دخلت الأزمة الفلسطينية الإسرائيلية شهرها الرابع، دون أن تكون هناك حلول واقعية وإيقاف تام للتصفية التى تتم للشعب الفلسطينى فى ظل صمت وموقف مرتبك من دول العالم، وفى ظل عجز تام للمنظمات الدولية تجاه ما يحدث. فبين مؤيد ومعارض لما يحدث وبين تصريحات للساسة والقيادات الإسرائيلية، وفى ظل فشل أمنى واستخباراتى كبير بكل المقاييس فى الجانب الإسرائيلى، وكذلك تعنت وجبروت العمليات العسكرية ودموية العمليات، وبين تدمير لأغلب البنية التحتية فى قطاع غزة، وبين فشل فى تحقيق الهدف الأسمى المعلن من الجانب الإسرائيلى وهو القضاء على حماس - يبقى صمود المقاومة الفلسطينية والعمليات التى تقوم بها الفصائل الفلسطينية كابوسا يزعج الساسة الإسرائيليين.
إن نمط وصول اليمين المتطرف فى إسرائيل إلى الحكم يأتى بما لا تشتهيه السفن، والتصريحات التى تخرج بين الحين والآخر من الوزراء والمسئولين الإسرائيليين بين الحين والآخر بشأن التهجير وبشأن التصفية الذى يثير مما لا يدع مجالا للشك استياء الدول العربية ورفضها. ورغم أن رد مصر والأردن كان حاسما فى هذه النقطة بالذات، فإن الهدف الإسرائيلى لا يزال قائما بتصفية القضية الفلسطينية وتهجير المواطنين الفلسطينيين لجنوب قطاع غزة أو لدول مجاورة. ورغم ارتفاع أعداد المصابين والشهداء فى الجانب الفلسطينى، فإن نبرة التحدى والمقاومة والاعتزاز بما يقدمونه من تضحيات لا تزال مستمرة.
فى حقيقة الأمر، إن ما يساند إسرائيل ويجعلها ذات أذرع طويلة وتستمر فى عملياتها العسكرية تجاه مواطنين عزل، هو الدعم الأوربى لإسرائيل والأمريكى لها، فالولايات المتحدة الأمريكية تحاول أن تعيد وترسم وجودها فى منطقة الشرق الأوسط بعد ضعف وترنح حدث لموقفها ووجودها منذ سنوات، وكذلك فهى تحاول تحقيق بعض المكاسب التى خسرتها فى المنطقة على حساب خسارتها الفادحة فى دعم أوكرانيا ضد روسيا ومدى الخسائر التى تكبدتها فى ملف الأزمة الروسية الأوكرانية. لذلك، فإننا نجدها تحاول ن خلال وزير خارجيتها الوجود بطريقة مباشرة فى المشهد الحالى لمنطقة الشرق الأوسط. ورغم التغير الموتور فى موقفها تجاه إسرائيل، فبعد الدعم المستمر واللوجستى والعسكرى لإسرائيل، فإنها حاولت تعديل موقفها المعلن نسبيا تجاه المدنيين فى محاولة لاسترضاء الدول العربية بعد الرفض المستمر والشامل والجامع من كل الدول العربية.
لكن الملف بأكمله، وهو القضية الفلسطينية، يجب أن يأخذ بنهج جديد وبأسلوب مختلف فى إدارة هذا الملف، فإسرائيل لا ترغب فى إعلان الدولة الفلسطينية ذات السيادة، وتحاول دائما إضعافها بكل السبل والإمكانات، وذلك من أجل عدم تحقيق قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية على حدود 1967، وعلى الجانب الآخر فإن الضعف المرصود من مواقف الدول الأوروبية والمنظمات الدولية واستخدام الولايات المتحدة الأمريكية حق الفيتو ضد أغلب القرارات التى تصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة يؤثر فى المشهد الواقعى فى الأزمة الحالية.
