تحليلات

أبعاد المسئولية الجنائية الدولية عن تلوث الفضاء

طباعة

مع التطور الهائل فى تكنولوجيا الفضاء وتزايد اعتماد المجتمع الدولى عليها نجد أن تكنولوجيا الفضاء تمدنا بأساسيات الحياة، كالاتصالات، والإنترنت، وأصبحت معظم دول العالم تمتلك برامج لتوجد فى هذا المجال. ومع وجود عدد من المعاهدات الدولية المعنية بأنشطة الفضاء، يمكن أن نرصد العديد من التحديات التى تواجه مجتمع الفضاء الدولى، بما فى ذلك التنافس المتزايد للوصول إلى الموارد الفضائية والمخاوف من تراكم الحطام الفضائى وتأثيره فى الأمن الفضائى، وتزايد مشكلات البيئية الفضائية؛ حيث يعدتلوث الفضاء أكبر التحديات التى ستهدد أمن وسلامة البشرية فى الفترة المقبلة، لا سيما فيما يخص مخلفات مخترعات الإنسان السابحة فى الفضاء، كقمر صناعى معطل، وبقايا الصواريخ التى أطلقت الأقمار الصناعية، وهو ما يطلق عليه الحطام الفضائى لهذه المخلفات وهو ما يمكن أن يسبب أضرارًا فادحة للأقمار الصناعية والمركبات الفضائية السابحة فى المدارات حول الأرض، وقد ثبت أن قطعة من الحطام تزن أقل من جرامين يمكن أن تصطدم بجسم آخر بقوة كيلوجرام واحد من مادة TNT. كما أن تكاثر النفايات الفضائية فى المستقبل يمكن أن يسبب تداخل الترددات الراديوية، واستنزاف طبقة الأوزون، وتغير نوعية الهواء، بما يخلق خطورة على مستقبل الطيران الفضائى واستغلال الفضاء والانتفاع به فى الخدمات والأنشطة اليومية، كالملاحة، والاتصالات، ومراقبة الطقس والمناخ، وغيرها، ما لم تتخذ إجراءات فورية للتخفيف من ظاهرة التلوث الفضائى ووضع التشريعات الرادعة حيال ذلك التهديد الجسيم لأمن وسلامة البشرية. فى ظل واقع متمثل فى أن معاهدات الفضاء الدولية لم توفر القدر الكافى من الحماية لبيئة الفضاء.

واقع التنظيم القانونى لحماية البيئة الفضائية:

 هناك دور غائب للقانون الجنائى الدولى فى مجال المُساءلة عن الانتهاكات الجسيمة للبيئة الفضائية، يجعلنا فى حاجة إلى تشريع دولى ملزم يحظر أفعال تدمير بيئة الفضاء، ويعاقب من ارتكبها حيث لم تتعرض أى معاهدة إلى التعريف بمشكلة تلوث الفضاء، أو يُذكر بها مصطلح "الحطام الفضائى" صراحة رغم خطره الشديد فى ظل واقع تراكم الحطام الفضائى والاكتظاظ المرورى فى بيئة الفضاء، كما لم يتوصل المجتمع الدولى إلى معيار حاسم لتحديد نطاق كلٍّ من الغلاف الجوى والفضاء الخارجى.

والمؤكد هو أن القواعد العامة للقانون الدولى لم تعد كافية لحماية البيئة الفضائية، فإذا كانت المعاهدات الدولية تحمل الدولة المُطلِقة المسئولية عن أى ضرر تسببه أجسامها الفضائية، إلا أن هناك صعوبة شديدة فى إثبات عناصر تلك المسئولية فى ظل صعوبة التعرف إلى أصل أغلب أجسام الحطام الفضائى. كما أن مبادئ الأمم المتحدة للتخفيف من حطام الفضاء الصادرة من لجنة الاستخدام السلمى للفضاء، تظل "مع أهميتها"، مجرد مبادئ عامة غير ملزمة، ما يجعلنا فى حاجة ماسة إلى تنظيم القانون الجنائى الدولى لهذا النطاق على أساس أن التجريم الدولى بمنزلة الآلية الأكثر فاعلية فى مجال العقاب والردع القادر على حماية البيئة الفضائية.

