"كم من المزيد يا ستارمر؟ متى ستفعل شيئا ما؟"[1]كلمات كانت تلوح فى الأفق فى أثناء وضع كير ستارمر، رئيس وزراء المملكة المتحدة، الورود فى ساوثبورت، غرب إنجلترا؛ التى شهدت يوم الاثنين التاسع والعشرين من يوليو الماضى حادثة طعن مراهق من أصول إفريقية لعدد من الأطفال والبالغين فى حفل رقص، وأدت إلى وفاة ثلاث فتيات بين سبع وتسع سنوات، وإصابة عدد من الأطفال والبالغين الآخرين، وتم القبض عليه بعد الحادث مباشرة[2].
من هنا، تسربت شائعة أن هذا المراهق مُهاجر مسلم جاء عن طريق قوارب الهجرة غير الشرعية، وهو ما تم تداوله، وفقا لوكالة رويترز، 15.7 مليون مرة قبل الاحتجاجات، ما أثار غضب العديد من المواطنين البريطانيين والشخصيات العامة والسياسيين خاصة مع تداول العديد من الصور لمهاجرين مع الادعاء أنها صورة الجانى، وهو ما تم تكذيبه رسميا، ولكن هذا لم يمنع مشاعر المواطنين من التأجج حزنا على الضحايا وغضبا ضد المهاجرين[3].
منذ اليوم التالى، تجوب سيارات الشرطة شوارع العديد من المدن البريطانية الكبرى فى محاولة لوقف سيل الاحتجاجات والتظاهرات وأعمال الشغب التى بدأت فى الثلاثين من يوليو ردا على هذا الحادث. فى المقابل، تزداد حدة أعمال الشغب فى موجة كبيرة لم تشهدها المملكة المتحدة منذ ما يزيد على عقد.
من يقود الاحتجاجات؟ وما مدى انتشارها؟
أكدت كل التقارير أن اليمين المتطرف البريطانى هو من يقود تلك الاحتجاجات، فكان نايجل فراج من ضمن المشاركين فى الحراك الإلكترونى والإعلامى الذى بدأ بعد الحادث مباشرة. فراج هو رئيس حزب إصلاح المملكة المتحدةReform UK؛ وهو حزب يمينى شعبوى كان يسمى حزب بريكستBrexit Party، الذى تساءل ما إن كانت هناك حقيقة تخفيها الحكومة حول الحادث، بعد أن تم التعامل مع الحادث على أنه جريمة عادية وليس عملية إرهابية بعد أن تبين أن الجانى هو مراهق من أصول مهاجرة يحمل الجنسية البريطانية[4].
على الجانب الآخر، كانت جماعات اليمين المتطرف هى من تقود الاحتجاجات على الأرض، وفقا لتقرير نيويورك تايمز عن قادة الاحتجاجات؛ فإن العديد من جماعات اليمين المتطرف ظهرت فى واجهة المشهد، وكان هذا الظهور إما بشكل مباشر بمشاركة كوادر مهمة من هذه الجماعات فى الاحتجاجات مثل ديفيد ميلز، وهو عضو مهم فى جماعة البديل الوطنى Patriotic Alternativeالتى تُصنف بأنها جماعة نازية، ونشرت له صور فى احتجاجات ساوثبورت، أو عن طريق نشر بعض الجماعات صورا للاحتجاجات تحتوى على محتجين بوشوم النازية مثل الصليب المعقوف مثل الحركة البريطانية British Movement، بالإضافة إلى شهادات رجال الشرطة من أن أعضاء من رابطة الدفاع الإنجليزية English Defence Leagueوهى جماعة محسوبة على اليمين البريطانى، قد شاركوا فى الاحتجاجات بشكل واضح[5].
وانتشرت الاحتجاجات فى جميع المدن الكبرى فى المملكة المتحدة، فشهدت فى إنجلترا مدن مثل لندن، مانشستر، ليفربول، ليدز، وسندرلاند، كما وصلت إلى كارديف وبلفاست عواصم ويلز وإيرلندا الشمالية وغيرها من المدن الكبيرة[6]. وذهبت وتيرة الاحتجاجات كاشتعال النار فى الهشيم، اتسمت بالسرعة والشدة رغم الاعتقالات والتحقيقات التى نفذتها الحكومة البريطانية؛ ما يدل على قدرة قادة الاحتجاجات على تجديد روح الاحتجاجات بوتيرة أسرع من قدرة الحكومة على الرد واحتواء الموقف.
