إذا كانت الانتخابات الرئاسية الروسية تحظى في الغالب باهتمام متزايد ومتابعة خاصة من قبل الدول الغربية الكبرى وفي مقدمها الولايات المتحدة، بسبب الصراع بين القوى الدولية حول النفوذ في أوروبا والشرق الأوسط، فإن الحديث عن اهتمام عربي بهذا الحدث الروسي قد لا يرى فيه الكثيرون أكثر من مجرد مزايدة إعلامية نتيجة لأسباب سياسية وجيواستراتيجية عديدة تتعلق بالمحيط الإقليمي العربي، خاصة بعد اندلاع شرارة الربيع العربي الذي أسهم في إسقاط ما تبقى من أنظمة ظلت محسوبة حتى الآن، على النفوذ الروسي في المنطقة . لكن الوضع سرعان ما بدأ يتغير، بشكل ملحوظ، ليأخذ ملامح شبيهة في بعض أوجهها بالوضع الذي ميّز العلاقات العربية بالاتحاد السوفييتي المنهار، بعد أن أقدم على غزو أفغانستان في مطلع الثمانينات من القرن الماضي . وقد بدأ هذا التحول في التجلي منذ أن أقدمت روسيا على استعمال حق الفيتو في الأمم المتحدة ضد مشروع قرار مشترك بين الجامعة العربية وبعض الدول الغربية الدائمة العضوية في المحفل الأممي بشأن سوريا، حيث جوبه الفيتو الروسي برفض واستنكار الكثير من العواصم العربية، التي رأت فيه تعطيلاً ليس له ما مبرر، لعمل الأمم المتحدة .
قد تكون هذه العواصم محقة إلى حد بعيد في اعتقادها أن احتفاظ روسيا بجزء من نفوذها في المنطقة بعد نهاية الحرب الباردة، بدأ يُسهم، في نشر أجواء غير مطمئنة في المنطقة برمتها، كما أضحى يساعد بشكل واضح في تدهور الأوضاع الإنسانية في مناطق حساسة واستراتيجية من الوطن العربي، وما الفيتو الأخير إلاّ بمثابة التجسيد المأساوي لهذا النفوذ . ولعله قد يكون أيضا، بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير في العلاقات الثنائية، بين هذه الدول العربية وروسيا، التي سبق أن شهدت بعض الانتعاش، قبل أن تتراجع إلى أدنى مستوياتها، لاسيما بعد الخطوة الأخيرة التي أقدمت عليها روسيا داخل الأمم المتحدة .
وعليه فإن حدث الانتخابات الرئاسية الروسية، قد يؤدي إلى تنامي الشعور بعدم الارتياح لدى الكثير من الأوساط العربية تجاه روسيا، بسبب النتيجة المتوقعة التي تفيد بإمكان فوز فلاديمير بوتين بأغلب الأصوات، ومن ثمة عودته إلى منصب الرئاسة بشكل قوي . الأمر الذي قد يساعد على خلق أجواء شبيهة بأجواء الحرب الباردة، وإلى نشوب مزيد من التوتر داخل المحيط الإقليمي العربي، نتيجة تزايد الصراع بين الغرب وروسيا حول ما بقي لهذه الأخيرة من نفوذ في المنطقة . لكن كل هذه التخوفات لا تبيح، في زعمنا، للجانب العربي العودة إلى الممارسات السابقة التي سادت أثناء الحرب الباردة التي عملت من خلالها بعض القوى الإقليمية على استثمار قسم كبير من قدراتها من أجل المساعدة على إطاحة الاتحاد السوفييتي .
فمن الواضح أن الأسباب العقائدية والأيديولوجية التي كانت تدفع باتجاه دعم عربي لطرف دولي على حساب طرف آخر، قد زالت كلياً أو جزئياً، كما بُذل جهد كبير من قبل أطراف عديدة من أجل توفير محيط دولي جديد قائم على التعددية القطبية، وليس من الحكمة السياسية أن يُكرر العرب أخطاء الماضي، لأن روسيا إذا لم تكن حليفاً لبعض الأطراف في المنطقة، فإنها لا تمثل بالضرورة خصماً أو عدواً يتوجب الاصطفاف من أجل إسقاطه . ومن الأهمية بمكان أن نحتاط من أجل مواجهة التطورات غير السارة التي يمكن أن تحدث في نطاق محيطنا الجيوسياسي، مصداقاً للمثل الفرنسي القائل: علينا ألا نسُب المستقبل .
