مرة أخرى تغريني التعليقات الثرية التي طرحها قرائي الكرام على مقالي الماضي "ثورات الشباب في السياق العالمي" (المنشور في 26 يناير 2012) على ألا أستكمل بعض الأفكار التي أردت إبرازها للحديث عن الثورة الثقافية العالمية لتفسير قيام ثورة 25 يناير. ويمكن القول إن القراء قد أضافوا إضافات بالغة القيمة في ما يتعلق بأصالة الثورة وبواعث قيامها وأبعادها المختلفة، والتحديات التي تواجهها، وكيف يمكن الوصول إلى حلول ناجحة لمشكلات مرحلة التحول القلقة تمهيداً لبناء المجتمع الديمقراطي الجديد.
وهناك إجماع بين القراء على أن ثورة 25 يناير ثورة أصيلة، بمعنى أنها وإن اشتركت مع ثورات شبابية أخرى حدثت في العالم، إلا أن لها خصائصها الفارقة، بمعنى أنها لم تكن محض محاكاة لما حدث من انتفاضات جماهيرية في بلاد أخرى.
وذلك لأنها قامت نتيجة لسيادة الظلم والقهر والتمييز والسطوة والفساد، التي تركت آثارها السلبية ليس على الشباب فقط بل على كل فرد من أفراد المجتمع المصري. كما جاء في تعليق (أ. توفيق، وفتحي خلف)، ويضيف د. علي فرج أن الغرض من الثورات هو العدل ويتطلب تحقيقه إنشاء مؤسسات، ويحتاج إلى وقت حتى يتجسد على أرض الواقع.
ولعل هذه الملاحظة المهمة تشير إلى خطورة استعجال شباب الثورة تحقيق مطلب العدالة الاجتماعية، وكأنها يمكن أن تتحقق في شهور معدودة، مع أنها تحتاج إلى إعادة صياغة أنساق المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية حتى تتحقق بالفعل.
ويشير "ماهر زريق" إشارة مهمة إلى حركة الثقافة المضادة Counter Culture التي قامت في الولايات المتحدة الأميركية ضد الحرب في فيتنام وللمطالبة بحقوق الإنسان للأقليات.
والواقع أن أهمية حركة الثقافة المضادة ترد إلى أسباب أعمق كثيراً من مجرد الاعتراض على النزعة الإمبريالية لحكومة الولايات المتحدة الأميركية وسياساتها إزاء بلاد عديدة.
وذلك لأنها مثلت التمرد الشبابي على قيم الثقافة التقليدية المتوارثة منذ أجيال، التي كانت تحض أساساً على الخضوع للسلطة سواء كانت سلطة أبوية أو سلطة سياسية، وفق نسق محافظ وتقليدي للقيم الاجتماعية، يفرض قيم الكبار فرضاً على أجيال الشباب، ولا يتيح لهم مناقشة شرعيتها ومعقوليتها ومدى تناسبها مع روح العصر.
ويلفت "كمال مالك" نظرنا إلى مشكلة بالغة الأهمية، هي كيف ينظر الحاكم إلى السلطة. ويقول إن هناك من الحكام من يتمسك بها إلى آخر المدى ويعاند ويرفض التنازل عنها، وهناك من يستجيب للمطالب الشعبية كما فعل الجنرال "ديجول" حين كان رئيساً للجمهورية الفرنسية وواجه بشجاعة ثورة الطلبة عام 1968. وهناك حاكم حين تقع واقعة الثورة يهرب من البلاد بدلاً من ممارسة شجاعة المواجهة مثل "بن علي" رئيس تونس السابق، وهناك حكام يراوغون تشبثاً بالسلطة مثل "عبدالله صالح" رئيس اليمن، وهناك من يكابرون مثل الرئيس "بشار الأسد".
والواقع أن أهمية هذه الملاحظات تكمن في أنها تثير أهمية ودراسة موضوع السلطة من الناحية الفلسفية والسياسية، وهو ما لم يتطرق إليه المفكرون العرب كثيراً اللهم إلا إذا استثنينا الكتاب المهم للفيلسوف اللبناني "ناصيف نصار" عن "منطق السلطة".