روسيا واليمين البريطانى:
فى الخامس من أغسطس الجاري بدأت الحكومة البريطانية التحقيق حول ما إذا كانت هناك أيادٍ خارجية أسهمت فى تأجيج أعمال الشغب التى قام بها اليمين المتطرف أو أسهمت فى دعمه بشكل مباشر؛ وهو ما أشار إليه المتحدث الرسمى باسم كير ستارمر عندما قال: "بعض المعلومات المضللة التى رأيناها عبر الإنترنت، تجتذب تضخيما من نشاط روبوتات معروف –الذى كما أقول يمكن أن يكون نشاط مدعوم من دولة أخرى"[7].
وكل العيون تتجه إلى روسيا، ولكن لماذا يعتقد البريطانيون أن روسيا تقف وراء الاحتجاجات؟ بتجميد اللحظة التى انتشرت فيها الأخبار الكاذبة أن القاتل مهاجر مسلم، يجب النظر إلى المنصات التى أسهمت فى نشر ذلك الخبر وطريقة صياغة الخبر.
● أولا، تمت إذاعة الخبر لأول مرة من قبل Channel3 Nowوهى وكالة إخبارية داخل بريطانية، ومن المعروف أنها بدأت منذ أحد عشر عاما كقناة على منصة YouTubeكقناة روسية. وسجل الخبر مليونى مشاهدة قبل أن يتم حذفه والاعتذار لنشر خبر غير صحيح[8].
● ثانيا، كانت طريقة صياغة الخبر فى Channel3 Nowتلقى الاتهام على الحكومة البريطانية؛ حيث كان الخبر يحدد أن القاتل هو مراهق عمره 17 عاما، طالب لجوء مسلم، جاء عن طريق قوارب الهجرة غير الشرعية، والأهم من ذلك أنه معروف لدى مكتب الاستخبارات العسكرية الخارجية البريطانية، وأجهزة الدولة المعنية بالصحة العقلية[9].
● ثالثا، كان لمنصة التواصل الاجتماعى الروسية Telegramدور مهم فى احتواء قنوات التواصل بين مجموعات اليمين المتطرف البريطانى. كما بدأ مشرفو المنصة متأخرا جدا فى حذف القنوات التى كان نشطاء اليمين يتفاعلون خلالها[10].
● رابعا، تستخدم روسيا منذ عدة سنوات استراتيجية "الحرب الرمادية" وهى استخدام آليات عنيفة للضغط ولكنها أقل حدة من الدخول فى حرب عسكرية؛ ومنها تأجيج صراع داخلى للضغط على حكومة معينة[11]. وتستخدم روسيا المنصات الخاصة بها للتلاعب بالرأى العام البريطانى؛ ومنها تلاعب منصتى روسيا اليوم RTوسبوتنيكSputnikبالأخبار وقت تسميم سيرجى سكريبال، الملحق العسكرى الروسى فى بريطانيا فى 2018[12]. وحادثة أخرى فى بدايات الأزمة الأوكرانية لتبرير سبب العدوان الروسى داخل بريطانيا[13]. وغيرها من الحوادث فى العديد من الدول الأوروبية.
● خامسا، هناك سوابق أخرى تثبت استخدام روسيا جماعات اليمين المتطرف فى أوروبا بشكل عام لإثارة التوترات وعدم الاستقرار فى مجتمعات أوروبا للرد على مواقف أو أفعال يتخذها الغرب ضد روسيا. وأكد العديد من مسئولى الاستخبارات الغربية أن اليمين المتطرف يتبنى أيديولوجية داعمة لروسيا وبوتين، وتتبع أساليب عنيفة للتعبيرعن أفكارها، وأن روسيا استغلت ذلك للسيطرة على شبكة من جماعات اليمين، والذين نفذوا عمليات عنيفة منذ نهايات العام الماضى فى العديد من دول أوروبا ومنها بريطانيا.[14][15]
إذا ما تتبعنا هذا الاحتمال القائم، يقع السؤال هنا حول التوقيت والمكان، لماذا الآن ولماذا بريطانيا؟
لماذا الآن؟ تشهد الحرب الروسية الأوكرانية منذ بدايات شهر يوليو تحولا فى مجرى الأحداث؛ حيث نجحت القوات الأوكرانية فى التوغل فى الداخل الروسى لعمق 10 كيلومترات فى إقليم كورسك فى عملية بدأت فى السادس من أغسطس[16]. كما نجحت القوات الأوكرانية فى السيطرة على نقطة عبور غاز مهمة، والسيطرة على مدينة سوزا بالكامل، ما أدى إلى ارتفاع مفاجئ فى أسعار الغاز فى روسيا[17].
