدم فى الحدود الأوكرانية حيث أهم المقاطعات الاستراتيجية للانفصاليين والمعارضين .

مجريات الموقف:

تواصل التقدم الروسي إلى داخل المناطق الاستراتيجية الأوكرانية، عد فى مقدمة المؤشرات على حسم الموقف لصالح الوريثة الشرعية للاتحاد السوفيتي، والأهم أن مجمل الصراعات بعيدا عن أراضيها وعن المواطن الروسي، ورغم الدعم الأوروبى، الذى ربما ينخفض أحيانا، إلا أن تراجع أوكرانيا كان ملحوظا حيث لم يعد بمقدورها التصدى لهجمات الطائرات الروسية، وانخفضت قدرات الدفاع الجوى لديها بنسبة تخطت 25%، وإن حاولت كييف تحديث منظومتها الدفاعية عبر تطوير أنظمتها وبناء المركبات المدرعة، مع تصنيع مضادات الدبابات من صواريخ مهيأة لهذه النوعية من الأهداف، والأهم إنتاج المسيرات بما يعادل مليون طائرة ومدافع بوهدانا ذاتية الدفع، أيضا طائرات بدون طيار، كما أتجهت أوكرانيا أيضا إلى البحث العلمى فى خطوة بنيوية سعت من خلالها إلى ترسيخ هذه النوعية من التنمية والتى تحتاجها الحرب الطويلة، حيث قامت بتمويل البحث والتطوير بما يعادل المليار ونصف المليار دولار، بالرغم من معاناة الموازنة الأوكرانية مع ضعف رءوس الأموال.

غير أن تحرك عشرات الدبابات والمدرعات الأوكرانية تجاه كورسك، ومن ثم إنشاء المكتب العسكرى الخاص بكييف، فى إشارة إلى السيطرة التامة، على أكثر من 70 بلدة بالإضافة إلى 25 قرية، وعلى عمق تجاوز كيلو ونصف الكيلو متر، إلى داخل الأراضى الروسية، عُد فى إطار المناورة الأوكرانية سيما أن كييف لم تتمكن منذ بدء الحرب من تحقيق أى هجوم مضاد، وربما فشلت أكثر من مرة فى صد القوات الروسية، تلك المناورة الكفيلة بإحداث عدة تحولات مهمة على صعيد مسارات الحرب، قد يخيل لبعض المراقبين والمحللين للأوضاع، أنها ستصب فى صالح كييف، أو حتى ستدفع فى اتجاه التهدئة، وفى إطار تعزيز مفاهيم التوازنات ومقتضياتها، عقب تقدم أوكرانى يذكر إلى داخل الأراضى الروسية!

بديهيا، لم تقدم أوكرانيا على هذه النوعية من التحركات العسكرية الفعالة،  إلا مع تضافر مجموعة من العوامل المساعدة مكنتها على هذا النحو من الهجوم المضاد، البداية بحصولها على طائرات إف 16، حيث وصلتها 10 مقاتلات، على أن يتبقى ما يعادل 60 مقاتلة من المرتقب الحصول عليها من الولايات المتحدة، وعقب مطالبات جادة من أوكرانيا، أضف الدعم البريطانى عبر دبابات "تشالنجر 2" ، ومنه السماح بمشاركة لأسلحة بريطانية فى العمليات على كورسك، مع تدريب المقاتلين الأوكرانيين، والأهم الاتفاقية الموقعة بين الاتحاد الأوروبى وأوكرانيا منذ أكثر من شهرين، وبموجبها يتم دعم كييف من قبل كافة دول الاتحاد عبر التدريب والتسليح بأنظمة المدفعية والدفاع الجوى، إلى جانب توثيق التعاون الدفاعى، أيضا حال مهاجمة أوكرانيا من قبل روسيا أو استخدام الأسلحة النووية من قبل الأخيرة. ويعقد الاتحاد الأوروبي جلسة مشاورات خلال 24 ساعة، لبحث كيفية دعم كييف.