وبين مؤيد ومعارض فإن ملف القضية الفلسطينية يحتاج إلى مراجعات كثيرة فى إدارته، ورغم الدور المحورى المصرى الذى تقوم به الدولة المصرية بقيادتها من إدخال مساعدات للجانب الفلسطينى والدور الدبلوماسى والسيادى للأجهزة الأمنية بمصر من أجل محاولة حثيثة لإيجاد فرصة للتفاوض، فإن التعنت الإسرائيلى لا يزال قائما ويروج للعديد من الأفكار والمعطيات التى تخدم الهدف الإسرائيلى الأسمى، وهو ليس بالطبع القضاء على حماس، ولكنه القضاء وتصفية القضية الفلسطينية برمتها، ولذلك يجب أخذ العديد من النقاط التالية فى الحسبان:
· ضرورة التأكيد بأن الخروج من الأزمة الحالية يجب أن يتم من خلال المفاوضات وليس بالعمل العسكرى.
·ضرورة الدعم الكامل والشامل لحصول فلسطين على عضوية كاملة فى الأمم المتحدة.
· ضرورة التسويق لملف القضية الفلسطينية بأسلوب جديد، وذلك فى توجيه مباشر لشعوب الدول الأوروبية وللشعب الأمريكى باستخدام وسائل الإعلام المختلفة، ووسائل التواصل الاجتماعى، واستغلال مرحلة ما قبل الانتخابات القادمة فى العديد من الدول.
· ضرورة إعادة تشكيل اللجنة المسئولة عن الملف الفلسطينى، وأن تكون برئاسة مصر، فهى تمتلك العديد من مفاتيح وأورق الضغط التى قد تساعد على إيجاد حلول واقعية وليس الشجب والرفض فقط.
· ضرورة دخول قوى دولية جديدة فى هذا الملف مثل روسيا والصين وغيرهما من أجل تحريك المياه الراكدة فى التفاوض منذ عشر سنوات.
· ضرورة توحيد الرؤى بين الفصائل الفلسطينية على أرض الواقع، وذلك من خلال دعم المبادرة المصرية فى هذا السياق.
تعد تكلفة الحرب مرتفعة اقتصاديا، وسياسيا، وعسكريا؛ حيث تشير تقديرات أولية إلى أنها تقدر بنحو 51 مليار دولار، اقترضت إسرائيل حتى الآن أكثر من 8 مليارات دولار، ما أدى إلى تضخم العجز فى الميزانية إلى 6 مليارات دولار. ويتوقع البنك المركزى الإسرائيلى أن ينمو الاقتصاد بنسبة 2% فى 2024، وهذا أقل من توقعاته السابقة بنمو يصل إلى ٢٫٨%. ويتوقع، أيضا، أن تصل تكاليف الميزانية الخاصة إلى الحرب إلى 10% من الناتج المحلى الإجمالى، فيما من المنتظر أن ترتفع نسبة الدين إلى الناتج المحلى الإجمالى إلى 66% نهاية 2024.
أما عسكريا، فتواجه إسرائيل صعوبات كبيرة فى حرب المدن بغزة، وكل يوم تخسر أعدادا أكثر من قواتها ومعداتها العسكرية، ما سيعرضها لضغوط سياسية وإنسانية داخل إسرائيل من أجل إيقاف الحرب والعودة للمفاوضات السياسية. كما أن استمرار هذه الحرب الوحشية وارتكاب المجازر فى حق الأهالى جعل الغرب يتراجع نسبيا عن دعمه المطلق لإسرائيل، بل ربما سيتجه للضغط عليها سياسيا من أجل وقف مذابحها. يبدو هذا الموقف واضحا فى تصريحات جو بايدن التى انتقد فيها لأول مرة وبشكل صريح، ما وصفه بالقصف العشوائى الإسرائيلى لقطاع غزة، داعيا رئيس الوزراء الإسرائيلى لتغيير حكومته بإقصاء العناصر الأكثر تشددا فيها، وتغيير استراتيجية إسرائيل العسكرية، وتوضيح التزامها بحل الدولتين صيغة وهدفا لعملية سلام مع الفلسطينيين مستقبلا.
