تحليلات

لبنان فى فراغ الرئيس الثالث عشر

طباعة

منذ نهاية شهر أكتوبر عام 2022 يعيش لبنان أزمة خلو منصب الرئيس،بعد أن انتهت ولاية  الرئيس ميشال عون قبل أن يتم ترتيب الأجواء التى سيكون عليها قصر بعبدا مقر الرئاسة اللبنانية بعد خروجه.

ينص الدستور اللبنانى على أن ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السرى بغالبية الثلثين من مجلس النواب فى الدورة الأولى، ويكتفى بالغالبية المطلقة فى دورات الاقتراع التى تلى. وتدوم رئاسته ست سنوات، ولا تجوز إعادة انتخابه إلا بعد ست سنوات لانتهاء ولايته. ولا يجوز انتخاب أحد لرئاسة الجمهورية ما لم يكن حائزا الشروط التى تؤهله للنيابة وغير المانعة لأهلية الترشيح (مادة 49).

تتعدد الاجتهادات حول لماذا يفشل لبنان فى انتخاب رئيس جديد عند كل استحقاق رئاسى؟ وذلك على الرغم من المحاولات التى تبدو طبيعية من جانب مجلس النواب المنوط به انتخاب الرئيس فى تكرار عقد الجلسات التى بلغت 12 جلسة تأتى بناء على دعوة نبيه برى رئيس المجلس للأعضاء وعددهم 128 نائبا للتصويت بورقة سرية.

ينص الدستور اللبنانى أيضا على أن مجلس النواب الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعد هيئة انتخابية لا هيئة  تشريعية راعية، ويترتب عليه الشروع حالا فى انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أى عمل آخر(مادة 75).

 هذا الإطار الدستورى لا يكفل وحده تمرير انتخاب الرئيس، فى ظل طموح لا ينتهى للزعماء فى الطائفة المارونية بتولى المنصب، وفعل كل ما يمكن من أجله.

 لكن التعقيدات فى موضوع الرئيس متنوعة ولها أشكال متباعدة؛ فى المقدمة منها التدخلات الإقليمية التى ترهن القرار اللبنانى بتعقيدات المشهد الإقليمى، ولا أدل على ذلك من اختراع لبنان السياسى بدعة  التصويت بورقة بيضاء من جانب أعضاء مجلس النواب لتفويت فرصة نجاح المرشح الرئاسى ليس من باب الاحتجاج، ولكن الورقة البيضاء كانت تنفيذا لتوجيه قيادة الحزب، وابتكرها حزب الله وحركة أمل.

 خلال الجلسات الاثنتى عشرة التى عقدها المجلس النيابى لانتخاب الرئيس  كانت الورقة البيضاء هى قرار التصويت من جانب نواب حزب الله وحركة أمل.

المفارقات فى موضوع الرئيس حاضرة، فالرقم توقف عند تجاوز الرئيس الثالث عشر، وهو الرقم الذى لا يرتاح إليه الكثيرون.

الخلاف حول هذا الاستحقاق ينبع من حرص كل فريق سياسى داخلى فى لبنان على أن يكون الرئيس لا يعارض النهج الفكرى له، فهناك قوى تتحالف فكريا مع إيران وسوريا، وقوى تتحالف مع الولايات المتحدة، ودولة عربية تعارض توجهات حزب الله، وكل فريق يخشى من تصعيد رئيس لا يحظى بالقبول منها، ومن هنا جاء مصطلح الرئيس التوافقى وهو أمر غاية فى الصعوبة، ولهذا يدعو البعض إلى تصعيد اسم قائد الجيش العماد جوزيف عون، ويرون فيه الأقرب إلى توصيف التوافقى، فى ظل تمسك حزب الله باسم الوزير سليمان فرنجية، ومحاولات القوى الأخرى فى الوصول باسم الدكتور جهاد أزعور، وأمام هذا العناد السياسى يبقى لبنان على حاله بدون رأس، وسط صراعات داخلية وإقليمية لا تنتهى.

 تنص المادة 73  فى الدستور اللبنانى قبل موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية بمدة شهر على الأقل أو شهرين على الأكثر يلتئم المجلس بناء على دعوة من رئيسه لانتخاب الرئيس الجديد.
إذا لم يدع المجلس لهذا الغرض، فإنه يجتمع حكما فى اليوم العاشر الذى يسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس. وهنا ينص الدستور بمواد ملزمة، لكن على أرض الواقع يبقى لبنان دون رئيس، ما يشير إلى أهمية وجود آلية ملزمة، ومع هذا لا يسمح بتمديد ولاية الرئيس، ومنذ عهد الرئيس بشارة الخورى، رئيس الاستقلال الأول، لم يتمكن سوى هو من تجديد ولايته الرئاسية لمدة 6 سنوات إضافية، وهذا ما حصل للمرة الأولى والأخيرة؛ إذ عجز الرؤساء الـ 13 الذين تولوا الحكم من بعده، عن تحقيق ذلك باستثناء الرئيسيين إلياس الهراوى وإميل لحود، اللذين جرى التمديد لهما 3 سنوات فقط، وفى أثناء الوجود السورى فى لبنان الذى كان يتمتع بدور بارز فى القرار السياسى اللبنانى. كما أن الرئيس بشارة الخورى أجبر على تقديم استقالته فى منتصف ولايته تحت ضغط القوى السياسية.

وهذا ما يعطى لبنان الشكل الديمقراطى المتمسك بعدم تجديد ولاية الرئيس، وترك قصر الحكم بعد السنوات الست، فى الوقت الذى لا يهتم لبنان بانتخاب رئيس يخلفه ويترك القصر شاغرا ومقعد الرئيس بدونه لسنوات، ويحتدم الخلاف حول الأسماء والتوازنات بين القوى اللبنانية.