بالرجوع للمشهد أسبوعا قبل السادس من أغسطس، فى نهاية يوليو وفى نفس توقيت بداية الاحتجاجات فى بريطانيا، كانت روسيا تشن هجمات شرسة فى إقليم دونيتسك، وعلى الجانب الآخر كانت أوكرانيا تستهدف البنية التحتية لآلة الطاقة الروسية، وبجانب ذلك أخذت أعداد الضخايا الروس تتزايد، فقد وصلت فى الشهرين مايو ويونيو إلى 70 ألف جندى، ما كان ينذر بتراجع رهيب فى صفوف الجيش الروسى، وتزايد حدة هجمات الجيش الأوكرانى[18]. لذلك كان يحتمل أن تلجأ روسيا لحل غير عسكرى لعدم قدرتها فى ذلك الوقت على الرد عسكريا ولكن ليس داخل الأراضى الأوكرانية.
وربما يصبح تركيز روسيا على الضغط على دول الناتو الداعمة لأوكرانيا هو محط تفكير متخذى القرار الروسى فى ظل هذا الموقف وعدم قدرة روسيا على الصمود عسكريا بسبب الأعباء والخسائر المالية والبشرية التى أنهكت الآلة العسكرية الروسية. ولكن لماذا بريطانيا بالتحديد؟ يجب بحث مواقف الدول المهمة الأخرى المشتركة فى الدعم، وأهم ثلاث دول داعمة لأوكرانيا فى حربها ضد روسيا هى الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، والمملكة المتحدة.
مبدئيا، يمكن استبعاد الولايات المتحدة الأمريكية من الاستهداف الروسى لعدة أسباب،أولا؛ انشغال القيادة الأمريكية بالتجهيز لانتخابات الرئاسة فى نوفمبر القادم خاصة مع عدم الاستقرار الذى حدث فى صفوف الحزب الديمقراطى بعد انسحاب جو بايدن من السباق، ما جعل الحزب والقيادة معنية بالفوز فى الانتخابات أكثر من التركيز على قضايا السياسة الخارجية. ثانيا؛ أخذ الخطاب الأمريكى الداعم لأوكرانيا فى الخفوت مع اقتراب الانتخابات لأن الدعم الأمريكى لأوكرانيا، كأكبر حصة وتقدر بـ 42.7 مليار دولار، يمثل مصدر غضب لدى جزء كبير من قاعدة الناخبين الأمريكية. ثالثا، أخرت أمريكا وصول المساعدات العسكرية لأوكرانيا منذ شهر يناير، ما أدى بشكل كبير إلى ضعف الصفوف الأوكرانية[19].
أما بالنسبة إلى ألمانيا، فالعديد من الخبراء وصفوا السياسة الألمانية نحو أوكرانيا أنها غير متسقة، كما وصفوا المستشار أولف شولز أنه أصبح "مستشارا مسالما" نحو روسيا. وذلك للعديد من الأسباب؛ أولا؛ ألمانيا ستشهد انتخابات فيدرالية فى سبتمبر 2025، وأوضحت بعض استطلاعات الرأى أن المجتمع الألمانى غير راضٍ بشكل كبير عن السياسة الألمانية نحو أوكرانيا بمعدل 60%، إلى جانب صعود أحد أحزاب اليمين وهو حزب البديل من أجل ألمانياAlternative for Germany، وهو حزب مهيمن فى خمس ولايات شرق ألمانيا "وهو جزء لا يعد روسيا عدوا بالشكل الغربى" على حساب هذا الغضب الشعبى الكامن الذى يمكن أن يتم ترجمته فى الانتخابات المقبلة[20]. ثانيا؛ تم ترجمة هذا فى مخطط الموازنة الألمانية للعام القادم؛ حيث قرر البرلمان الألمانى تخفيض المساعدات العسكرية الأوكرانية لتصل إلى 4 مليارات يورو فقط وهو يعد تخفيضا يصل إلى أكثر من النصف[21].
أما بالنسبة إلى دول أخرى داخل الحلف؛ فإن فرنسا كانت منشغلة بتنظيم دورة الأولمبياد الثالثة والثلاثين فى عاصمتها باريس، إلى جانب عدم الاستقرار السياسى الذى حل داخل البرلمان بعد انتخابات يوليو التى أسفرت عن صعود بارز لحزب التجمع الوطنى اليمينى National Rallyالذى حصل على نسبة كبيرة من مقاعد البرلمان يقدر بـ 33.2% وهو ما سيثير العديد من الصراعات السياسية بين اليمين واليسار، ومن ثم يثير التساؤلات حول مستقبل المساعدات العسكرية لأوكرانيا[22]. أما تركيا فهى التزمت الحياد منذ بداية الحرب[23].ومن ثم، العيون تسلط على بريطانيا وحكومة الُعمال الجديدة بقيادة ستارمر التى تولت منذ أوائل يوليو.