من ناحية أخرى، تستعد عدة دول غربية لإجراء الانتخابات العامة لديها فى هذا العام، فى أوج استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، مما يدفعنا لتتبع مدى التأثير الذى قد تمثله الحرب على غزة على تلك الانتخابات من عدمه، ولعل من أهمها:
أولا - الانتخابات البريطانية:من المقرر عقد الانتخابات العامة فى بريطانيا فى أكتوبر أو نوفمبر 2024، واستطلاعات الرأى حتى الآن تشير إلى تقدم حزب العمال المعارض، نتيجة للصدمات التى تعرض لها حزب المحافظين أخيرا، منذ قضايا داونينج ستريت التى أطاحت ببوريس جونسون، وأزمة اختيار رئيس للحكومة بعده، وصولا إلى ريشى سوناك الذى تراجعت شعبيته شيئا فشئيا خلال الأشهر الماضية، الأمر الذى قد يجد مرده فى عدة أسباب، أهمها:
(أ)الضغوط الاقتصادية من ارتفاع مستوى التضخم الذى يعد الأضخم منذ 40 عاما، ونقص بعض السلع، والإضرابات العمالية المتكررة ومطالبتهم للحكومة بزيادة الأجور، فقد شهدت بريطانيا أكبر إضراب فى القطاع الصحى منذ تأسيسه قبل 75 عاما، إلى جانب إضراب عمال السكك الحديد والمدارس والبريد وغيرها، لدرجة أن رئيس الحكومة سوناك أعلن فى وقت سابق استعداده الاستعانة بالجيش ليحل محل العمال المضربين فى القطاعات الحيوية.
(ب) تصاعد الأحزاب ذات الأهداف الانفصالية، فحزب "شين فين" المؤيد لاستقلال أيرلندا الشمالية عن التاج البريطانى حقق أول انتصار فى تاريخه فى عهد المحافظين. وفى وقت سابق، حصل الحزب الوطنى الإسكتلندى وحزب الحضر المؤيدين لاستقلال اسكتلندا كذلك على أغلبية مقاعد البرلمان المحلى فى ٢٠٢١. الأمر الذى قد يهدد الوحدة البريطانية نفسها فى عهد المحافظين، والأمر نفسه بالنسبة لاسكتلندا، وهى صدمات لم تتعرض لها المملكة ما قبل. هذا إلى جانب الخسائر التى منى بها حزب المحافظين فى الانتخابات المحلية.
وكانت النتيجة، فوز حزب العمال البريطانى بانتخابات فرعية فى اسكتلندا، وهو نجاح جاء فى الوقت المناسب قبل بدء الحملة الرسمية للانتخابات العامة فى العام المقبل، بعدما حصل مرشح الحزب مايكل شانكس على أكثر من ضعف الأصوات مقارنة بمنافسه من الحزب الوطنى الاسكتلندى الذى يدعو لاستقلال كيتى لودن.
ومن الممكن أن يؤثر موقف الحكومة والمعارضة البريطانية المساند لإسرائيل حتى الآن فى حربها على غزة، فى توجهات الناخبين المسلمين فى المملكة، لكنه من غير المرجح أن يؤثر فى حظوظ أى من الحزبين فى الانتخابات العامة بشكل كبير، إلا حال طرأت مستجدات داخلية، وتحديدا حزب العمال بعد تقدمه فى استطلاعات الرأى خاصة أن إضرابات العمال قد تشير إلى احتمالية أن يقع اختيارهم على حزب العمال المعارض لتأمين معاشات التقاعد والضرائب.
ثانيا - الانتخابات البلجيكية:من المقرر عقد الانتخابات التشريعية فى يونيو 2024، والبلدية فى أكتوبر 2024، وكانت بلجيكا إحدى الدول الأوروبية التى شهدت احتجاجات متكررة تنديدا بالعدوان الإسرائيلى على غزة، ومثل موقف رئيس الحكومة ألكسندر دى كرو أحد المواقف الأوروبية القليلة التى عارضت إسرائيل، كما أعلن عزمه الاعتراف بدولة فلسطينية موحدة، وطالب بوقف إطلاق النار.
من ثم، فى ظل صعود الأحزاب اليمينية فى بلجيكا، يمكن أن يمثل ذلك ضغطا عليها لعدم إعادة انتخاب ألكسندر دى كرو لولاية جديدة عقب موقفه المناهض لإسرائيل، إلى جانب الضغوط الاقتصادية فى بروكسل من جراء الحرب الأوكرانية، بعد الدعم البلجيكى لكييف؛ حيث بلغ أكثر من ٣٠٠ مليون يورو حتى سبتمبر الماضى، ما لاقى اعتراضات شعبية واسعة فى ظل غلاء المعيشة، خاصة أن هولندا شهدت انتصارا مفاجئا لليمين المتطرف فى ظل ظروف مشابهة.
