يرصد المعنيون بشؤون العالمين العربي والإسلامي الآثار الناجمة عن ثورات بعض الشعوب العربية عام 2011 على كل من المشروعين الإسلامي والقومي ويسيطر عليهم شعور بأن المزاج العام في الشارع العربي لدى مختلف الأقطار يبدو مزاجاً يتعزز فيه الانتماء الإسلامي ربما سابقاً على الحس العروبي ذاته، وقد يقول قائل إن الانتماء الإسلامي جزء لا يتجزأ من الهوية العربية، كما أن العروبة هي الأخرى جزء لا ينفصل عن المنظومة الإسلامية، كما أن العودة إلى إرهاصات تنظير «الإسلام السياسي» توضح بجلاء أن الإمام حسن البنا مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين» ومرشدها الأول كان يؤمن في كتاباته بالتوافق بل وبالتطابق بين المنظورين الإسلامي والعربي، ولعلنا نتذكر أن الطلائع الأولى من الفدائيين المصريين التي انضمت إلى كتائب أخرى ممن دخلوا أرض فلسطين مع الحرب الأولى عام 1948 كانت فيهم نسبة كبيرة من شباب جماعة «الإخوان المسلمين».
كما أننا ندرك أيضاً أن المسلمين في العالم ينظرون إلى القضية الفلسطينية - وهي القضية العربية الأولى - باعتبارها قضية إسلامية بامتياز، وتتأرجح مواقفهم تجاه معاناة الشعب الفلسطيني من مفهوم إسلامي يبدو واضحاً في أدبيات ومفردات السياسة الخارجية لمعظم الدول الإسلامية، وسنبسط الأمر ونفصل ملامحه من خلال الأطروحات الآتية:
أولاً: إن هناك جدلية تاريخية تتعلق بالعلاقة التبادلية بين الإسلام والعروبة منذ أن ثار السؤال التقليدي: هل حمل الإسلام العروبة إلى دول لم تكن عربية فقبلت الإسلام والعروبة معاً؟ أم أن الإسلام هو الذي حمل العروبة - باعتبار أن العربية هي لغة القرآن - إلى دول قبلت الإسلام ديناً وتحفظت على العربية ثقافة، بدليل أن هناك دولاً إسلامية ليست عربية بينما غالبية الدول العربية ذات غالبية مسلمة، ولذلك فإننا نظن أن الإسلام هو الذي حمل العروبة من الجزيرة العربية إلى كل مكان وصلته الدعوة في أرجاء المعمورة، ولأن النبي (صلى الله عليه وسلم) عربي الهوية واللسان، فإن ذلك أعطى زخماً كبيراً لتأثير الإسلام في المناطق التي دخلها حتى وإن لم يكن للثقافة العربية قبول يمحو ما قبله مثلما حدث في مصر ولم يحدث في إيران على سبيل المثال.
ثانياً: لقد ولد «الإسلام السياسي» في مصر بميلاد جماعة «الإخوان المسلمين» في مدينة الإسماعيلية التي كانت تضم عدداً لا بأس به من الأجانب، فالاحتكاك بالغرب كان أحد الدوافع الطبيعية للتفكير في مشروع إسلامي بديل لانهيار الخلافة العثمانية قبل ذلك بسنوات قليلة، لذلك فإن مولد «الإسلام السياسي» كان رد فعلٍ تلقائياً لشعور المسلمين بفراغ القيادة الموحدة واختفاء مظلة الخلافة الإسلامية وحتى العربية بفشل مشروع الشريف حسين الذي كان يسعى لأن يكون ملك العرب. وفي ظني فإن دراسة البيئة السياسية - الإقليمية والدولية - في أواخر عشرينات القرن الماضي تشير بوضوح إلى حالة القلق التي انتابت المفكرين الإسلاميين. ولعلنا نتذكر في هذا السياق الكتاب الشهير «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبدالرازق الذي صدم به طموحات الملك فؤاد في أن يكون «خليفة للمسلمين»، وقد انتشرت دعوة الإمام البنا كالنار في الهشيم ومضت بسرعة البرق باتجاهها الدعوي الديني في أنحاء القطر المصري ثم انتقلت إلى أقطار إسلامية مجاورة، خصوصاً مع حملات المواجهة التي قادتها الأنظمة المصرية - ملكية وجمهورية - ضد قياداتها، وقد كان العصر الناصري بمثابة نقطة التحول التي قويت بها عظام الجماعة وترسخت جذورها، والجدير ذكره هنا أن العاهل السعودي الأول الملك عبدالعزيز الكبير استقبل الإمام حسن البنا في أحد مواسم الحج ورد على دعوة الإمام بعبارة ذكية وبليغة قائلاً له «نحن جميعاً إخوان ونحن جميعاً مسلمون» فأجهض دعوة الإمام في الدولة السعودية مبكراً، خصوصاً أن الفكر السلفي للإمام محمد بن عبدالوهاب كان قد ملأ فراغ الدعوة الدينية في المملكة قبل ذلك بعشرات السنين.