وربما أجادت أوكرانيا استحسان عامل الوقت، سيما مع انهماك روسيا فى بعض التغيرات الجيوسياسية، أرادت صياغتها فى أقصى الشرق، أيضا انشغالها بالتعاون العسكرى مع إيران، على خلفية تورط الأخيرة مع إسرائيل، واستمرارية الصراع بينهما، فبينما تتجنب طهران الصراع المباشر، وتتعامل عبر أذرعها ووكلائها فى إدارة مصالحها السياسية خصوصا مع الولايات المتحدة، تتجه تل أبيب للتعدي على السيادة الإيرانية من خلال استهداف مقارها وضيوفها، توترات شغلت موسكو، ودخلت من خلالها روسيا على خط الأزمة، وجميعها عوامل أجادت كييف توظيفها والعمل عليها، لخدمة حدودها وتحصينها فى مواجهة روسيا، مع حماية شعوب المناطق الحدودية تحديدا سومى، والأهم البدء بالهجوم المضاد، بحسب تصريحات الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى، ولعل كييف أرادت تشتيت قدرات العدو وإرباكه، سيما أن روسيا لم تكثف وجودها على حدودها فى النقاط مع كورسك، على العكس من بقية المقاطعات، كون أن موسكو تقسم قواتها طبقا لأهمية المقاطعات الاستراتيجية، أيضا تلويحها بالحرب النووية حال إقدام كييف على أية اختراقات عسكرية، مكنها من صياغة تكتيك عسكرى واستراتيجي مغاير لتكتيكات الحروب التقليدية.

مآلات "مناورة كورسك":

احتمالات حدوث تغيرات نوعية  على مستوى مآلات أو مسارات الحرب الروسية-الأوكرانية هى مستبعدة، وفى ضوء إمكانات أوكرانية وتسليحها المتواضع حال غض الطرف عن الشحنات الجديدة، خصوصا أن  الطفرة الأوكرنية فى الهجوم على كورسك تفهم فى سياقات التكتيك العملياتى الوقتى أو المرحلى إن جاز التعبير، أيضا بفضل أسلحة نوعية تمكنت من الحصول عليها مؤخرا، بخلاف شحنات الأسلحة والطائرات التقليدية بما فيها F16، وربما توقفها أو حتى عدم استمرارية التعزيزات قد يدفع بانتكاسة أوكرانية مع استنفار القوات الروسية وإعادة التمركز.

يصعب التيقن أيضا بتطور مسارات السلام والمباحثات المرتقبة،  وفى ضوء رفض بوتين لأية محادثات عقب هجمة كورسك، وبحسب الكرملين لا حوار مع أوكرانيا، حيث أكد: "أنه لن يتحاورمع أوكرانيا" بسبب هجومها داخل منطقة كورسك الروسية، وهو ما جاء على لسان يوري أوشاكوف مساعد الرئيس الروسي للشئون السياسية: "في المرحلة الراهنة ونظرا إلى هذه المغامرة، لن نتحاور، سيكون من غير المناسب بتاتا الدخول في عملية تفاوضية"، بشكل عام لم يحدث أن قبل بوتين بأية مفاوضات تقتضى السلام، إلا على نحو يحفظ له تقدمه وسيطرته على الجنوب والشرق، حتى وساطة قطر الأخيرة تركزت حول كيفية حفظ البنية التحتية للطرفين من الهجمات المتبادلة، أيضا قمة سويسرا قبل أكثر من شهرين لم تحضرها روسيا، ولم تتمكن أوكرانيا من كسب الدعم الدولى، عقب النتائج الجيوسياسية التى حصدها بوتين حينما امتنعت الصين، وإندونيسيا والمملكة العربية السعودية عن القبول بمخرجات القمة، والتى تقتضى إبعاد روسيا.

ختاما، يبدو تباطؤ الرد الروسي فى التصدى للزحف الأوكراني بكورسك، منطقى فى إطار المناورات الروسية التقليدية فى التعاطى مع هذه التغيرات، وربما الأمر يقتضى مجموعات متزامنة من التكتيكات العسكرية واللوجستية، حتى إن بوتين نفسه أبدى بعض التحذيرات دون إبراز أية اندهاشات بدليل إتمامه زيارته إلى أذربيجان من أجل الوساطة بينها وأرمينيا، حتى مع تصريحات زيلينسكى بأن أوكرانيا  سيطرت على أكثر من 1250 كيلومترا مربعا و92 تجمعا سكنيا في منطقة كورسك الروسية، مشيرا إلى تحطم الحواجز أو الخطوط الحمراء-حسب قوله- فيما يتصل مع روسيا، والذى هيمنت على التقييمات الماضية للحرب.

المؤشرات على حرب نووية ليست فى الاتجاه الصحيح، الوقت لدى موسكو لا يزال متاحا حتى مع تلويح بوتين المستمر، فلم تنفد كافة أوراقه العسكرية والجيوسياسية بعد، وأيضا الغرب لن يسمح لأوكرانيا بالمزيد، مع فرض القيود على حدود استخدامات الأسلحة الغربية، وإن تمكن من تسييس الموقف الأوكرانى بالحق فى استخدام الأسلحة الغربية تماشيا مع مواثيق الأمم المتحدة.

طباعة

    تعريف الكاتب

    إيرينى سعيد

    إيرينى سعيد

    صحفية وكاتبة مصرية - ماجستير العلوم السياسية