تأتى الانتخابات البلجيكية بالتزامن مع انتخابات البرلمان الأوروبى فى يونيو 2024، التى من المرجح أن تسفر عن تغيير فى قيادات المؤسسات الأوروبية الكبرى وأبرز مسئوليها ممن أثارت مواقفهم الجدل فى خضم حرب غزة، وعلى رأسها المجلس الأوروبى والمفوضية الأوروبية التى ترأسها أورسولا فون دير لاين، التى دعمت إسرائيل بشكل مطلق ما أثار الانقسامات داخل المفوضية، حتى تطورت الاستقالات فى الهيئات الأوروبية، هذا إن عزمت على الترشح لولاية جديدة، كذلك جوزيف بوريل.
ثالثا - الانتخابات الأمريكية: أما عن الانتخابات الرئاسية الأمريكية، فعلى ما يبدو أن الحرب فى غزة قد تؤثر فى حظوظ بايدن فى انتخابات نوفمبر ٢٠٢٤؛ حيث تعهد بعض الزعماء المسلمين من ٦ ولايات أمريكية متأرجحة عدم دعمهم لبايدن خلال الانتخابات المقبلة، والاتجاه نحو عقد مشاورات مع بقية المرشحين، خاصة أن هذه الولايات أمنت لبايدن الفوز بفارق ضئيل خلال الانتخابات السابقة. يأتى هذا فى حين أظهر استطلاع حديث للرأى أن شعبية بايدن بين الأمريكيين العرب انخفضت من أغلبية مريحة فى عام 2020 إلى 17%. وقد يكون ذلك حاسما فى ولاية ميشيجان، حيث فاز بايدن بنسبة ٢,٨٪، ويمثل العرب الأمريكيون نحو ٥٪ من الأصوات، وفقا للمعهد العربى الأمريكى.
مع ذلك، فإن العامل الأكثر تأثيرا فى تراجع شعبية بايدن هو الاضطرابات التى عاناها الاقتصاد الأمريكى خلال ولاية بايدن، التى ازدادت مع دعمه غير المسبوق لأوكرانيا رغم الاعتراضات الداخلية، فجزء من احتمالية عدم انتخاب غالبية الأمريكيين لبايدن هو دعمه للحروب الخارجية على حساب الداخل، وليس لحرب غزة فى حد ذاتها؛ لأن المواطن الأمريكى خصوصا غير معنى كثيرا بالسياسة الخارجية لبلاده.
رابعا - الانتخابات الروسية :الانتخابات الروسية تحديدا قد تكون أولوية التأثير بها وفقا لمجريات الحرب الأوكرانية وتداعياتها على الداخل الروسى، والذى على ما يبدو أن بوتين أحكم السيطرة عليه منذ مقتل بريجوجين، وكلها علامات قد تصب فى مصلحة بوتين فى الأخير، خاصة بعد ظهور علامات لذلك، على رأسها فوز حزب روسيا الموحدة الموالى للكرملين فى الانتخابات المحلية الأخيرة فى المناطق الأربع التى ضمتها روسيا حديثا من أوكرانيا، رغم اعتراضات كييف.
ختاما، أيا ما كان من تأثير الحرب على غزة فى مسار الانتخابات العامة فى الدول الأوروبية والولايات المتحدة، فإن ما ستسفر عنه هذه الحرب من تداعيات تتطلب التعامل معها بكل يقظة وبأسلوب جديد مختلف لمحاولة السيطرة على المخرجات السلبية لها.
المصادر:
1- حرب غزة وحسابات الربح والخسارة – المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية (ecss.com.eg)
2- مجلة السياسة الدولية – العدد 235 – يناير 2024.
3- هل تؤثر حرب غزة على مستقبل القادة الغربيين؟ - مركز رع للدراسات الاستراتيجية(rcssegypt.com)