تابع العالم باهتمام بالغ قرارات محكمة العدل الدولية التى جاءت وفق التطلعات والآمال إلى حد كبير, فقد أصدرت المحكمة قرارات تاريخية ومصيرية باتخاذ التدابير المؤقتة لوقف الإبادة الجماعية فى قطاع غزة, واتخاذ جميع الإجراءات لضمان وصول المساعدات الإنسانية, وأمرت المحكمة إسرائيل بتقديم تقرير للمحكمة خلال شهر بمدى ما تفعله للتنفيذ. قرارات جاءت بترحيب الأوساط الدولية المتطلعة لوقف المجازر وإيصال المساعدات,ليشهد العالم منعطفا تاريخيا وارتدادات جيوسياسة غير مسبوقة وإرهاصات التغيير بعد هذا الحكم, فلأول مرة تعزل إسرائيل وتنكشف أعمالها التى راوغت من أجلها عقودا بكل العلل والحجج, وأيضا هو حكم كاشف للدول التى انحازت إلى إسرائيل بالتقارب غير المسبوق معها والدعم اللوجيستى لها فى حربها على غزة.
لكن تظل سيناريوهات ما بعد هذه القرارات ضبابية فى ظل التعنت الإسرائيلى والفيتو الأمريكى. حكم انتصرت فيه جنوب إفريقيا التى ذاقت وعانت التمييز العنصرى ومرارة الاستعمار مثل شعب غزة. لذا، دفعت بقوة من أجل خروج هذه القرارات، ولاقت دعما عربيا واسعا من أجل الوصول إلى هذه اللحظة التاريخية, فقد طلبت دولة جنوب إفريقيا من محكمة العدل الدولية 29 ديسمبر الماضى إصدار أمر عاجل لانتهاك إسرائيل لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية عام 1948؛ حيث إن جنوب إفريقيا هى طرف فى هذه الاتفاقية مثل إسرائيل، وكانت تأمل فى صدور قرار بوقف إطلاق النار لكنها رحبت بالقرار واصفة إياه بأنه انتصار حاسم لسيادة القانون.
القرارات التاريخية:
- صوت أغلبية أعضاء لجنة المحكمة المؤلفة من 17 قاضيا لمصلحة اتخاذ إجراءات عاجلة لتلبية معظم ما تقدمت به دولة جنوب إفريقيا باستثناء توجيه الأمر بوقف إطلاق النار ووقف الحرب.
- على إسرائيل أن تتخذ كل الإجراءات التى فى وسعها لمنع ارتكاب جميع الأفعال ضمن نطاق المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية.
- لا بد من أن ترفع إسرائيل تقريرا للمحكمة خلال شهر بشأن التدابير المؤقتة.
- حق حماية الفلسطينيين فى غزة من أعمال الإبادة الجماعية.
- التزام إسرائيل بتجنب الاعتداء والتدمير والقتل بحق سكان غزة.
- اتخاذ إجراءات عاجلة بدخول المساعدات إلى قطاع غزة.
سيناريوهات ما بعد القرار:
إن ما تم اتخاذه من قبل العدل الدولية هو بمنزلة إجراءات وقتية فقط لكن يبقى أصل الدعوى قائما، وهى تهمة ارتكاب الإبادة الجماعية, فما اتخذته المحكمة هو قرارات للأزمة الإنسانية التى تتعرض لها غزة، وإلزام إسرائيل بها, فالقرار هو قرار استثنائى، أى قرار مبدئى، فلم تقرر المحكمة ما إذا كانت إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ويحتاج هذا القرار إلى سنوات, وتتمثل سيناريوهات ما بعد القرار فى الآتى:
- الخلاف من الناحية القانونية على وقف إطلاق النار باعتبار ذلك صيغة سياسية وليست قانونية وهو مصطلح سياسى وليس قانونيا.
- كان للمحكمة قضية مماثلة (قضية روسيا وأوكرانيا) واعتبرت فيها المحكمة أن المصطلح قانونى لأن الحرب بين جيشين نظاميين.