حماية البيئة الفضائية وفقا لنظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية:

تعد المادة ٨(٢) (ب) (iv) من نظام روما الأساسى المادة الوحيدة التى تتعرض مباشرة إلى الضرر البيئى كجريمة بما فى ذلك الأفعال المتعمدة التى تؤدى إلى التلويث الخطير لبيئة الفضاء، مثل: إجراء اختبار الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية أو الهجمات المباشرة على الأقمار الصناعية، لتعدها أفعالا مخالفة لقانون الحرب إذا نجم عنها ضرر شديد لبيئة الفضاء غير متناسب مع المكاسب العسكرية المتوقعة أو تم الاستهداف لأعيان مدنية، وعلى الرغم من ذلك تعددت قيود تطبيق تلك المادة، فلا تنطبق هذه المادة إلا فى حالات النزاع المسلح، كما يشترط لقيام المسئولية الجنائية بموجبها، ثبوت قيام حالة الحرب وعلم الدولة صاحبة النشاط الفضائى، فضلا عن أن الشروط المقيدة لصور الضرر البيئى - واسع النطاق وطويل الأجل وشديد-  الناتج عن السلوك الإجرامى والشروط الموضوعية الأخرى لقيام الجريمة وفقًا لنص تلك المادة، تؤكد أن حماية البيئة الطبيعية، تنال قدرا ضئيلا، ولا تزال تعد قضية ثانوية فى القانون الجنائى الدولى.

يؤكد ذلك أن اشتراط القصد الجنائى المباشر كمعيار عام للركن المعنوى فى الجرائم الدولية التى تدخل فى اختصاص المحكمة الجنائية الدولية اشتراطا تقليديا يصعب إثباته عمليا عند المساءلة عن جرائم الاعتداء على البيئة كجريمة دولية؛ حيث تستبعد من نطاق التجريم الممارسات التى تسبب أضرارًا شديدة وكوارث بيئية تهدد السلم والأمن الدوليين، ولكنها تباشر بقصد تحقيق تنمية اقتصادية أو حالات الضرر البيئى التى يسببها الإهمال أو الرعونة، ما يؤكد عدم كفاية النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية لتقرير المسئولية الجنائية الدولية عن أفعال تدمير وتلويث البيئة عمومًا وبيئة الفضاء على نحو خاص.

حماية البيئة الفضائية وفقا لتوجهات المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية:

وُصف إعلان مكتب المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية، من خلال ورقة السياسات الصادرة عنه عام ٢٠١٦، بعزم المحكمة على تصنيف الأفعال التى تؤدى إلى تدمير البيئة كجرائم ضد الإنسانية بأنه "تحول نحو الأخضر"، وأن عصر الإفلات من العقاب فيما يخص جرائم الاعتداء على البيئة قد ولى، لم يقدم ذلك الإعلان سوى مبادئ توجيهية تُراعى عند اختيار القضايا وتحديد الأولويات، تاركًا الأفعال والسلوكيات المرتبطة بانتهاك وتدمير البيئة داخل دائرة تجريم وعقاب محدودة، ليظل تجريم سلوكيات وأفعال تدمير البيئة بموجب القانون الجنائى الدولى مقيدا ومحدودا للغاية. وقد انتشرت دعوات المنظمات الدولية وممثلى المجتمع المدنى من أجل توسيع نطاق القانون الجنائى الدولى ليسمح بملاحقة التصرفات التى تؤدى إلى تدمير البيئة، وظهرت أبرز هذه الجهود فى يونيو ٢٠٢١، فقد اقترحت مجموعة من الخبراء وفقهاء القانون المستقلين تضمين جريمة "الإبادة البيئية" فى النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية، وقدم ذلك الفريق للمجتمع الدولى مسودة لجريمة الإبادة البيئية للعرض على المحكمة الجنائية الدولية سعيا لإلحاق جريمة الإبادة البيئية بالجرائم الدولية الأخرى وتصديق الدول الأطراف عليها.