كانت جميع التحركات البريطانية بعد فوز حزب العمال تنم على أخذ موقف أكثر حدة ضد الهجوم الروسى على أوكرانيا. ورغم اعتماد ستارمر للهجة أكثر هدوئا فى قضايا أخرى مثل العلاقة مع الاتحاد الأوروبى، اعتمد فى قمة الناتو فى واشنطن، التى تمت من 9 يوليو إلى 11 يوليو، على إظهار أن لندن تعد روسيا عدوا يجب إيقافه؛ وظهر بذلك تقارب واضح بين ستارمر وزيلينسكى فى أثناء تلك القمة[24]. كما أن زيلينسكى حضر اجتماعا للحكومة البريطانية فى 19 يوليو، وكان زيلينسكى يدعو فى هذا الاجتماع ستارمر لإقناع القادة الأوروبيين أن يسمح لأوكرانيا أن تطلق غارات طويلة المدى على القوات الروسية. وتعهد ستارمر أنه سوف يسرع إرسال المساعدات إلى أوكرانيا[25].كما أكد الملك تشارلز الثالث قبلها بيومين فى خطاب له أن الحكومة ستستمر فى إرسال المساعدات[26].
على هذا ومنذ أن تولى ستارمر الوزارة، بدأت الخطابات ضد روسيا تزداد حدة، مع تأكيد أن الدعم العسكرى لأوكرانيا سيزداد فى الفترة المقبلة، بالإضافة إلى زيارة وزير الدفاع جون هيلى إلى مدينة أوديسا الأوكرانية على البحر الأسود وتأكيد أولوية إيقاف روسيا عند حدها[27]. كما أن الدعم العسكرى البريطانى لأوكرانيا بالفعل، وفقا لموقع مجلس النواب البريطانى، وصل إلى 7.6 مليار جنيه إسترلينى منذ بداية الحرب، وفى السنة المالية 2024-2025 وصل إلى 3 مليارات جنيه حتى الآن[28].
بهذا يمكن أن نرى أن بريطانيا هى الدولة الوحيدة التى أبقت على وتيرة دعمها لأوكرانيا، بل فى طريقها لزيادة دعمها، على عكس العديد من دول حلف الناتو الأخرى، ما يجعل هذا سياقا مناسبا للتساؤل ما إذا كانت الاحتجاجات التى تسود المدن البريطانية نتاجا لحرب غير مرئية بين روسيا وحلف الناتو.
ختاما:
لطالما كانت العلاقات الدولية والنظم الداخلية فى حالة من التشابك، تشابك لا يمكن أن نجزم من أين يبدأ وإلى أين ينتهى؟ فيمكن أن يطرح الاحتمال حول أن التحول فى الصف العسكرى الروسى، مع ازدياد دعم حكومة العمال اليسارية الجديدة، والتى تتشابه مع السياسة الخارجية العنيفة الخاصة بتونى بلير فى 2003، أدى إلى اتجاه روسيا اتجاهات أخرى لوقف المد الأوكرانى.
ولعبت روسيا على نقطة الضعف الكبرى فى المجتمع البريطانى، وهو اليمين المتطرف، الذى لم يكن له منذ البداية أى فرصة لإيصال صوته عبر القنوات الرسمية مثل الأحزاب والإعلام وكانت الحكومات البريطانية المتتالية تُسكت ذلك التيار؛ على عكس نظرائه فى دول مثل ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا؛ حيث احتوت تلك الأنظمة ذلك التيار داخلها دون الوصول إلى تلك الدرجة من العنف.
فكان دائما اللعب على اليمين واليسار هو أساس عدم الاستقرار فى المجتمعات الأوروبية الحديثة، والآن بعد مرور قرابة الأسبوعين على احتجاجات بريطانيا، واستخدام الشرطة لكبح سيل الاحتجاجات، وإصدار الأحكام ضد القادة والمخربين اليمينيين، مع نزول احتجاجات مضادة تنبذ العنف والعنصرية، يبقى السؤال هل تقع بريطانيا فى صراع مجتمعى طويل الأمد؟