مقالات رأى

أبعاد جريمة الإبادة البيئية

طباعة

تعد قضية البيئة من أهم القضايا التى تشغل العالم المعاصر، وقد ظهرت الحاجة إلى إنشاء قانون يستهدف حماية البيئة من مظاهر الإبادة، فى سبعينيات القرن الماضى، ارتباطا بممارسات الجيش الأمريكى خلال حرب فيتنام؛ حيث كان يستخدم مبيدات الأعشاب والمواد الكيميائية المزيلة للأوراق من أجل تدمير غطاء أوراق الشجر ومحاصيل قوات العدو، فتعالت أصوات منظمات المجتمع المدنى والمحامين الدوليين من أجل إقرار قانون يجرم مُمارسات الإبادة البيئية كجريمة دولية مستقلة قائمة بذاتها تدخل فى اختصاص المحاكم الدولية.

مفهوم الإبادة البيئية:

أثار غياب حماية مخصصة للبيئة الطبيعية ضد المخاطر المتنوعة التى تهددها، اهتماما كبيرا من قبل العديد من الباحثين والفقهاء إلى جانب المنظمات والحركات الدولية، ومن ذلك، عرَّفت بولى هيغنز الإبادة البيئية بأنها "إلحاق ضرر جسيم أو تدمير أو فقدان للنظام البيئى لإقليم معين، سواء بفعل الإنسان أو لأسباب أخرى، إلى الحد الذى يتضاءل فيه أو سوف يتضاءل بشدة التمتع السلمى لسكان ذلك الإقليم". وقد أُدرج هذا التعريف فى الاقتراح الذى قدم إلى لجنة القانون التابعة للأمم المتحدة بهدف تعديل نظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية ICCليشمل الإبادة البيئية كجريمة خامسة ضد السلام. فيما اقترحت مجموعة من الخبراء وفقهاء القانون المستقلين تضمين "الإبادة البيئية" كجريمة إلى جانب الجرائم الدولية الأربع المقررة فى النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية، وهى (الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجريمة الإبادة الجماعية، وجريمة العدوان).

يمكن القول إن الإبادة البيئية والإبادة الجماعية مفهومان مترابطان، فالأمر الحرج الذى لا يدركه المجتمع الدولى هو أن جريمة الإبادة البيئية (Ecocide) ستؤدى فى نهاية المطاف إلى جريمة الإبادة الجماعية (Genocide)، فيرتبط كلٌّ منهما ارتباطا وثيقا، ففيما يقوض البشر السلام البيئى، فإنهم فى الواقع يعرضون أنفسهم للخطر، فلا يمكن للبشر البقاء على قيد الحياة دون الحفاظ على البيئة الطبيعية التى تمدهم بأساسيات الحياة؛ فأصبح لزامًا أن يُنظر فى جريمة الإبادة البيئية كجريمة تهدد الأمن والسلام العالمى تتطلب استجابة دولية فورية لمساءلة مرتكبيها، فتعد الإبادة البيئية معركة وجودية للبشرية، ويجب أن تكون المساءلة عن تدمير البيئة مرئية وسريعة ومؤثرة.

وتعد الإبادة البيئية خرقا لالتزام مستحق لجميع الدول، وهو الحق فى بيئة نظيفة ومستدامة؛ ومن ثم فإن الاعتراف الدولى بجريمة الإبادة الجماعية يتوافق مع مبادئ القانون الدولى العرفى.

ويعد إدراج الإبادة البيئية كجريمة فى القانون الدولى بمنزلة اعتراف بالحاجة إلى حماية البيئة كغاية فى حد ذاتها، بما يرتبط بذلك من ممارسة تغيير الوعى والسلوك البشرى.

التكييف القانونى لممارسات الإبادة البيئية:

فى الوقت الحاضر، لا يعد تدمير البيئة جريمة دولية إلا بموجب المادة ٨ (٢) (ب) (٤) من نظام روما الأساسى المتعلقة بجرائم الحرب، وذلك إذا ارتكبت فقط فى زمن الحرب. ومع ذلك، لم يُسأل أحد ويعاقب دوليا على الإطلاق حتى يومنا هذا على ارتكاب جرائم بيئية بموجب هذه المادة، ربما بسبب اشتراط المادة مستوى عاليا جدا من الضرر البيئى، فيجب أن يكون هناك هجوم متعمد يسبب "ضررا شديدا وواسع النطاق وطويل الأجل للبيئة الذى سيكون مفرطا بشكل واضح"؛ ومن ثم فإن التسبب فى تلوث المياه والهواء أو المساهمة فى الإزالة غير القانونية للغابات أو التسبب فى انسكابات النفط، قد يشكل جريمة فى أوقات الحرب، أما فى أوقات السلم، فلا يمكن المقاضاة عن تلك الأضرار البيئية الجسيمة وفقا للنظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية. 

