تضمن ميثاق المحكمة الجنائية الدولية قاعدتين مهمتين تمثلان ركيزة الاختصاص المقرر للمحكمة؛ الأولى: تقضى باختصاص المحكمة على أكثر الجرائم خطورة التى هى محل اهتمام المجتمع الدولى، الثانية: اختصاص المحكمة هو اختصاص تكميلى للاختصاص الجنائى الوطنى؛ حيث يُفعل اختصاص المحكمة فى حالة تخلى القضاء الوطنى عن ممارسة اختصاصه، سواء كان ذلك لعدم القدرة أو عدم الرغبة - وهو ما يُعرف بمبدأ التكامل (Principle of complementary)- وذلك دون الإخلال بمسئولية الدول وفقا لقواعد القانون الدولى لتسترها على مرتكبى الجرائم الواردة بالمادة الخامسة من نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية وهى: جريمة الإبادة الجماعية- الجرائم ضد الإنسانية- جرائم الحرب- جريمة العدوان.
اعتُمد نظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية فى سنة 1998 ودخل حيز النفاذ سنة 2002، لكنه لم يقدِّم تعريفًا لجريمة العدوان، ومنح اختصاصًا نظريًّا للمحكمة فيما يتعلق بهذه الجريمة، خاصة أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة كان هو الهيئة المختصة الوحيدة ليقرر وجود عمل من أعمال العدوان. ونص نظام روما الأساسى فى المادة 5 على أن: (تمارس المحكمة الاختصاص على جريمة العدوان متى اعتُمد حكم بهذا الشأن وفقا للمادتين 121 و123 يعرِّف العدوان، ويضع الشروط التى بموجبها تمارس المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بهذه الجريمة. ويجب أن يكون هذا الحكم متسقًا مع الأحكام ذات الصلة من ميثاق الأمم المتحدة). وتضع المادتان 121 و123 من النظام الأساسى الشروط اللازمة لتعديل ومراجعة النظام الأساسى، وخصوصا أن تنص على أن يعقد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مؤتمرا استعراضيا لنظام روما الأساسى بعد سبع سنوات من دخول هذا النظام حيز النفاذ.
جريمة العدوان إحدى الجرائم المنصوص عليها فى نظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية
عقد أول مؤتمر استعراضى لنظام روما الأساسى فى الفترة من 31 مايو إلى 10 يونيو 2010 فى كمبالا عاصمة أوغندا. واعتمدت جمعية الدول الأطراف، فى أثناء انعقاد هذا المؤتمر، قرارًا يضم تعريفا لجريمة العدوان ونظامًا يقرِّر كيف ستمارس المحكمة اختصاصها على هذه الجريمة. وقد جاء تعريف جريمة العدوان، الذى اقترحه الفريق العامل الخاص المعنى بجريمة العدوان، أساسًا بوحى من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3314 لسنة 1974.
عرفت جريمة العدوان بأنها "قيام شخص ما فى وضع يتيح له التحكم بالفعل فى العمل السياسى أو العسكرى للدولة أو توجيهه بتخطيط أو إعداد أو شن أو تنفيذ عمل عدوانى من شأنه، بحكم خصائصه وخطورته ونطاقه، أن يعد انتهاكا واضحا لميثاق الأمم المتحدة". وأن أى استعمال للقوة المسلحة من قبل دولة ما ضد سيادة دولة أخرى أو سلامتها الإقليمية أو استقلالها السياسى، أو بأى صورة أخرى تتنافى مع ميثاق الأمم المتحدة يندرج تحت مسمى العمل العدوانى، بالإضافة إلى وجود عدة أفعال تنطبق عليها صفة العدوانية، سواء فى حالة إعلان حرب ما أو دون إعلانها، وذلك طبقا لما جاء فى قرار الجمعية العامة الأمم المتحدة 3314 (د-29) وهى:
1- قيام القوات المسلحة لدولة ما بغزو إقليم دولة أخرى أو الهجوم عليه، أو أى احتلال عسكرى، ولو كان مؤقتا، ينجم عن مثل هذا الغزو أو الهجوم، أو أى ضم لإقليم دولة أخرى أو لجزء منه باستعمال القوة.
2- قيام القوات المسلحة لدولة ما بقذف إقليم دولة أخرى بالقنابل، أو استعمال دولة ما أى أسلحة ضد إقليم دولة أخرى.
3- ضرب أو حصار موانئ دولة ما أو على سواحلها من قبل القوات المسلحة لدولة أخرى.