- لا يمكن تنفيذ التدابير الاحترازية إلا بوقف إطلاق النار.
- لا يمكن دخول المساعدات الإنسانية فى ظل تحفظ إسرائيل واستمرار العدوان.
- قرارات المحكمة نهائية وليست تنفيذية، ومن ثم ستتم الإحالة إلى مجلس الأمن، وهنا سيصطدم بالفيتو الأمريكى.
- هذا الحكم من شأنه أن يكون حافزا لدول أخرى لرفع دعوى مماثلة فى حال إذا لم تستجب إسرائيل.
- التزمت المحكمة بالإجراءات المؤقتة فقط فى قضية جامبيا ضد ميانمار، ومن ثم من الممكن أن يتم ذلك فى البت للإبادة الجماعية مستقبلا لإسرائيل.
الرفض الإسرائيلى للحكم:
رفضت إسرائيل الانصياع لقرارات محكمة العدل الدولية باتخاذ جميع الإجراءات لمنع الإبادة الجماعية، وخرج رئيس الوزراء الإسرائيلى مؤكدا استمرار إسرائيل فى الدفاع عن نفسها, وقد رفضت المحكمة قبول طلب إسرائيل الذى تقدمت به لرفض النظر فى الدعوى التى تقدمت بها دولة جنوب إفريقيا ضدها, وأصرت المحكمة على عدم رفض قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل، وأن لفلسطين الحق فى الخضوع للحماية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، فجاء الحكم لفرض إجراءات طارئة ضد إسرائيل بعد اتهامها أمام محكمة العدل الدولية بارتكاب جرائم إبادة جماعية بعملياتها العسكرية على قطاع غزة، وشمل الرد الإسرائيلى على الحكم ما يلى:
- علق نتنياهو على قرار محكمة العدل الدولية، مؤكدا مواصلة إسرائيل فى الدفاع عن نفسها وعن شعبها ضد حماس كمنظمة إرهابية.
- هذه القرارات تمييز صارخ ضد الدولة اليهودية.
- تهمة الإبادة الجماعية الموجهة ضد إسرائيل كان لا بد من رفضها، فهى تهمة شنيعة.
- انتقد وزير الأمن القومى فى إسرائيل ايتمار بن غفير قرار المحكمة واصفا إياه بأنه معادٍ للسامية.
- إن المحكمة لا تسعى للعدالة بل لاضطهاد الشعب اليهودى فقد كان صمتا أيضا مماثلا خلال المحرقة التى تعرض لها اليهود.
- لا بد من الاستمرار لتحقيق النصر على حماس.
دلالات قرارات المحكمة تتمثل فى:
- إن خضوع إسرائيل للمساءلة هو انتصار لإفريقيا التى عانت التمييز العنصرى.
- انتصار للعدالة الإنسانية والقانون الدولى.
- أن تلزم المحكمة إسرائيل بتقديم تقرير فى غضون شهر حول ما تفعله لتنفيذ القرارات يعد انتصارا غير مسبوق.
- أن يصوت الأغلبية "16 صوتا" مقابل صوت واحد من أعضاء لجنة محكمة العدل الدولية بمعظم ما تقدمت به جنوب إفريقيا فى دعواها ضد إسرائيل هو حدث تاريخى فى حد ذاته.
- يعكس أيضا تصويت غالبية أعضاء المحكمة مدى إجماع الدول على نصرة الحق والعدل بعد الصمت الواضح من المنظمات الدولية على مدى 75 عاما تجاوزت فيها إسرائيل كل القوانين والأعراف.
- هذا الحكم هو تصحيح لمسار العدل والقانون الدولى.
- من وجهة نظرى أيضا، ترحيب دول العالم بقرار محكمة العدل الدولية يعد انتصارا كبير، فلا توجد دولة فوق القانون.
- المحكمة حكمت للإنسانية وصوت الحق.
- إنه حكم يمثل انتصارا حاسما لسيادة القانون وقيم العدالة الدولية ومنعطفا مهما فى تطبيق العدالة للشعب الفلسطينى الذى تحمل كثيرا على مدى أكثر من سبعة عقود.