أوضح تقرير الأمم المتحدة لعام ٢٠١٨ بعنوان "الثغرات فى القانون البيئى الدولى والصكوك المتعلقة بالبيئة: نحو ميثاق عالمى للبيئة" أن نظام القانون البيئى الحالى مُجزأ وغير واضح، وفى ظل عدم وجود إطار قانونى موحد، وفى ظل وجود التزامات طوعية وغير ملزمة إلى حد كبير، فإن القانون البيئى الدولى غير قادر على المساءلة عن جرائم الإبادة البيئية وإنفاذ العقوبات الدولية على مرتكبيها.

كما أن مجال تجريم سلوكيات وأفعال تدمير البيئة بموجب القانون الجنائى الدولى مقيد ومحدود للغاية، فغالبًا ما يفوض القانون البيئى الدولى الحماية الجنائية للبيئة إلى الدول الأطراف فى المعاهدات البيئية المتعددة الأطراف. والجرائم التى تُحاكم على هذا النحو هى، فى الواقع، جرائم وطنية، بغض النظر عن حقيقة أنها تتطلب التعاون الدولى لمنعها والمعاقبة عليها.

أما فيما يتعلق بالحماية البيئية التى يوفرها النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية فإنه ذو نطاق محدودة للغاية متعلق بالممارسات التى تتعرض لها البيئة فى إطار الجرائم الأساسية التى تدخل فى اختصاص المحكمة بما تتضمنه من شروط موضوعية صارمة للركن المادى والركن المعنوى للجرائم الأساسية، تجعل من الصعب للغاية النجاح فى الملاحقة القضائية عن جرائم الاعتداء على البيئة بوصفها مرتبطة بالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. وهذا يعنى أن البيئة تعامل على أنها محور ثانوى للجريمة المرتكبة؛ حيث يتم انتهاكها أو الاعتداء عليها يجرم فى حال كونه جزءا من خطة إجرامية أوسع، فقط.

الإبادة البيئية وفقا لورقة سياسات المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية عام 2016:

فى عام ٢٠١٦، اتجهت المحكمة الجنائية الدولية، وللمرة الأولى فى تاريخ المحكمة، نحو التعبير عن نيتها فى الملاحقة القضائية للأضرار البيئية، وأعلن مكتب المدعى العام صراحة فى ورقته السياسية عن استعداده للتحقيق فى الضرر البيئى. وقد وُصفت هذه الخطوة على الفور، من قبل الباحثين الأكاديميين والمنظمات غير الحكومية المعنية بحماية البيئة الطبيعية، باتجاه المحكمة نحو "التحول للأخضر"، حيث عدوا ذلك إشارة إلى أن عصر الإفلات من العقاب عن الجرائم المرتكبة ضد البيئة يقترب من نهايته.