4- قيام القوات المسلحة لدولة ما بمهاجمة القوات المسلحة البرية أو البحرية أو الجوية أو الأسطولين البحرى والجوى لدولة أخرى.
5- قيام دولة ما باستعمال قواتها المسلحة الموجودة داخل إقليم دولة أخرى بموافقة الدولة المضيفة، على وجه يتعارض مع الشروط التى ينص عليها الاتفاق، أو أى تمديد لوجودها فى الإقليم المذكور إلى ما بعد نهاية الاتفاق.
6- سماح دولة ما وضعت إقليمها تحت تصرف دولة أخرى بأن تستخدمه هذه الدولة الأخرى لارتكاب عمل عدوانى ضد دولة ثالثة.
7- إرسال عصابات أو جماعات مسلحة أو قوات غير نظامية أو مرتزقة من قبل دولة ما أو باسمها تقوم ضد دولة أخرى بأعمال من أعمال القوة المسلحة تكون من الخطورة بحيث تعادل الأعمال السابقة، أو اشتراك الدولة بدور ملموس فى ذلك.
بناء عليه، فإن نظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية نظر إلى جريمة العدوان من زاوية إيجابية، أى على أساس أنها الجريمة التى لا تقوم إلا بقيام سلوك إيجابى يفضى إليها؛ حيث إن التعريف استخدم عبارة "استخدام القوة" دون الإشارة إلى التهديد بها (سلوك سلبى)، ما يعنى أنه لكى تتحقق كل مقومات جريمة العدوان، يجب أن يكون هناك فعل عدوانى مادى، وليس مجرد التفكير أو إبداء النية أو التهديد.
المسئولية الجنائية لمرتكبى جريمة العدوان:
المسئولية الجنائية عن جريمة العدوان هنا هى مسئولية فردية بحيث يُسأل عنها الأفراد المرتكبون للجرائم المنصوص عليها فى المادة الخامسة من النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية، والتى تشمل جريمة العدوان ومثيلاته. فقد رتب النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية المسئولية الجنائية على القادة والرؤساء والأفراد على السواء، فقد أشارت المادة 25 إلى المسئولية الجنائية الفردية للأشخاص الطبيعيين إذا قاموا بارتكاب جريمة تدخل فى اختصاص المحكمة حال قيامهم بما يلى:
[أ] ارتكاب جريمة سواء بصفته الفردية أو بالاشتراك مع آخر أو عن طريق شخص آخر، بغض النظر عما إذا كان ذلك الآخر مسئولا جنائيا.
[ب] الأمر أو الإغراء بارتكاب أو الحث على ارتكاب جريمة وقعت بالفعل أو شرع فيها.
[ج] تقديم العون أو التحريض أو المساعدة بأى شكل آخر لغرض تيسير ارتكاب هذه الجريمة أو الشروع فى ارتكابها بما فى ذلك توفير وسائل ارتكابها.
[د] المساهمة بأى طريقة أخرى فى قيام جماعة من الأشخاص - يعملون بقصد مشترك - بارتكاب هذه الجريمة أو الشروع فى ارتكابها، على أن تكون هذه المساهمة متعمدة، وأن تقدم: (1) إما بهدف تعزيز النشاط الإجرامى أو الغرض الإجرامى للجماعة، إذا كان هذا النشاط أو الغرض منطويا على ارتكاب جريمة تدخل فى اختصاص المحكمة.(2) أو مع العلم بنية ارتكاب الجريمة لدى هذه الجماعة.
[ه] فيما يتعلق بجريمة الإبادة الجماعية، التحريض المباشر والعلنى على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.[و] الشروع فى ارتكاب الجريمة عن طريق اتخاذ إجراء يبدأ به تنفيذ الجريمة بخطوة ملموسة, ولكن لم تقع الجريمة لظروف غير ذات صلة بنية الشخص - ومع ذلك - فالشخص الذى يكف عن بذل أى جهد لارتكاب الجريمة أو يحول بوسيلة أخرى دون إتمام الجريمة لا يكون عرضة للعقاب بموجب هذا النظام الأساسى على الشروع فى ارتكاب الجريمة إذا هو تخلى تماما وبمحض إرادته عن الغرض الإجرامى.
وقد أشارت المادة 28 إلى مسئولية القادة والرؤساء نتيجة لعدم ممارسة الرئيس أو القائد العسكرى حال سيطرته على هذه القوات إذا اتخذت شكلا من الأشكال التالية:
1- العلم أو افتراض العلم بقيام القوات والمرءوسين الذين تحت سيطرته بارتكاب جرائم أو على وشك ارتكاب جرائم التى تختص بها المحكمة الجنائية الدولية.