لقد كان الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين يقول إن صداقة أمريكا تحرق وعداوتها تقتل، والحقيقة أن هذا القول إذا كان يصدق بشكل لافت على الولايات المتحدة، من منطلق أن الصداقات بين الدول لا يمكن أن تتحقق إلاّ على أساس راسخ من الندية، وهو ما لم يتوافر حتى الآن لأي طرف عربي في علاقته بالولايات المتحدة . فإنه يصح أيضاً وبالقدر نفسه على علاقات الدول العربية بمختلف القوى الدولية الأخرى، ومن بينها روسيا والصين، لأن معاداة دولة مثل روسيا التي تمتلك حدوداً قريبة جداً مع قوى إقليمية في المنطقة مثل إيران وتركيا، يسهم في إضعاف الأمن القومي العربي . خاصة أن أغلبية الأطراف العربية باتت مقتنعة أن دول أوروبا الشرقية التي انتقلت إلى دائرة النفوذ الأمريكي، أصبحت تشكل القاعدة الخلفية للنشاط الصهيوني في المنطقة العربية، فقد أثبتت التحقيقات الأخيرة التي أجرتها السلطات المصرية أن التمويل الأجنبي الذي تقدمه الولايات المتحدة لمنظمات المجتمع المدني المصرية، يتم عن طريق تنظيمات غير حكومية متمركزة في دول من أوروبا الشرقية، وليس من مصلحة العرب أن تتحول روسيا بكل ثقلها الاقتصادي والبشري إلى جزء من المنظومة السياسية الغربية .
صحيح أن مسرحية الانتخابات الروسية ليس فيها ما يدعو إلى الترقب والانتظار ولا إلى الإعجاب، لأنها أقل إثارة وتشويقاً من مسرحية الانتخابات الأمريكية أو الفرنسية مثلاً، لكنها من حيث وضوح منهجها وبساطة أسلوبها تدفعنا من دون شك إلى إجراء تأمل جدي بشأن مسرحيات الانتخابات الغربية برمتها، التي تكون فيها الخُدعُ والحيلُ أكثر تأثيراً في حياة الناس . وتستمد هذه الملاحظ وجاهتها من منطلق اعتقادنا أن الفروق بسيطة من حيث الجوهر، بين نظام انتخابي يتم فيه تبادل الأدوار بين شخصين، وبين نظام آخر تصنعه مساحيق الإعلام باقتدار كبير، ويتم فيه تبادل الأدوار بين حزبين، مرة جمهوري وأخرى ديمقراطي بالنسبة للحالة الأمريكية، ومرة اشتراكي وأخرى يميني ديغولي كما هو الشأن بالنسبة للنموذج الفرنسي . ومع ذلك يجب الاعتراف أنه وفي كلا النموذجين سواء الغربي أو الروسي، فإن السلطة تلتزم بحدود لا تسمح لنفسها بتجاوزها وإلا تحولت إلى سلطة تحكُم رعايا وليس مواطنين يتمتعون بحقوقهم كاملة غير منقوصة .
وربما قد يكون هذا هو الدرس الأساس الذي يمكن أن تستخلصه النخب السياسية العربية من الانتخابات التي تجرى في دول، تحوّل فيها الاقتراع إلى لعبة ذات قواعد صارمة، يضيق في سياقها هامش الخطأ إلى حد كبير، وأخرى ما زالت تخطو خطواتها الأولى من أجل التأسيس لقواعد سياسية تتعلق بالتداول السلمي على السلطة . وذلك حتى لا ينفرط العقد العنكبوتي الهش، الذي يجمع ما بين المكونات العرقية والدينية المختلفة لدولة فيدرالية مترامية الأطراف كروسيا الاتحادية .
---------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأربعاء 15 فبراير 2012.