ما يحدث من خلل بالتموضع العسكرى الأمريكى داخل منطقة الشرق الأوسط بين العودة باندفاع غير محسوب لزيادة القدرات العسكرية بعد خطوات اتجهت لتخفيف تلك القدرات بشكل عشوائى انعكس على المشهد الأفغانى، أمر يؤكد أن واشنطن لم تكن تضع خططا مستقبلية وفق قراءة استشرافية تمكنها من اتخاذ الحيطة وترتيب الأوضاع بما يحفظ لها هيبتها واتزانها على خريطة الصراع الدولى.
لم تكن خطوات الولايات المتحدة الأمريكية نحو تقليل قدراتها العسكرية فى المنطقة إلا لكونها تسعى لإعادة توزيع تلك القدرات على الجبهات التى تشتبك معها عسكريا وسياسيا وأيضا اقتصاديا، بالتحديد جبهات شرق أوروبا وبحر الصين الجنوبى، وأيضا منطقة الساحل والصحراء الإفريقى، بالإضافة إلى المحيطين الهندى والهادى، خطوات أمريكية بدأت تظهر مع الحرب الروسية الأوكرانية، وأيضا تصاعد النفوذ الروسى فى منطقة الساحل والصحراء الإفريقى، حينها أدركت إدارة بايدن أنها بصدد اتخاذ خطوات جديدة لإحداث اتزان فى موازين الردع الدولية.
أتت تلك الخطوة على عكس المصلحة الإسرائيلية التى تخشى من أن يترك الفراغ العسكرى الأمريكى مساحة لقوى أخرى للتمدد على رأسها إيران وتوابعها، بل إن الانسحاب العسكرى الأمريكى من أفغانستان ولَّد مخاوف لدى تل أبيب من ميلاد إيران جديدة فى كابول، تلك المخاوف كانت سببا فى الخلاف بين نتنياهو وبايدن الذى أعطى أولوية لجبهة شرق أوروبا بما يتعارض وطموحات إسرائيل الخبيثة فى المنطقة، لهذا بحث نتنياهو عن ذريعة مناسبة لإشعال الإقليم بما يجرجر الولايات المتحدة الأمريكية عسكريا مجددا إلى الشرق الأوسط، وبالفعل اندفع البيت الأبيض مدفوعا بخصوصية العلاقات الأمريكية الإسرائيلية للعودة بثقل عسكرى كبير إلى المنطقة كغطاء لإسرائيل التى لا تقدر على الحرب منفردة.
الاندفاع العسكرى الأمريكى لدعم إسرائيل صاحبه دعم دبلوماسى وسياسى وأيضا اقتصادى بشكل مكثف ومفاجأ بما أخل بالوجود الأمريكى على جبهات أخرى، لتستفيق الولايات المتحدة الأمريكية على خسائر ناحية جبهة شرق أوروبا ومنطقة الساحل والصحراء فى ظل التقدم الروسى، بل على الصعيد السياسى أتاح هذا الانشغال الأمريكى بإسرائيل الفرصة للقوى الشرقية لترتيب صفوفها لتصبح تلك المرحلة هى ذروة التقارب بين روسيا والصين وكوريا الشمالية.
رغم محاولات البيت الأبيض خلال الأشهر العشرة الماضية لإحداث توازن بين مختلف جبهات صراع النفوذ، فإن التصعيد الإسرائيلى يخل بموازين القوى الأمريكية ويضعف وجودها على الجبهات الأخرى، فهى تسير مجبورة وراء مزاعم نتنياهو الذى يصدر للداخل الأمريكى الفزاعة الإيرانية لإيجاد مبرر لإطالة أمد الصراع فى الشرق الأوسط بما يضمن الوجود العسكرى الأمريكى كغطاء دائم لجيش الاحتلال الضعيف المتواضع القدرات الذى لا يقدر على إدارة الحرب على مختلف الجبهات مفردا، الفوضى الإقليمية سبيل نتنياهو الوحيد لزيادة القدرات العسكرية الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط، فإسرائيل لن تتمكن من العيش داخل إقليم مستقر؛ حيث سيظهر حجمها الضئيل وقدراتها المحدودة، لهذا تعد الفوضى الإقليمية هدفا إسرائيليا يضمن لها إضعاف واستنزاف جميع القوى الإقليمية، كما تضمن لها تلك الفوضى الوجود العسكرى الأمريكى فى المنطقة كضمانة للحماية والدعم الدائم لعنصر يعيش فى وسط إقليم لا يناسبه ولا يتأقلم معه.
باتت الولايات المتحدة حبيسة مستنقع الفوضى فى الشرق الأوسط، فهى على مدى عقدين من الزمان غير قادرة على تحقيق أى هدف، حتى حينما قررت الانسحاب لم تقدر على هذا بعد أن دفعتها إسرائيل دفعا إلى الانغماس أكثر داخل وحل منطقة مفخخة بالصراعات والأزمات، بل إن إرسال الولايات المتحدة الأمريكية المزيد من حاملات الطائرات والسفن الحربية إلى مياه الإقليم يؤكد أن واشنطن لم تعد لديها خيارات سوى السير وراء مخطط نتنياهو الذى يتعارض مع المصلحة الأمريكية ويكبدها خسائر إقليمية ودولية، وكأن الولايات المتحدة الأمريكية فقدت السيطرة على إسرائيل لنشاهد اليوم واشنطن تتحرك كردة فعل للأحداث فى منطقة الشرق الأوسط بعد ما كانت هى المحرك الأول لمجريات الأمور بالمنطقة.
لعل تصاعد الخلافات بين بايدن ونتنياهو الذى ظهر بوضوح خلال المكالمة الهاتفية التى دارت بينهما فى الآونة الأخيرة يؤكد هذا الأمر، خاصة بعد أن بات النفوذ الأمريكية داخل المجتمع الدولى رهنا برغبات وأحلام نتنياهو الواهية، بل إن سريان الأمور على هذا النحو يخدم وبشكل مباشر الطرف الشرقى الذى يسعى لعالم متعدد الأقطاب، فتراجع الولايات المتحدة الأمريكية على الجبهات الأخرى واستنزاف قدراتها على جبهة واحدة وهى الشرق الأوسط سيسمح بكل تأكيد لروسيا والصين تنمية نفوذهما على الجبهات الأخرى بما يصنع توازن نفوذ يفقد الولايات المتحدة الأمريكية هيبتها الدولية بل إن تمادى النفوذ الأمريكى فى منطقة الشرق الأوسط قد يحدث خلافا داخل دول الناتو ويعيد الخلاف الأمريكى الفرنسى تحديدا على السطح.
هذا إلى جانب الخسائر السياسية الداخلية التى يدفع ثمنها الآن الحزب الديمقراطى الذى اهتز موقفه عقب السباق الانتخابى الرئاسى، بل إن استمرار الولايات المتحدة الأمريكية فى الهرولة وراء الرغبة الإسرائيلية ودعمها لتصاعد الفوضى الإقليمية سيضاعف الخسائر الأمريكية سياسيا واقتصاديا وعسكريا على الصعيد الدولى فى توقيت يشهد العالم ميلاد نظام عالمى جديد.