 فى 30 أكتوبر 2022 غادر عون القصر تاركا من خلفه لبنان غير المستقر، لم يستثمر علاقاته مع حزب الله فى ترتيب البيت بالمرونة التى تمكن مجلس النواب من انتخاب رئيس  جديد يخلفه، وضع عقبة أمام انتخاب الرئيس تتمثل فى أنه يريد أن يخلفه صهره جبران باسيل رئيس التيار الوطنى الحر، الشخصية البارزة فى التيار والطموح، غير أن أرضية القبول السياسى وسط القوى اللبنانية لا تمكنه من ذلك، فضلا عن أنه مدرج على قوائم العقوبات الأمريكية.

فى المقابل، يتقدم اسم الوزير السابق سليمان فرنجية زعيم تيار المردة والمقرب من حزب الله وحركة أمل فى السباق، غير أنه يصطدم برفض قوى وازنة داخل الطائفة المارونية التى ينص العرف فى لبنان على أن يكون رئيس الجمهورية من الطائفة المارونية، ويرفض حزب القوات اللبنانية الذى يتزعمه الدكتور سمير جعجع، وكذلك حزب الكتائب الذى يقوده النائب سامى الجميل نجل الرئيس اللبنانى الأسبق أمين الجميل وحفيد مؤسس الكتائب الشيخ بشير الجميل، وترفض قوى لبنانية أخرى من خارج الموازنة اسمه، منها الحزب التقدمى الاشتراكى وغيره، ولم تفلح الحلول التوافقية فى تصعيد شخصية توافقية فى الوقت الذى يتحدث فيه الجميع عن ضرورة انتخاب رئيس توافقى، وطرحت القوى السياسية التى كانت تسمى الرابع عشر من آذار اسما بديلا للنائب ميشال معوض الذى كان قريبا من الفوز فى المرات التى تنافس فيها على المنصب على مدى 10 جلساته، لكنه لم يتمكن من تحقيق نسبة ثلثى الأعضاء  فى المحاولة الثانية عشرة على التوالى منذ أكتوبر قبل  الماضى، بعد عدم تحقيق أى من المرشحين النسبة المطلوبة.

وحصل المرشح جهاد أزعور على 59 صوتا فى مقابل 51 لمنافسه سليمان فرنجية، المدعوم من حزب الله. ولم يحدد رئيس مجلس النواب، نبيه برى، موعدا لعقد جلسة ثانية لإعادة التصويت.

يحتاج المرشح فى الدورة الأولى من التصويت إلى غالبية الثلثين أى 86 صوتا للفوز. وتصبح الغالبية المطلوبة إذا جرت دورة ثانية 65 صوتا من 128 هو عدد أعضاء البرلمان. لكن النصاب يتطلب الثلثين فى الدورتين، ولا يملك أى فريق سياسى أكثرية برلمانية تخوله فرض مرشحه المفضل.

على هذا النحو يعيش لبنان وسط متغيرات دولية تجعل الأولويات غير مرتبة فى مصلحة لبنان الذى يشتبك ميدانيا فى جبهة الجنوب مع إسرائيل منذ السابع من أكتوبر الماضى بعد بدء حرب إسرائيل على غزة، كما أنه بلد مثقل بواقع اقتصادى غير مسبوق وارتباط فى المصارف وعدم ثقة بين الجهاز المصرفى والمواطن فى لبنان إثر قرار الحكومة اللبنانية فى عهد رئيس الوزراء حسان دياب أن بلاده ستعلق دفع الديون المستحقة، وأن "الدين أصبح أكبر من قدرة لبنان على تحمله وأكبر من قدرة اللبنانيين على تسديد فوائده"، وأن البلاد "تسعى لإعادة هيكلة ديونها بما يتناسب مع مصلحتها الوطنية عبر خوض مفاوضات". وقال فى رسالة وجهها إلى اللبنانيين: إن الاحتياطات "بلغت مستوى حرجا وخطيرا، يدفع الحكومة اللبنانية إلى تعليق استحقاق 9 آذار/مارس من سندات اليوروبوند".

فى الظاهر، يبدو أن البعض قد تجاوز هذه الصدمة لكن فى الأعماق مرارة كبرى من تأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية وحسرة كبيرة تجعل شريحة مما كانوا فى صف الرئيس يهاجمونه ليل نهار بأنه لم يحافظ على العهد القوى ويترك لبنان وطنا قويا متماسكا. يزيد من الغموض فى المشهد أن الخلاف تحول بين القوى السياسية حول رفض أو قبول دعوة رئيس المجلس النيابى عقد طاولة حوار تجمع قيادات الأحزاب الفاعلة لإيجاد توافقى على اسم الرئيس؛ حيث يعترض البعض داخل البرلمان ومن قيادات الأحزاب على ذلك، متمسكين بأن البرلمان وحده لديه سلطة الانتخابات وفق الاقتراع السرى، ولا معنى من حوار فى بلد ينتهج الديمقراطية، وهى كلمة يحتار الخبير فى وضعها فى السياق المناسب فى الحالة اللبنانية؛ ففى الشكل مظهر واسع للديمقراطية، وفى التطبيق جذور الطائفية تتغلغل، وبين هذا وتلك يمر لبنان بفعل صناع القرار بما اعتاده من استهلاك لوقت وتقديم الحجج التى تبرر ما لا يبرر، وتمنح اللامنطق فعل المنطق.

طباعة

    تعريف الكاتب

    ماهر مقلد

    ماهر مقلد

    مدير تحرير الأهرام- متخصص فى الشئون العربية