أما الدكتور "أحمد الجيوشي" فقد قام بتصنيف لأنواع الثورات وطرق معالجتها. وهو يرى أن الثورات تقوم لعدة أسباب، منها ما هو نابع من الإحساس بالظلم الطبيعي والمجتمعي بصفة عامة، ومنها ما هو مدفوع بأهداف إيديولوجية، ومنها ما هو مدفوع بمخطط ومصالح بعض القوى الدولية. ومنها -وهذا ما ينطبق تماماً على ثورة 25 يناير- ما يكون نتيجة لتلاقح الثقافات بسبب الانفجار المعرفي والعولمة الثقافية وثورة الاتصالات.
غير أن هذا السبب الأخير -على رغم أهميته من ناحية آليات الثورة- فإنه لا يمكن أن يؤثر على الطابع الأصيل لثورة 25 يناير، التي كانت احتجاجاً صارخاً ضد القهر السياسي والفساد الذي ساد في عصر الرئيس السابق مبارك.
وهذه السمات الخاصة بالثورة في كل قطر تتعلق بمدى التطور الديمقراطي الذي وصل إليه النظام السياسي، ووجود أو غياب مشروع قومي قادر على تجميع أطياف الشعب المختلفة حول أهدافه، وحشد طاقات الشباب لتحقيقه. وفي تقديرنا أن هذه الإشارة إلى المشروع القومي بالغة الأهمية، وقد سبق أن رددها كتاب عديدون باعتبارها أحد مظاهر أزمة المجتمع المصري.
غير أنني منذ سنوات تخليت عن استخدام هذا المفهوم، وفضلت أن أستخدم تعبير "الرؤية الاستراتيجية" الذي حل كمفهوم إجرائي محل مفهوم المشروع القومي.
وذلك لأن المشروع القومي كمفهوم يوحي بمشروع حضاري طويل المدى يحتاج تنفيذه إلى عقود ممتدة من السنين، في حين أن "الرؤية الاستراتيجية" كما هي مستخدمة بل ومطبقة في عديد من البلاد تقتصر على رسم ملامح الخريطة المستقبلية لبلد ما في العشرين عاماً القادمة.
وهكذا رأينا الوثيقة الأميركية الشهيرة العالم 20/20، وكذلك الوثيقة الماليزية، بل وهناك وثيقة إسرائيلية منشورة باسم إسرائيل 20/20، أي ملامح إسرائيل السياسية والاقتصادية في العشرين عاماً القادمة.
لقد طالبنا من قبل الثورة في عديد من المقالات بأهمية صياغة رؤية استراتيجية لمصر لا ينفرد بوضعها الحزب الوطني الحاكم لأن صياغتها -بحسب التعريف- عملية مجتمعية، ينبغي أن تشترك في وضعها كافة التيارات السياسية، بالإضافة إلى الخبراء والجامعات ومراكز الأبحاث.
ولعل هذه مناسبة مواتية لكي أؤكد على هذا المطلب القديم، الذي واجهنا به مباشرة القيادات السياسية للنظام السابق، ولكن تلك القيادات التي كانت غارقة في سوء استخدام السلطة والتمتع بثمار الفساد المحرم، أصمت آذانها عن سماع صوت العقل النقدي.
ومن ناحية أخرى هناك آراء رشيدة لعدد من القراء أكدت أن الثورة ليست من صنع الشباب فقط الذين أشعلوا فتيلها، ولكن شاركت في الإعداد لها أجيال متعددة مارست النضال السياسي والنقد الاجتماعي المسؤول ضد زعامات النظام السابق.
وينبغي الإشارة إلى تحذير بعض التعليقات (هشام الخميسي) بأن شعار "الثورة مستمرة" قد يؤدي إلى سلبيات واضحة، وخصوصاً بعد استكمال المسيرة الديمقراطية ووضع دستور وانتخاب رئيس للجمهورية، مما قد يؤدي بها إلى أن تكون "ثورة بلا سبب"، بمعنى افتقادها للدوافع المشروعة.
ويمكننا في النهاية أن نختم تحليلنا لتعليقات القراء الكرام باقتباس من الدكتور "منصور حسن عبدالرحمن" وهو يقرر أن الثورة الحقيقية هي بناء نظام جديد بثوابته وتوجهاته السياسية والاجتماعية والإيديولوجية.
وبعبارة أخرى بعد أن نستكمل هدم النظام القديم علينا أن نشرع على الفور في بناء النظام الجديد، لتحقيق الأهداف النبيلة للثورة، وهي العيش والحرية والكرامة الإنسانية.
-------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الخميس 2/2/2012