حماية البيئة الفضائية وفقا للقانون الدولى العرفى:

مع غياب أحكام قانونية ملزمة لحماية البيئة الفضائية بما فيها مشكلة الحطام الفضائى، تحول الفكر إلى تطوير حلول قانونية بديلة غير ملزمة، وتحول فكر المجتمع الدولى إلى إمكانية مساهمة القانون الدولى العرفى CILفى تعزيز أمن الفضاء وإدانة الممارسات الدولية الخطيرة كاستخدام الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية ومنع تطويرها واستخدامها، وقد آتت الجهود الدولية ثمارها، وتم وضع عدة أطر قانونية للممارسات الدولية، للتعامل مع التهديدات فى الفضاء الخارجى، أبرزها المبادئ التوجيهية لتخفيف الحطام الفضائى التى وضعتها لجنة استخدام الفضاء الخارجى فى الأغراض السلمية. وقد لجأت العديد من الدول المرتادة للفضاء إلى النص على هذه المبادئ التوجيهية فى نصوص قوانينها الوطنية. وإذا اتخذت الدول المرتادة للفضاء وتتبعت السلوك ذاته، فإن ذلك بلا شك سيؤدى بمرور الوقت إلى تشكيل أعراف دولية؛ ومن ثم سيسهم فى حظر خلق المزيد من الحطام وغيرها من الممارسات الخطيرة التى تدمر بيئة الفضاء، فيبدأ الأمر من خلال تبنى قواعد ملزمة قانونًا على المستوى الوطنى، ثم يتطور بمرور الوقت لتكون تلك القواعد مقبولة دوليا بناءً على العرف والممارسات المتكررة والاعتقاد بإلزاميتها.

مستقبل حماية البيئة الفضائية:

يتعين أن تكون الغاية فى مجال حماية البيئة الفضائية هى إبرام معاهدة دولية تختص بوضع أحكام حماية البيئة الفضائية ومنح الاختصاص للجرائم الدولية المرتبطة بها للمحكمة الجنائية الدولية، ومع وضع تنظيم للمسئولية عن الأضرار الناتجة الممارسات الفضائية بما فيها المسئولية عن الحطام الفضائى، وتحديد أصل الأجسام الفضائية من خلال استحداث نظام تقنى يطلق عليه "البصمة الفضائية"، من أجل تحديد هوية الأجسام الفضائية، فى سجل دولى تابع للأمم المتحدة، لتيسير إقرار المسئولية عنها، مع إعادة تحديث البيانات المسجلة عقب حدوث التصادمات فى الفضاء، كما يتعين وضع تنظيم لتسجيل مواقع الأجسام الفضائية فى المدارات بالنسبة إلى الأرض، وتحديد الإحداثيات الجغرافية لمكان كل جسم فضائى فى مدار GEOوالمساحة الجغرافية المحددة على سطح الأرض التى يتحرك فوقها، بما يضمن ويوفر المزيد من الشفافية بين الدول ما يسهم فى تحقيق طابع من الاستقرار والأمن فى الفضاء.

 الأهم هو حظر الأنشطة المدمرة لبيئة الفضاء كاستخدام أو اختبار الأسلحة الحركية المضادة للأقمار الصناعية ASAT، وإلزام الدول بتجريم تلك الممارسات الخطيرة فى تشريعاتها الوطنية، وتأكيد الالتزامات الدولية بالتخلص الآمن من المركبات الفضائية بعد انتهاء مهمتها، سواء عن طريق استعادتها إلى الأرض أو إطلاقها فى الفضاء البعيد؛ للحد من المخاطر المستقبلية، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بالتنظيم القانونى للأجسام غير النشطة العالقة فى بيئة الفضاء، كما يتعين الوصول إلى اتفاق دولى يقرر الحد الفاصل بين الفضاء الخارجى والمجال الجوى. كما يتعين ترجمة المبادئ التوجيهية الصادرة من الأمم المتحدة للتخفيف من الحطام الفضائى وتحفيز الدول على اتخاذها مرجعية للتجريم فى تشريعاتها الجنائية الوطنية بما فى ذلك تضمين جرائم الحطام الفضائى، ما يسهم مع الوقت فى تشكيل قاعدة جنائية دولية عرفية تحظر تلويث الفضاء بالحطام الفضائى ما يحقق الحماية الجنائية الدولية لبيئة الفضاء.  

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. إيمان طلعت أبو الخير

    د. إيمان طلعت أبو الخير

    مدرس القانون الجنائي - كلية الحقوق بجامعة المنوفية