"إسرائيل لم تولد من وعد بلفور عام 1917، ولم تولد كذلك من المشروع الصهيونى، ولكنها ولدت قبل ذلك من المشروع الاستعمارى الأوروبى الكبير الذى ظهر خلال ترنح الإمبراطورية العثمانية، وعندما انتقلت أوروبا القوية إلى شرق البحر الأبيض وقناة السويس.. وكانت كل دولة أوروبية قوية تبحث عن أقلية دينية فى الشرق لتزعم حمايتها، أو تفرضها، لتبرر مد نفوذها إلى الشرق..".
تلك كانت فقرة من كتاب "نحو تاريخ دنيوى لفلسطين" للكاتب المصرى لطف الله سليمان، وقد اختار عنوانا غير أكاديمى "نحو تاريخ" بدلا من "تاريخ"، وأراد أن ينزع الأساطير السياسية والدينية والخرافية التى روجتها الصهيونية حول فلسطين وإسرائيل؛ لأنه يعتقد أن ما يلزم الباحث والقارئ هو وضع الحقائق وترتيبها تباعًا وتحليلها على ضوء التطورات "الدنيوية" بعيدا عن كثير من المهاترات "العقائدية".
فقد ادعت حينذاك روسيا القيصرية أنها حامية الطائفة الأرثوذكسية؛ لأنها ابنة هذه الكنيسة، وادعت فرنسا أنها وليدة الثورة ومبادئ حقوق الإنسان، وادعت كذلك أنها ابنة الكنيسة الكاثوليكية، وبحثت عن الطائفة المارونية الكاثوليكية فى لبنان، وقد وجدت إنجلترا الاستعمارية ضالتها فى الطائفة اليهودية.
صدر الكتاب فى نهاية القرن الماضى، وفى تعريف الكاتب، ذكر الكاتب الصحفى الشهير الراحل كامل زهيرى:"أنه مواطن مصرى عاش الثورة وما قبلها وبعدها، وعاصر عدة حروب ثم هاجر إلى فرنسا منذ عشرين عاما، وقد هاجر من مصر، ولكنه لم يهجرها. وعاش سنوات قبل فرنسا فى الجزائر، وقد عرفته منذ الأربعينيات، وكانت هوايته هى قراءة الكتب وطبعها وبيعها، وكان صاحب أشهر مكتبة ثقافية وسط القاهرة، وكانت ميزاته أنه يختار كتبه ويقرأها قبل أن يبيعها، فكان يستورد أحدث الكتب اللازمة لعباس محمود العقاد قبل أن يطلبها العقاد؛ لأنه يعرف ذوقه واهتمامه، ولهذا صادقه أغلب زبائنه من الكتاب والمثقفين، ورأيت فى مكتبته عباس محمود العقاد وسلامة موسى، كما رأيت بن بيلا وحسين أية وعلال الفاسى، وقد أسس لطف الله سليمان "دار النديم" التى نشرت عديدا من الكتب المهمة فى الخمسينيات".
يرى أهل العمل السياسى أن فضل هذا الكتاب يكمن فى أنه كتاب فى تاريخ فلسطين لم يكتبه مؤرخ أكاديمى، ولكن كتبه مواطن مصرى، عاش أحداث مصر وفلسطين حتى بلغ السبعين، وأصبح بعد تجربة طويلة لا يملك شيئا غير الحقيقة، فكتبها فى كتاب بفرنسية بليغة واضحة جميلة.
وفضل هذا الكتاب كبير؛ لأنه يحذر القراء من أن يقلبوا الآن صفحة فلسطين ويظنوا أنها صفحة جديدة تماما، فآفة الحياة السياسية هم هؤلاء الذين يأكلون خبزهم من اليد إلى الفم، يوما بيوم، ولا ينظرون إلى التاريخ، ولا يستخلصون منه العبرة، فيفقدون القدرة على رؤية المستقبل.
ويرى "زهيرى" أن المؤلف يقترب بفكرته من فكرة قرأها منذ سنوات طويلة للشاعر الفرنسى لامارتين فى كتابه "رحلة فى الشرق"، وكثيرون يعرفون عندنا أن لامارتين صاحب قصيدة البحيرة المترجمة إلى العربية، وهى قصيدة فى غاية الرقة والصفاء، ولكنهم قد لا يعرفون أن لامارتين اشتغل أيضا بالسياسة إلى جانب الشعر، حتى أصبح وزيرا، وقد زار المشرق العربى فى تلك الرحلة التقليدية التى دأب عليها أدباء فرنسا وفنانوها، إما من مارسيليا إلى الإسكندرية حتى الصعيد، ثم يصعدون إلى المشرق حيث القدس ودمشق وبيروت، وإما من مارسيليا إلى بيروت، فالقدس إلى سيناء ثم ينزلون إلى الأقصر ووادى الملوك، وينتهون بالإسكندرية.
ما يلفت النظر إليه مؤلف الكتاب أن علينا أن نعود إلى ما قبل وعد بلفور، وقبل المؤتمر الصهيونى الأول فى مدينة بال بسويسرا؛ لأن المشروع الصهيونى ولد قبلها يوم تحركت أوروبا صوب المشرق العربى فى اتجاه شرق البحر الأبيض وقناة السويس.
إن المشروع الصهيونى ولد على يد بالمرستون ودزرائيل من ساسة بريطانيا قبل أن يتسلمه تيودور هرتزل، أو حتى يفكر فيه ليون بنسكر من أصحاب الدعوة الصهيونية.
وقد كان مبرر هذا المشروع أصلا هو وصول محمد على والى مصر إلى أبواب الآستانة يوم هدد السلطان العثمانى.
ـ فماذا لو قامت دولة قوية فى المشرق تقوم على العلم والصناعة والبحرية واستطاعت الاستقرار والاستمرار؟
ويقول لطف الله سليمان: إن فكرة إقامة الحائط البشرى بين آسيا وإفريقيا هى الأصل الذى سبق الدعوة الصهيونية؛ لأن أوروبا لم تكن تسمح بظهور مزاحم جديد لها يظهر فى الشرق ومن مصر بالذات.
ويستند المؤلف إلى أن التايمز اللندنية تحدثت فى يناير 1839 ـ أى منذ مائة وخمسين عاما بالتمام والكمال ـ عن "عودة اليهود إلى فلسطين"، وعادت التايمز بعد عام فى 20 مارس 1840 إلى نشر مذكرة موجهة إلى ملوك ورؤساء روسيا القيصرية، وفرنسا، والنمسا، والمجر، وإسبانيا، وبروسيا، وأيرلندا، والدانمارك، والأراضى الواقعة ـ هولندا ـ والسويد، والنرويج، بل إلى الكانتونات السويسرية، والولايات المتحدة. وكانت المذكرة تحمل هذا العنوان الواضح "إعادة اليهود فى فلسطين"، وقالت إن هذا هو حل "المسألة الشرقية".
يشير المؤلف أيضا إلى أن موسى مونتفيورى أحد أقارب الفرع البريطانى من عائلة روتشيلد زار مصر عام 1839، واستقبله محمد على فى 13 يوليو 1839، أى منذ 150 عاما بالتمام والكمال.
(وللمقال تتمة)