 إلا أنه مع مزيد من التفحص لتلك الورقة السياسية تظهر أهدافها الضئيلة غير حاسمة فيما يتعلق بتناولها للضرر البيئى، حيث تنص الورقة صراحة على أن الضرر البيئى سيؤخذ فى الحسبان عند تحديد خطورة الأفعال الإجرامية الأخرى، دون الإشارة الصريحة للمقاضاة عن الجرائم البيئية؛ فيمكن استنتاج أن هذه الورقة لا تغير الوضع القائم فيما يتعلق باختصاص المحكمة؛  فهى لا تقدم سوى مبادئ توجيهية للمدعى العام عند اختيار القضايا وتحديد أولوياتها، تاركًا الأفعال والسلوكيات المرتبطة بانتهاك وتدمير البيئة داخل دائرة تجريم وعقاب محدودة.Top of Formفلم تضف ورقة السياسات جديدا، فتبقى أجل التحديات التى تواجه حماية البيئة فى ضوء النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية، هى أن نظام روما الأساسى يعمل وفقا لوجهة النظر بشرية التمركز أى: تتمحور حول الإنسان Anthropocentric view، فمحوره الضرر الذى يمس الإنسان بشخصه، فاختصاص المحكمة لا يمتد سوى إلى الأفعال الإجرامية التى تؤثر سلبا فى الإنسان، وأن الأفعال التى تدمر البيئة وتؤذى البيئة الطبيعية فى ذاتها لن تدخل فى نطاق اختصاصها، فقد أثير الجدل مرارا، نتيجة لاستخدام مواد قانونية بشرية التمركز وتطبيقها على حالات الاعتداء على البيئة، وعند المقاضاة عن الضرر البيئى فى حد ذاته؛ حيث تستهدف هذه المواد تجريم الاعتداء المباشر على الإنسان، ويكون إلحاق الأضرار بالبيئة ناتجا ثانويا لذلك الاعتداء، أى أن مثل هذه الأحكام لا تتناول سوى الأضرار التى تلحق بالبشر وتؤثر عرضًا فى البيئة. فلكى يتحقق تحولا "أخضر" حقيقيا فى المحكمة الجنائية الدولية، فإن الأمر يستلزم إنشاء نص قانونى لإدراج الاعتداء على البيئة كجريمة دولية مستحدثة، ويعترف بخطورة الضرر البيئى فى حد ذاته، ويأخذ فى الحسبان الحالات المتنوعة التى قد ينشأ فيها؛ فالإضرار بالبيئة الطبيعية الذى من شأنه أن يحرم الإنسان من حياته الطبيعية هى مسألة فى حد ذاتها تعتدى على حقوقه، وتوسيع حدود العدالة البيئية من أجل حماية فعالة لحق الإنسان فى بيئة نظيفة وآمنة.

النموذج المقترح لتجريم ممارسات الإبادة البيئية:

نجحت جهود فقهاء القانون الدولى فى وضع تصورات لجريمة الإبادة البيئية، وفى يونيو ٢٠٢١، منهم فريق من الخبراء المستقلين قامت بتشكيله مؤسسة "ستوب إيكوسايد (Stop Ecocide Foundation)الذى توصل إلى نموذج تجريمى شامل لتلك الجريمة وتقدم به للمحكمة الجنائية الدولية كمشروع قانون يُضاف للنظام الأساسى لها. لسد الفجوة التشريعية فى نظام روما الأساسى وتوفير الحماية القانونية الجنائية للبيئة من الاعتداءات الدولية الجسيمة، وتوصلوا إلى وضع نموذج تجريمى متكامل لجريمة "الإبادة البيئية"، تضمن تعريفا موسعا لجريمة الإبادة البيئية بأنها: هى تلك الأفعال غير المشروعة أو الوحشية التى تُرتكب مع العلم بأن هناك احتمالا كبيرا لتسببها فى أضرار جسيمة وواسعة النطاق أو طويلة الأجل للبيئة وهو ما يعد تعريفًا شاملا لتلك الجريمة متضمنا الركنين المادى والمعنوى، المقترحين لتوافر تلك الجريمة.

الركن المادى المقترح لجريمة الإبادة البيئية المقترحة:

- تستأثر الجريمة البيئية بطبيعتها الفريدة سواء، فى متطلبات ركنها المادى أى صور السلوك الإجرامى والنتيجة الإجرامية وعلاقة السببية التى تربط بينهم، فتغلب ظاهرة عدم التحديد فى إطار الركن المادى للجريمة البيئية، أى أن النصوص التى تنص على الجريمة البيئية تأتى خالية من التحديد لأفعال السلوك الإجرامى؛ حيث تختلف وتتنوع صور النشاط الإجرامى إلى حد لا يمكن حصرها أو تحديدها فى النصوص التجريمية، لذا لجأت النصوص الدولية التى تجرم تلك الانتهاكات إلى الاكتفاء بالنص على النتيجة الإجرامية وتحديدها، وعلى الرغم من ذلك تميزت النتيجة الإجرامية بالنسبة للجريمة البيئية بالغموض وعدم الوضوح.

فغالبا ما نصت المواد القانونية التى عنيت بحماية البيئة وتجريم الاعتداء عليها على معيار غير محدد كفاية للضرر البيئى - أى النتيجة الإجرامية - المترتب على السلوك الإجرامى المدمر للبيئة، وغالبا ما تتطلب نشوء ضرر شديد وواسع النطاق وطويل الأجل.

