الاثنين 13 -2-2012
تصاعدت حدة الحرب الكلامية بين شمال وجنوب السودان في الآونة الأخيرة، خاصة بعد فشل الجانبين في التوصل لاتفاق بشأن تصدير النفط الجنوبي عبر الموانئ الشمالية، بعد رفض جوبا خطة الطريق التي قدمتها كل من كينيا وإثيوبيا –حليفتى جوبا-على هامش قمة الاتحاد الإفريقي الأخيرة بأديس أبابا الشهر الماضي، حيث رأت جوبا الوثيقة مجحفة بالنسبة لها، لأنها تربطها بدولة الشمال من جديد، ولا تتيح لها البحث عن مصادر أخرى لتصديره، وتحديدا عبر كينيا التي أبرمت معها بالفعل اتفاقا لتصدير بترولها عبر ميناء ممباسا ، لكن الأمر سيستغرق بعض الوقت.
ولكي يحاول كير التغطية على هذا الرفض، قرنه بضرورة التوصل إلى اتفاق شامل فيما يتعلق بالقضايا الأخرى المعلقة مع الخرطوم، وفي مقدمتها قضية الحدود، وفي القلب منها منطقة أبيي الغنية بالنفط ..وحذر كير في حينها من احتمال تجدد النزاع مع الجارة الشمالية، حال عدم تسوية هذه الملفات، وإن كان قد أعلن في الوقت ذاته عن عدم رغبة بلاده في الدخول في حرب جديدة مع الخرطوم . وربما هذا التصريح هو الذي جعل الرئيس البشير يصرح بعدها بيومين بأن الأجواء بين بلاده وجنوب السودان أقرب إلى الحرب منها إلى السلام، بينما قال وزير خارجيته علي كرتي إن حكومته تملك ما سماه الخطة «ب» وكروت لا تحصى ولا تعد للضغط على جوبا، التي تركز على الضغط الاقتصادي ودعم المتمردين الجنوبيين.
هذا التصعيد الكلامي ، الذي سبقته مناوشات عسكرية بين جيش الخرطوم وقوات الحركة الشعبية فرع الشمال في منطقتي النيل الأزرق وأبيي، والتي تعاملت معها الخرطوم بصرامة شديدة، يطرح تساؤلين أساسيين، الأول يتعلق بأسباب التصعيد الخاصة بكل طرف من ناحية ، والآخر يتعلق بالسيناريوهات المتوقعة لمستقبل العلاقة بينهما من ناحية أخرى، لاسيما فيما يتعلق بنذر الحرب.
أسباب التصعيد
إذا حاولنا الحديث عن أسباب تصعيد كل طرف، فسنجد أن دولة الجنوب بداية لم تلوح بالحرب ، وإنما أعربت عن خشيتها من ألا يؤدي التوصل لاتفاق إلى نزاع ، وهو ما أكده سيلفا كير ، وأوضحه بعد ذلك نائبه الدكتور رياك مشار، في حواره مع صحيفة "الشرق الأوسط" يوم 6 فبراير، أي بعد تصريحات البشير بيومين ، حيث قال " لن نخوض حربا مع الشمال، ليس خوفا ، ولكن لأن هذا هو المنطق وصوت العالم كله مع السلام.. لماذا نلجأ إلى الحرب وفي أيدينا طريق السلام عبر الحوار؟!"، وقال "برنامجنا هو السلام مع الشمال، وسنعمل على ذلك"، معتبرا أن إيقاف النفط من قبل حكومته لا يعني الدخول في المواجهة مع دولة السودان.
ومع ذلك، فإن هناك عدة أسباب تقف وراء التصعيد الجنوبي، لعل أبرزها ما يلي:
1- محاولة إظهار القوة في مواجهة الشمال ، وتأكيد إمكانية خوضهم الحرب في مواجهة الخرطوم ، وهو ما أكده كير بعد ذلك ، فضلا عن بداية تجييش الجيش الجنوبي، تحسبا لأي تهور شمالي.
2- يرتبط بالنقطة السابقة الهزائم العسكرية التي تعرضت لها الحركة الشعبية فرع الشمال في كل من أبيي والنيل الأزرق وجنوب كردفان، والتي كانت تحارب بالوكالة عن الحركة الشعبية الحاكمة في الجنوب، ومن ثم أرادت جوبا تأكيد أن هذه الهزائم لا تفت في عضدها.