ثالثاً: إن دور غير المسلمين من العرب لم يتعارض تاريخياً مع الدعاوى الدينية ولم يقف معادياً للمشروع الإسلامي، ويكفي أن نتذكر أن ميشيل عفلق فيلسوف البعث كان يقيم احتفالات سنوية بالمولد النبوي الشريف، ويكفي أن نتذكر أيضاً اسماً مثل جرجي زيدان الذي أثرى المكتبة العربية بروائعه عن قصص التاريخ الإسلامي، ولم يقف المسيحيون العرب تحديداً ضد محاولات الإحياء الإسلامية، ولكل من لا يعلم فإن السياسي المصري الكبير مكرم عبيد باشا وهو مسيحي كان الوحيد الذي شارك في تشييع جنازة الإمام حسن البنا بعد استشهاده، ولم تكن العلاقة بين الأقباط وجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر موضع صدام حاد على مر السنين. لذلك فإننا عندما نتحدث عن المشروع القومي وتراجعه في السنوات الأخيرة، فإننا لا نلقي التبعة على المشروع الإسلامي وحده بل نتذكر جيداً أن هناك أسباباً أخرى وظروفاً متداخلة وقفت وراء ما جرى وطرأ على المشروع القومي في سنواته الأخيرة بفعل إحباطات دولية وانكسارات إقليمية.
رابعاً: إن قضية القدس ذات بعدين سياسي وديني ولكن الأخير هو الذي يشد القوى الإسلامية نحو دعمها لتلك القضية المقدسة التي تلعب دوراً مهماً في تشكيل رؤية الدول الإسلامية للقضية الفلسطينية. فالقدس ذات حساسية خاصة لأصحاب الديانات السماوية الثلاث ولكن المسلمين تحديداً يربطون بينها وبين ما جرى منذ عام 1948 مروراً بـ 1967 وصولاً إلى سياسات إسرائيل العدوانية التوسعية العنصرية الاستفزازية، لذلك فإننا نظن أن جزءاً من أسباب الإحياء الملحوظ للمشروع الإسلامي إنما يأتي من الطبيعة المقدسة والبعد الديني للصراع العربي-الإسرائيلي.
خامساً: إن قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 ودعمها الملحوظ للقضية الفلسطينية مع امتداداتها في «حزب الله» بلبنان كانا بمثابة الزخم الذي دفع إسلامياً بالقضية العربية الأولى وأعطى انطباعاً قوياً بالتوافق بين التيارين الإسلامي والعروبي بل وجعل منظور الدين للصراع العربي-الإسرائيلي متوافراً لدى المسلمين - سنّة وشيعة - وجعل الحديث عن القضية العربية حديثاً مشتركاً بين المسلمين وغير المسلمين من العرب، حتى آلت قيادة المقاومة إلى دعاة المشروع الإسلامي سواء في «حزب الله» أو «حركة حماس» وغيرهما من القوى الصاعدة على المسرح العربي في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي بما يمثله من عدوانٍ على المقدسات وسطو على الممتلكات وتنكر للقيم الدينية والحقائق التاريخية.
سادساً: إن فوز حركة «حماس» في الانتخابات النيابية الفلسطينية منذ سنوات عدة أدخل المزاج العربي العام في إطار إسلامي جديد. ولا أنسى فرحة جماعة «الإخوان المسلمين» بفوز حركة «حماس» التي تبدو وكأنها جناحٌ عسكري لها، كما أن الرفض الدولي لفوز الحركة أعطاها توهجاً وتأثيراً وجعلها مركزاً للجاذبية أمام كل دعاة المشروع الإسلامي، وقد اتخذت بعض الأنظمة الموالية للولايات المتحدة الأميركية والمهادنة لإسرائيل موقفاً سلبياً من حركة «حماس» تجلى تحديداً في رؤية النظام المصري السابق للحركة ومستقبلها، مما اعتبره البعض مقاومة غير مباشرة للمشروع الإسلامي كله.
سابعاً: إن حصاد «الربيع العربي» يبدو إسلامياً في مجمله بما يوحي بأن الشارع العربي قد بدأ يغلب إسلامه على المصادر الأخرى لهويته، فإذا سألت مواطناً مصرياً عادياً في الشارع عن هويته فسيقول لك إنه «مسلم من مصر» بينما لو وجهت السؤال نفسه الى نظيره السوري فسوف تكون الإجابة «عربي من سورية»، وذلك يعكس بوضوح الأهمية التي كانت للمشروع القومي في بلاد الشام بينما التركيز على المشروع الإسلامي في مصر.
هذه ملاحظاتٌ موجزة أردنا بها ومنها أن نؤكد أن ثورات «الربيع العربي» قد أفرزت واقعاً جديداً تتجاوز به الساحة الفكرية في الوطن العربي مراحل البعث العربي الاشتراكي والناصرية والقوميين العرب والوحدويين الاشتراكيين، للدخول في مزاجٍ جديد يرى أن «الإسلام هو الحل» وتعززه صناديق الانتخابات وتدعمه حركة الشارع على نحو أدَّى إلى الملاحظة التي بدأنا بها وهي أن تفسير تراجع المد القومي إنما يرجع إلى قدرة الحركات الإسلامية على استقطاب القلوب لدى أمةٍ يبدو فيها الدين متجذراً وقوياً على رغم كل ما يبدو على السطح أحياناً مخالفاً لذلك.
-----------------------
*نقلا عن الحياة اللندنية الثلاثاء, 31 يناير 2012.