إن إعلاء الرئيس عبدالفتاح السيسى لدور الفنون الجيدة، وإعلان عزمه على دعمها لإثراء حالة الوعى الجماهيرى ورفع مشاعل التنوير فى كل بقاع المحروسة، ومن قبل مطالبته بتصويب الخطابات الثقافية والإعلامية والدينية، لا بد من أن يلقى التجاوب والتفاعل والعمل بكل حماس وبروح 30 يونيو العظيمة من قبل مبدعينا، وأن يحرصوا على مقاومة الفنون الرديئة، بل نبذها ونحن على عتبات الجمهورية الجديدة.
تكمن أهمية الإبداع فى أنه من ضرورات الحياة، ومسيرة الإبداع هى مسيرة تعبٍ وصبرٍ لإحداث تغييرٍ جذرى وصولا إلى الارتقاء بصنوف الإبداع الفنى، ولا بد من أن نستفز ذواتنا لتجعلنا نرحل إلى دواخلنا، ونتساءل أين نحن الآن من الإبداع الحقيقى؟ فهناك طاقه كامنة فى دواخلنا يتعيّن علينا جميعاً الاستفادة منها، ليتحقق الهدف المنشود المتمثل فى التقدم بوطننا خطوات إلى الأمام نحو حقول التميز والإبداع.
تقول الحكمة: على لسان الاقتصادى وعالم الاجتماع المغربي المهدى المنجرة: "إذا وضعنا مشاريع سنوية فلنزرع القمح، وإذا كانت مشاريعنا لعقد من الزمن فلنغرس الأشجار، أما إذا كانت مشاريعنا للحياة بكاملها، فما علينا إلا أن نثقِّف ونعلِّم الإنسان"، وقد أضيف وتحفيز كل أدوات الإبداع لديه.
ولا بد من استدعاء كل آليات النقد فى كل مجالات الحياة العمليَّة والعلميَّة، وخصوصا فى مجال التربية والتعليم، فغياب النقد يجعل التربية بدون روح وبدون أهداف، وبالنقد البناء يتم التقويم وإصلاح الأخطاء، ويتم وضع الرؤية والاستراتيجية الواضحة من أجل تحقيق الأهداف المنشودة سواء على المدى المتوسط أو البعيد، وأى رفض للنقد يعمِّق الأزمة، ويجعلنا نعتقد أننا على الطريق الصحيح، كما يجعل فكرنا غير منتج، وغير إبداعى، وغير متجدد وعصرى.
عبر التاريخ المعاصر سعى أهل الفكر وأصحاب رسائل التنوير إلى إيجاد معالجات نهضوية تتشابك بوطنية وحب لتطوير وإصلاح الراسخ الموروث المتكلس من الأفكار والمعتقدات البالية، ولتتقدم بالثقافة الإنسانية لدينا إلى المستقبل الذى نحلم أن نعيشه، وفى كل جولة كانت العودة إلى التراث شرطًا جازما لديهم، وكانت تنتهى جولاتهم بإقرار أنه بدون قراءة جديدة للتاريخ العربى لن نستطيع معالجة أزمات العقل المعاصر المسجون فى حاضره وغير الجاهز للحاق بعجلات المستقبل ومدركاته، فيما انشغل البعض منهم بالإشارة إلى القيم الغربية المنطلقة من ثورات أوروبا الثقافية والصناعية، ورأوا فى استنساخها الدواء الناجع والحل الصائب.
نعم، وما أكثرها من محاولات محلية وإقليمية وعربية تصدى لها أوصياء الفكر الأصولى الجامد، لتموت الأفكار فى مهدها لنبتعد عن حلم إقامة مشروع التنوير ونتراجع من جديد عن الشروع فى بناء أى منظومة للإصلاح الثقافى والفكرى الدينى.
وأعتقد أنه لا توجد ظروف تستدعى حضور أهل التنوير ودعاة الإصلاح فى أى زمان بقدر احتياجنا لوجودهم الآن لمقاومة ما نعيشه من تداعيات دعاوى أهل الشر من أصحاب بوتيكات الاتجار بالأديان وجراثيم أهل غواية هدم الأوطان التى يتلظّى أهالينا فى الداخل والخارج (محليا وإقليميا وعربيا) بحروبها الوحشية ونزاعاتها الحادة، فى أزمنة عدمية لا ينتج منها سوى ظلام عميم له رائحة الدم ولونه، ظلام لا تعود معه الرؤية متاحة ويستحيل معه أيضا إحداث أى تنمية، أو إحراز خطوات لتحقيق أى تقدم من أى نوع، وفى أى مجال.
فى مارس 1980، اجتمع فى باريس أربعون عضوا من مشاهير مفكرى العرب لتأسيس "حركة تنوير عربية"، وكانت فكرة التأسيس هذه قد راودت أسرة تحرير مجلة "الطليعة" القاهرية عام 1979، والمفارقة هنا أن ذلك الاجتماع التأسيسى كان هو الأول والأخير، أى أنه مُنى بالفشل.
يقول المفكر الأمريكى الشهير "صامويل هنتنجتون": "الحركات الشعبية هى محرك التاريخ"، وهل من ثورة فى التاريخ أروع وأهم من ثورة أشعلها الشعب للدفاع عن هويته الثقافية والحضارية كثورة 30 يونيو؟!
ويؤكد هنتنجتون، بعد استعراضه لوقائع تاريخية محددة، أنه لكى يحدث تحريك التاريخ نشهد خلف الحراك السياسى الظاهرى/ المباشر رؤى ثقافية راسخة تحكم مجمل الوعى العام؛ إذ ينجذب الشعب – فى تياره الجماهيرى العام – لصوته الداخلى، أى لرؤاه الأعمق المتجذرة فى الثقافة والتاريخ.