الركن المعنوى فى جريمة الإبادة البيئيَّة المُقترحة:

توسعت لجنة الخبراء المستقلين IEPفى نطاق الركن المعنوى لجريمة الإبادة البيئية، وعُدَّت أن العلم بوجود احتمال كبير بتسبب الفعل فى إحداث ضرر جسيم للبيئة سواء كان واسع النطاق أو طويلة الأمد" معيار كاف لتوافر عنصر العلم بالركن المعنوى للجريمة؛ حيث تم اشتراط معيار أدنى درجة للقصد الجنائى فى جرائم الاعتداء الجسيم على البيئة، مقارنة بالمعيار العام المنصوص عليه فى النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية، نظرا للطبيعة الفريدة لجرائم البيئة، فغالبا ما تكون النتيجة الإجرامية لتلك الجرائم متفاوتة وليست دائما واضحة، وغالبا ما تنشأ عن أنشطة غير متعمدة أى دون توفر قصد جنائى مباشر لإلحاق الضرر. وعلى الرغم من أن ذلك الضرر هو ضرر غير مقصود أو غير مباشر إلا أنه يشكل تهديدا حقيقيا للبيئة وللصحة العامة وتوافر أساسيات الحياة للإنسان. ومن ثم صار لزاما معالجة جرائم البيئة بحلول قانونية مبتكرة تأخذ فى الحسبان طبيعتها الفريدة وخصائصها المعقدة. بوصف أن الركن المعنوى اللازم لقيام جريمة الإبادة البيئية أو يكون على غرار ما يطلق عليه الرعونة أو التهور "Recklessness" إحدى صور الخطأ غير العمدى، أى: يكفى أن يكون المتهم على علم باحتمال حدوث الضرر البيئى ومداه لكى تنشأ معه المسئولية الجنائية. ويعمل إقرار ذلك المعيار الأدنى للركن المعنوى على توسيع نطاق المسئولية الجنائية عن جرائم الإبادة البيئية، ويخفف العبء على سلطة الادعاء عند إجراء التحقيقات ورفع الاتهامات، بالمقارنة بالمعيار العام للركن المعنوى فى نظام روما الأساسى، وعلى الرغم من أن التوسع فى نطاق المسئولية الجنائية عن أفعال الإبادة البيئية، يعد مُقنعا من الناحية النظرية، إلا أنه عند التطبيق العملى قد يثير الخلط وعدم الوضوح فى مجال بحث مدى توافر الوعى والإدراك بشأن احتمالية حدوث ضرر، وليس العلم اليقينى بوقوعه وفقا للمعيار العام للركن المعنوى فى النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية.

مستقبل الحماية البيئية:

أكدت الجهود الدولية أهمية حماية البيئة، وتجريم أفعال الإبادة البيئة، وتصدى الفقهاء لوضع تعريف جامع لتلك الجريمة، يضمن حماية جنائية واضحة النطاق تُحقق الأهداف الدولية فى مجال الحفاظ على البيئة، ومع أهمية الجهد المبذول فى ذلك الصدد إلا أنه يتركز فى تضمين جريمة الإبادة البيئية فى النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية، والأمر لا يزال يحتاج إلى الكثير من الجهد لوضع نموذج تجريمى استرشادى يتم الاتفاق علية دوليا، فى معاهدة تنظم المساءلة الجنائية عن أفعال تلويث الفضاء، ولحين الوصول إلى ذلك يمكن الاعتماد على قواعد القانون الدولى العرفى CILفى تعزيز أمن الفضاء وإدانة الممارسات الدولية الخطيرة كاستخدام الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية ومنع تطويرها واستخدامها، وتحفيز الدول اعتماد المبادئ التوجيهية لتخفيف الحطام الفضائى التى وضعتها لجنة استخدام الفضاء الخارجى بالأمم المتحدة وتضمينها فى نصوص قوانينها الوطنيّة، ما يخلق بمرور الوقت أعرافا دولية مقبولة دوليا تكون الأساس للتجريم الدولى لممارسات الإبادة البيئية.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. إيمان طلعت أبو الخير

    د. إيمان طلعت أبو الخير

    مدرس القانون الجنائي - كلية الحقوق بجامعة المنوفية