- القرارات التى صدرت تمثل أيضا انتصارا للقانون الذى فشلت فيه جمعية الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
- رغم أنها قرارات لم ترقَ صراحة إلى وقف إطلاق النار فإن المحكمة أخذت قرارا ضد إسرائيل لم يتم أخذه من قبل على مدى التاريخ الاستعمارى لها.
- حكم أزال القناع عن الدول الداعمة لإسرائيل.
- حكم تاريخى على إسرائيل باتخاذ جميع التدابير لحماية الفلسطينيين من جريمة الإبادة الجماعية.
ترحيب مصر بالقرار:
رحبت مصر بقرار محكمة العدل الدولية بشأن فرض الإجراءات الطارئة على إسرائيل فى حربها على قطاع غزة، والقرار الذى أمر إسرائيل باتخاذ التدابير العاجلة لتوفير الحماية للفلسطينيين، ومنها توقف إسرائيل عن جرائمها ضد الفلسطينيين وإلحاق الأذى المعنوى والجسدى بهم، وضمان توفير المساعدات من الاحتياجات الإنسانية بشكل فورى، وذكرت وزارة الخارجية فى بيانها الآتى:
- إن مصر كانت تتطلع لأن تطالب محكمة العدل الدولية بالوقف الفورى لإطلاق النار فى غزة مثلما قضت فى حالات مماثلة.
- ضرورة احترام وتنفيذ قرارات المحكمة بوصفها الجهاز القضائى الرئيسى للأمم المتحدة.
- طالبت مصر إسرائيل بالتنفيذ الفورى لجميع التدابير التى وردت فى القرار والتى تمثل بداية المسار لإنقاذ قواعد القانون الدولى والقانون الدولى الإنسانى بشأن توفير الحماية للشعب الفلسطينى، ووضع حد للاعتداءات والانتهاكات التى تمارس ضده.
- أكدت مصر مواصلة تحركاتها واتصالاتها مع الأطراف الإقليمية والدولية من أجل إنهاء الأزمة ومنع التهجير القسرى.
ولمصر دور محورى تجاه القضية الفلسطينية على مدى 75عاما، وبذلت جهدا دبلوماسيا غير عادى على مدى الجولات الخمس الأخيرة، وقامت باتصالات مكثفة على الصعيدين الإقليمى والدولى ليأتى بيان وزارة الخارجية، مثمنا قرار محكمة العدل الدولية.
استثمار الفرصة وفق هذا القرار التاريخى:
بعد هذا القرار التاريخى لا بد من أن يلتفت المجتمع الدولى إلى موقف جاد لوقف إطلاق النار وحل الدولتين والعمل وفق الطرح والرأى المصرى حتى ينال الشعب الفلسطينى حقه الشرعى وفق القرارات الأممية بإقامة دولته، وتنتهى الأزمة التى أخذت جهدا شاقا من مصر, ولا بد من أن يكون للمنظمات الدولية دور عاجل لإدخال المساعدات إلى أشقائنا فى قطاع غزة, وأن تكون هناك آليات واضحة لعدم ممارسة إسرائيل لتهجير سكان غزة من أماكنهم، وعقد الهدنة الإنسانية، وتبادل الأسرى.
ختاما:
فى ظل انتصار القانون بهذا الحكم التاريخى لا بد من أن يعمل المجتمع الدولى على إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو وعاصمتها القدس الشرقية, ويدعم مصر فى جهودها الرامية تجاه القضية الفلسطينية, ولكن ينذر تعنت إسرائيل بعدم احترام القانون الدولى بعواقب وخيمة قد تقلب الأمور رأسا على عقب, فهل تضغط الدول الكبرى فعليا بعد أن وضعتها العدل الدولية فى مأزق كبير وحرج دولى؟ وكيف ستصل الأمور بعد هذا القرار؟ وماذا ستسفر الاجتماعات الطارئة للأمم المتحدة؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام المقبلة.