وبناء عليه، فإن التغيير الحقيقى لا يكون بلا تنوير، والتنوير الحقيقى لا يكون بلا جماهير، التنوير الفاعل هو التنوير الذى يستطيع الوصول إلى وعى "الحركات الشعبية" التى وصفها هنتنجتون بأنها "محرك التاريخ".
إن الذين يعتقدون بتراجع قيم التنوير فى بلادنا يغفلون أن التاريخ يسير عبر موجات الحماسة لمشروع التنوير، وفى أحيان أخرى يواجه بموجات الاعتراض عليه مقابل الإعلاء مجددا من شأن الفكر التقليدى الاستقرارى والقيم المرتبطة به، كما حدث عبر حقب متتالية، وهو ما يعد بمنزلة مانشيتات عارضة عبر صراع تاريخى يتطلَّب المرور بحقب زمنية تطُول أو تَقصر، تختفى ثم تعود، وذلك بحسب أشكال وطرائق وخطوات البناء، وكيف نتعامل مع مشروع التنوير الذى نأمله، وكيف نخطط لدعمه.
مع الفنون وإبداعات البشر الجميلة نحيا ونسعد مرة وأخرى وثالثة ورابعة مع تجددها الإطارى والشكلى وتنوعها فى المحتوى والتأثير، حيوات كثيرة، نعم، تتجدد الحياة مع كل تجدد لأوراق شجرة الإبداع وأزاهير الفنون ونسائم عبير جمالياتها.
الفنون، ليست كما يصورها البعض مجرد قفزات عشوائية فى فضاء اللا معنى، وفى مساحات اللعب التافه، التى يرونها أحيانا أنها تمثل حالة هروب من واقع رتيب فى الوقت الذى كان على المبدع أن يخرج بإبداعاته فى مواجهات شجاعة مع شياطين عتمة الكراهية الساكنة كهوف العنكبوت الخانقة والمانعة لانطلاقها لفضاءات النور والبهجة والإمتاع والمؤانسة.
وبكل حماس أرى أهمية مواجهة من يُحرمون علينا الاستمتاع بنعيم ومكارم الإنصات لصوت العقل وإعمال الفكر الناقد وضرورة التأمل العلمى الموضوعى لموجودات دنيانا، ألا يعلمون أن ترصدهم الجاهل لما حولهم وحملاتهم المُضلة الغاشمة لإيقاف نمو وازدهار شجرة التنوير قد تم رصدها وفشلها، إنها شجرة التنوير التى حدثنا عنها الرئيس عبدالفتاح السيسى، وهو يفتتح "مسجد الفتاح العليم" و"كنيسة ميلاد المسيح" فى يوم احتفالية سلام بديعة، وإعلانه حتمية مواجهة جرذان الكراهية المقيتة، ألا يعلم الجبناء أن ما يفعلونه جريمة بشعة لن يغفرها لأمثالهم التاريخ، ولن يسامحهم عنها مواطنونا، أولاد حضارة علمت الدنيا كل صنوف الإبداع الرفيع؟!
لن نسامح أنفسنا، وسيحاسبنا الأولاد والأحفاد لو تهاونا فى الوصول إلى اتفاق على معيار عقلانى نستند إليه فى خياراتنا عبر مؤشرات بوصلة مشاريعنا الفكرية والثقافية، وأن نعيد ونثمن الصالح من القيم الأخلاقية لإقامة مصالحة مشروعة بين أهل الدعوة الحسنة للأديان وإخوانهم فى الإنسانية فرسان أهل الإصلاح لنفض الكسل العقلى والتعلق بشراع التنوير على متن سفينة الوطن.
لا شك فى أن الفنون بكل وسائطها وألوان إبداعاتها، حال إطلاقها ودعم حريات ممارستها بمسئولية، ودون توجيه مجحف أو توجيه اتهامات مكارثية متوهة وظالمة، ستسهم فى التفكير فى إعداد عقد اجتماعى جديد بين كل أطراف ومحاور الشراكة الوطنية لصناعة الجمال وإعلاء قيم الحق والخير والعدالة.
الآن، لدينا فرصة هائلة لاستدعاء قوانا الناعمة من جديد بعد الانتهاء من مرحلة مهمة من مراحل حروبنا للإرهاب على أرض الفيروز، لدفع كل آليات التنوير بحماس للعمل الجاد والموضوعى عبر مؤسسات التعليم والثقافة والرياضة والأوقاف والجامعات ومنظمات العمل المدنى للتصدى لفكر قوافل الجهل والتخلف الإنسانى التى ما زالت بقاياها تنشر العتمة لتستحيل الرؤية وتنعدم الحركة ويموت الأمل وينتشر الإحباط لدى الناس (أقصد الضحايا).
أكرر، لدينا الفرصة الآن - ونحن على عتبات الجمهورية الجديدة - بعد أن أدرك شعبنا هوية الخصم الخطير وفطن لكل حيلِهِ، ويبقى فقط ضرورة إزاحة كسل العقل عنا.
لقد أدركنا ونحن نشعل ثورة 30 يونيو أن الهوية الثقافية هى النواة الحية للشخصية الفردية والجماعية، والعامل الذى يحدد السلوك ونوع القرارات والأفعال الأصيلة للفرد والجماعة، والعنصر المحرك الذى يسمح للأمة بمتابعة التطور والإبداع والتنوير.