2- إذا لم تتخذ التدابير اللازمة والمعقولة لمنعهم وإحالتهم للتحقيق والقضاء.
أركان جريمة العدوان كما أشار إليها مؤتمر كمبالا فى أوغندا عام 2010:
كانت جريمة العدوان "Crime of Aggression"من الجرائم التى وقف طويلا الفقه القانونى الدولى أمامها، محاولا إيجاد توازن بين حق المحكمة الجنائية الدولية فى محاكمة مرتكبها وبين اختصاص مجلس الأمن فى الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، فقد دار جدل طويل دون التوصل إلى تعريف لجريمة العدوان. وقام الرأى القائل بإدراج هذه الجريمة على أساس الجسامة القصوى لهذه الجريمة والآثار الدولية الفادحة المترتبة عليها، فيما قام الرأى المعارض على أساس عدم التوصل إلى تعريف دقيق لهذه الجريمة. ومن ناحية أخرى فقد امتد النقاش إلى دور مجلس الأمن فى هذا الشأن. بيان ذلك أن المادة (39) من ميثاق الأمم المتحدة تنص على أن مجلس الأمن يختص بتقرير قيام حالة "العدوان"act of aggression" "، بما مفاده أن تحديد قيام هذه الحالة يتصل مباشرة بدور مجلس الأمن فى الحفاظ على السلم والأمن الدوليين. وقد كان من بالغ الدقة الوصول إلى حل متوازن يحفظ لمجلس الأمن اختصاصه المقرر بمقتضى ميثاق الأمم المتحدة، فى الوقت ذاته الذى يحافظ فيه ويضمن الاستقلال القضائى الواجب تقريره للمحكمة.وفى مؤتمر كمبالا تم وضع أركان لجريمة العدوان على النحو التالى:
[1] قيام مرتكب الجريمة بتخطيط عمل عدوانى أو بإعداده أو بدئه أو تنفيذه.
[2] كون مرتكب الجريمة شخصا فى وضع يمكِّنه من التحكم فعلا فى العمل السياسى أو العسكرى للدولة التى ارتكبت العمل العدوانى أو من توجيه هذا العمل، قد يوجد أكثر من شخص واحد تنطبق عليهم هذه المعايير.
[3] ارتكاب العمل العدوانى المتمثل فى استعمال القوة المسلحة من جانب دولة ما ضد سيادة دولة أخرى أو سلامتها الإقليمية أو استقلالها السياسى أو بأى صورة أخرى تتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة.
[4] كون مرتكب الجريمة مدركا للظروف الواقعية التى تثبت أن استعمال القوة المسلّحة على هذا النحو يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة.
[5] العمل العدوانى يشكل، بحكم طابعه وخطورته ونطاقه، انتهاكا واضحا لميثاق الأمم المتحدة.
[6] كون مرتكب الجريمة مدركا للظروف الواقعية التى تثبت هذا الانتهاك الواضح لميثاق الأمم المتحدة.
تفعيل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية فى نظر جريمة العدوان:
بعد سبع سنوات من اجتماع كمبالا وفى 15 ديسمبر 2017 فى نيويورك اتخذت جمعية الدول الأطراف فى نظام روما الأساسى قرارًا بتفعيل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على جريمة العدوان بدءًا من 17 يوليو 2018، فصاعدًا. واعتُمد قرار التفعيل بعد مفاوضات مكثفة بشأن أحد جوانب الاختصاص القضائى التى ظلت مثيرة للجدل منذ اعتماد تعديلات كمبالا حول جريمة العدوان. وبذلك يُكمل الإنجاز المحرز فى نيويورك أعمال مؤتمرى روما وكامبالا، ويمثل ذروة رحلة رائعة مدتها قرن من الزمان. وعلى الرغم من بعض المآخذ، فإن توافق الآراء الذى جرى التوصل إليه فى مقر الأمم المتحدة يطلق نداءً فى الوقت المناسب إلى ضمير البشرية بشأن الأهمية الأساسية لحظر استخدام القوة فى أى نظام قانونى دولى يهدف إلى حفظ السلم العالمى.وكانت الدول الأعضاء قد حدث خلاف بينها حول كيفية تطبيق جريمة العدوان، وكادت تحدث أزمة بين الدول بين قابل ورافض لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية إلا أنهم توصلوا فى النهاية إلى قرار يسمح للمحكمة الجنائية بالنظر فى جريمة العدوان عملا بالفقرة 1 من منطوق قرار التفعيل، سيتم تفعيل اختصاص المحكمة بداية من 17 يوليو 2018؛ حيث زودت الدول الأطراف المحكمة بمساحة أخيرة لإجراء التعديلات القليلة اللازمة لتمكين الدائرة التمهيدية فى المحكمة الجنائية الدولية للقيام بدورها القضائى غير المسبوق بموجب المادة 15 مكرر (8) من النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية. وبدءًا من 17 يوليو 2018 فصاعدا، سيكون على المحكمة أن تشير إلى الكيفية التى سيطبق بها القانون عمليًّا؛ حيث يقوم مكتب المدعى العام بالإشارة فى وقت مبكر إلى أنه سيأخذ على محمل الجد الرسالة الأساسية التى يرتكز عليها الشرط الحدى الوارد فى المادة 8 مكرر (1) من النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية: وهو أن التعريف الجوهرى لجريمة العدوان لا يغطى سوى استخدام القوة من قبل الدولة التى تصل إلى مستوى كبير من الجسامة والذى يُعد غير قانونى بشكل لا لبس فيه.