3- توجية رسالة غير مباشرة لقوى التمرد الجنوبي والمدعومة من الخرطوم بأن جوبا لن تسعى فقط لدحر هذه القوات ، وإنما لدحر القوى التي تقف خلفها. فهناك سبع حركات مسلحة في ولايتي أعالي النيل وبحر الغزال الحدوديتين مع الشمال، ترفضان الانصياع لسيطرة الدينكا على مقاليد الأمور في الجنوب، وتحظيان بدعم الشمال.
4- محاولة الضغط على الخرطوم للتوصل إلى اتفاق فيما يتعلق ليس بالنفط الذي يبدو أن موقف الخرطوم قوي بالنسبة له على الأقل حتى هذه اللحظة لعدم وجود بديل ، وإنما بالنسبة للقضايا المعلقة، لاسيما أبيي التي تكمن أهميتها بالأساس في مواردها النفطية.
أما إذا انتقلنا إلى أسباب تصعيد حكومة الخرطوم، فسنلاحظ وجود مجموعة من الأسباب التى تكمن وراء تصعيد البشيرالأخير.ومن أبرزها:
1- رغبة نظام الخرطوم في إثبات قدرته على إدارة مقاليد الأمور بقوة، حتى بعد انسلاخ الجنوب عنه فعليا بموجب استفتاء يناير الماضي، وتأكيد أنه إذا كان الجنوب قد انفصل بموجب اتفاقية دولية "اتفاقية نيفاشا"، فإنه لن يفرط في أبيي والمناطق الأخرى "المهمشة"، أو حتى في النفط الذي يشكل جانبا كبيرا من موارد السودان " 70% من احتياطيات النفط و45% من الموزانة ".
2- توجيه رسالة غير مباشرة إلى حركات التمرد في دارفور، وكذلك تحالف كادوا -الذي يضم ثلاثا من هذه الحركات ، فضلا عن الحركة الشعبية الشمالية بهدف إسقاط النظام بالقوة العسكرية- بأن النظام يرفض فكرة استخدام القوة لفرض الأمر الواقع ، وبالتالي فإن الحوار السياسي هو الآلية الوحيدة للحديث عن الحقوق.
3- تحسين صورة النظام داخليا، في ظل استمرار الانتقادات الداخلية له من قبل قوى المعارضة التي تطالبه بالرحيل، على غرار ما هو حادث في العديد من دول الجوار، وفي مقدمتها مصر وليبيا ، وليس تونس منه ببعيد ، فضلا عن اتهامها له بالتفريط في الجنوب.
4- ابتزاز الجنوب من خلال إجباره على الموافقة على اتفاق توقيع النفط ، لاسيما وأن هذا التصعيد جاء بعد فترة وجيزة من قرارجوبا وقف تصدير البترول عبر موانئ الشمال.
سيناريوهات المواجهة
وإزاء هذا التصعيد الكلامي بين الشمال والجنوب، يبقي السؤال: هل يمكن أن تنشب حرب جديدة بينهما، أو بمعنى آخر ما هي سيناريوهات المواجهة ؟
قد يكون من الصعب في العلوم السياسية بصفة عامة التكهن بالسلوك السياسي لأطراف صراع معين ، لأن هناك مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي تؤثر فى مثل هذه القرارات، ولكن قد يتم اللجوء لفكرة السيناريوهات القائمة على ترجيح احتمال دون الآخر، استنادا لمجموعة من المعطيات. وفي هذا الإطار، يمكن القول بوجود ثلاثة سيناريوهات أساسية:
الأول: إمكانية نشوب مواجهات عسكرية، سواء محدودة في المناطق المهمشة ، أو واسعة النطاق، بحيث تجتاز هذه المناطق لتشمل كل مدن الشمال والجنوب.
الثاني: إمكانية نشوب حرب بالوكالة عبر متمردي كل طرف، والمدعومين من الطرف الآخر كتحالف كادوا، وفي القلب منه الحركة الشعبية الشمالية، وذلك في مواجهة الخرطوم ، أو الحركات السبع المسلحة التي ترفض الانصياع لجوبا ، ومن ثم يمكن أن يتم دعمها من قبل الشمال.
الثالث: استمرار التوتر دون حدوث مواجهات عسكرية ، بل قد يدفع ذلك التوتر كلا الطرفين إلى التوصل إلى اتفاق سياسي ربما يكون محدود النطاق، ومقصورا على مجال النفط، باعتباره القضية الأكثر إلحاحا لكلا الطرفين لعدم استفادة أي منهما بهذا النفط بعد قرار جوب تجميد التصدير عبر الشمال. وقد يكون هذا الاتفاق المحدود مقدمة لاتفاق سياسي أشمل يتصمن باقي القضايا، وفي مقدمتها المناطق المهمشة .
وإذا حاولنا ترجيح أي من هذه السيناريوهات، فنقول بداية إن السيناريو الأول قد يكون مستبعدا إلى حد كبير لمجموعة من الأسباب الداخلية والإقليمية والدولية. فداخليا : يعاني كلا النظامين أوضاعا سياسية وعسكرية، بل واقتصادية متدهورة ، قد تجعل من الحكمة السعي لحلها بدلا من فتح جبهة جديدة للقتال قد تسهم في زيادة إضعافهما .
أما إقليميا ، فإن دول الجوار ستتأثر لا محالة بتداعيات هذه الحرب على كافة الأصعدة الاقتصادية والأمنية. فكينيا وإثيوبيا –وهما من حلفاء جوبا- ستخسران، وفق بعض التقارير الدولية، عدة مليارات، حال نشوب هذه الحرب بسبب موجة النزوح واللاجيئن من ناحية ، فضلا عن تراجع التبادل التجاري مع هاتين الدولتين من ناحية أخرى .
وربما يفسر هذا أسباب لعب كلتا البلدين تحديدا دوار مهما في الوساطة بين الجانبين على هامش قمة الاتحاد الإفريقي الأخيرة في أديس أبابا. كما أن مصر قد تتأثر سلبا هي الأخرى، في حالة اندلاع هذه الحرب بسبب تدفقات اللاجئين والأسلحة الشمالية عبر أراضيها، فضلا عن تراجع الاستثمار، ومعدلات التبادل الاقتصادي، ومن ثم ستسعى هي الأخرى للعب دور الوساطة. وربما كان هذا أحد أهداف زيارة وزير الخارجية المصري لجوبا والخرطوم الشهر الماضي.
أما دوليا، فإن الأوضاع الاقتصادية الراهنة التي تمربها الدول الكبرى، سواء الأوروبية أو الولايات المتحدة، قد تجعل من الصعب عليها تحمل فاتورة الحرب، لاسيما فيما يتعلق بالجنوب. كما أن استعداد أوباما لخوض جولة انتخابية رئاسية جديدة قد يحتم عليه اللجوء إلى التهدئة وعدم دعم جوبا ، تماما كما حدث في الأزمة الإيرانية، والتوجه الأمريكي ، بل والإسرائيلي، إلى التهدئة، ومن ثم فإن هذا السيناريو مستبعد إلى حد كبير.
أما السيناريو الثاني، والحرب بالوكالة من خلال دعم قوى المتمردين ، فقد يكون واردا، ولكن ليس بنسبة كبيرة، خاصة بالنسبة للجنوب التي قامت بذلك خلال الأشهر الستة الماضية، لكنها فشلت. وربما يكون هذا هو الشعور نفسه لدى الخرطوم، وإن كانت قد أعلنت صراحة أن الخطة "ب" في التعامل مع الجنوب تقوم على دعم المتمردين .
أما السيناريو الثالث الخاص باستمرار التوتر دون حدوث مواجهات عسكرية، فربما يكون هو الأقرب للحدوث، في ظل المعطيات الداخلية ، بل والإقليمية والدولية السابق الإشارة إليها، بل قد يدفع هذا – كما سبق القول- كلا الطرفين إلى التوصل إلى اتفاق اقتصادي، ربما يكون محدود النطاق ومقصورا على مجال النفط، باعتباره القضية الأكثر إلحاحا الآن. ولعل توصل الطرفان مؤخرا في أديس أبابا وبوساطة أفريقية لاتفاق أمني ينص على "احترام كل منهما لسيادة الاخر ووحدة اراضيه وعدم التدخل في شئونه الداخلية ورفض استخدام القوة يصب في هذا الاتجاه ، ويعد نواة إلى تسوية ملف النفط وما قد يستتبعه من باقي الملفات الشائكة