ختاما:
على الرغم من أن المحكمة الجنائية الدولية هى الكيان الدولى الوحيد المكلف بالفعل بتحقيق العدالة غير المتحيزة؛ فإن الولايات المتحدة الأمريكية التى لم تسمح بإصدار أى قرار ضد إسرائيل فى مجلس الأمن بل منعت وقف الحرب، ورأت ما تقوم به إسرائيل يدخل فى إطار الدفاع عن النفس. وعلى الرغم من أن إسرائيل ليست عضوا فى النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية فهذا لا يمنع المحكمة فى محاكمة قادتها باعتبار فلسطين عضوا فى المحكمة، لذا يجب وقوف كل الدول بجوار فلسطين لمحاكمة القادة الإسرائيليين.
لكن هذا سيكون من الصعب فى ظل ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية التى سبق أن عدلت بتاريخ 6 مايو سنة 2002 توقيعها على ميثاق المحكمة فى 31 ديسمبر 2000"unign the treaty"، كما أصدرت قانونًا فى أغسطس سنة 2002 يمنع الدول الأعضاء فى نظام المحكمة التى لم تبرم اتفاقات مع الولايات المتحدة استنادًا إلى المادة (98) من الميثاق بشأن عدم تسليم الرعايا الأمريكيين إلى المحكمة، من الاستفادة من المعونات، ويرمز إلى القانون بالرمز الآتى: "ASM"أى: "American Service Members Act".
كانت دولة فلسطين قد تقدمت فى الماضى بعدد من الشكاوى لتوضح الجرائم الإسرائيلية أمام المحكمة الجنائية الدولية، وقررت الدائرة التمهيدية للمحكمة الصادر فى 5 فبراير 2021 بأغلبية اثنين إلى واحد، أن للمحكمة اختصاصا قضائيا على دولة فلسطين التى تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، بوصفها دولة طرفا فى ميثاق روما. وقد أتى هذه القرار بعد أن أقرت المدعية العامة للمحكمة وقتها فاتو بنسودا فى عام 2019، بوجود "أساس معقول للشروع فى إجراء تحقيق فى الحالة فى فلسطين"، وبأن "جرائم حرب قد ارتكبت أو تُرتكب فى الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة"، لكنها طلبت من الدائرة التمهيدية للمحكمة البتّ فى نطاق الاختصاص الإقليمى للمحكمة؛ أى ما النطاق الإقليمى لهذا الاختصاص؟ ذلك أن حدود دولة فلسطين غير محددة حتى الآن.
أما وأن المدعى العام الحالى كريم خان قد تقدم بطلب إصدار أمر قبض بحق القادة الإسرائيليين لارتكابهم جرائم ضد الإنسانية منها: الإبادة - القتل العمد - أخذ الرهائن- الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسى - التعذيب - أفعال لا إنسانية أخرى- المعاملة القاسية - الاعتداء على كرامة الشخص، فإننا ننتظر من المدعى العام أن يطالب بمحاكمة القادة الإسرائيليين أيضا بجريمة العدوان التى أصبحت واضحة وجلية، فهل يقوم مجلس الأمن فى ظل وجود الفيتو الممنوح دائما وباستمرار لدولة إسرائيل من جانب الولايات المتحدة الأمريكية بالسماح بمحاكمة قادة إسرائيل على جريمة العدوان التى يرتكبونها يوميا فى حق شعب فلسطين الأعزل؟!