قد يبدو للوهلة الأولى عدم وجود علاقة بين الشارع وما تحويه حركيته من سياسات، ونوعية القضايا التي ناقشها هذا الملحق في أعداده السابقة، أو التي تناقشها مجلة السياسة الدولية بصفة عامة. وقد يرجع ذلك إلى المعاني التي يتضمنها مفهوم الشارع، والتي لها علاقة بالسياسات الداخلية أكثر منها بالسياسات الدولية. ولكن، ترتبط أهمية الاهتمام بالشارع بـ "حالة" الثورة التي تشهدها المنطقة العربية منذ مطلع هذا العام، والتي أحدثت تغييرا في طريقة التفكير فيما يجري في المنطقة، وأثبتت عدم صحة الكثير من المقولات التي تم التعامل معها على أنها "حقائق" حول المنطقة، والتي منها سكون الشارع وتبعيته للحاكم، وأنه إذا تحرك فإنه يتحرك في وجهة واحدة، مثل "القطيع"، وأنه غير قادر على إحداث التغيير. حيث ثبت مع الربيع العربي أنه لا يوجد أحد يستطيع أن يتحكم في الشارع، أو أن يقود حركته، فهو له ديناميكية ذاتية غير مرتبطة بقوة معينة أو بشخص.
كما ولدت هذه الحالة صعوبة في مناقشة أية قضايا مرتبطة بالسياسة عامة، دون الاهتمام بالديناميكيات الداخلية، ولم يعد بالإمكان فهم ما يجري في المنطقة العربية، وربما في العالم، من خلال دراسة وتحليل الهياكل والمؤسسات التقليدية، أو بالتركيز على القوى التقليدية، مثل الأحزاب السياسية، ومؤسسات المجتمع المدني. فهناك قوى "جديدة" من خارج هذه المؤسسات، وهي ليست بأحزاب أو بمنظمات مجتمع مدني، أصبحت مؤثرة، وقادرة على تغيير سياسات الدول، بل قلب نظم الحكم فيها، كما في حالة دول الربيع العربي.
كما أنه في أحيان كثيرة، تكون هذه القوى غامضة في ماهيتها، ومن الصعب تحديدها. وفي أحيان عدة، لا تتعدي أي من هذه القوى حدود الشخص الفرد، حيث أصبح الفرد قوة مؤثرة في حد ذاته. فعلى سبيل المثال، أصبح اسم "شباب الثورة" منتشرا على نطاق واسع في دول الربيع العربي، وهو مفهوم يصعب تحديد أبعاده أو ماهية المنضوين تحته.كما أصبح الشارع يتجلي في صور متنوعة وغير مألوفة. ففي الحالة المصرية، على سبيل المثال، يتجلى الشارع في ظاهرة ميدان التحرير، وهي ظاهرة لا يمكن تصنيفها على أنها نتاج لنشاط مؤسسات المجتمع المدني في مصر، والتي عرفت تاريخيا باهتمامها بقضايا حقوق الإنسان، أو على أنها نتاج نشاط الأحزاب السياسية الموجودة، منذ ما قبل الثورة، والتي لم يعرف عنها القدرة على الحشد والتعبئة على هذا النحو.
فمن الواضح أن ميدان التحرير قد أصبح القناة التي تمارس من خلالها جماعات وقوي شديدة التنوع الضغوط السياسية على المجلس العسكري، باعتباره الممارس الوحيد للسلطة في مصر، خلال المرحلة الانتقالية، وعلى الحكومة المصرية التي تساعد المجلس العسكري في القيام ببعض مهام إدارة المرحلة. وبالنظر إلى حدود تأثير الميدان، نجده قد نجح في إحداث تغييرات سياسية كبيرة، خاصة فيما يتعلق بالسياسات الداخلية، حيث نجحت الدعوة للمليونيات في الميدان، وميادين مصر الأخرى، في الإسراع بمحاكمة الرئيس مبارك وأبنائه، وفي تعديل الجدول الزمني الذي بموجبه يتم نقل السلطة للقوي السياسية المدنية، من خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية.
وظاهرة "الشارع" رغم وضوحها في الدول العربية التي تمر بمراحل انتقالية، خاصة مصر، فإن الدول الغربية التي عرفت بديمقراطياتها العريقة بدأت هي الأخرى تشهد هذا النمط من الحراك السياسي، حيث أصبحت عملية الحشد والتعبئة في الشوارع والميادين الوسيلة المثلي لمعارضة أعضاء البرلمان ووزراء الحكومة، وسياساتهم، وبالتالي توافرت معارضة في الشوارع خارج المؤسسات التقليدية، ومن قبل قوى غير تقليدية.
والأمثلة على ذلك كثيرة، منها حركة وول ستريت التي سعت لاحتلال شارع وول ستريت للمطالبة بتغيير النظام الاقتصادي، وحركة الطلاب في بريطانيا التي كانت ضد تعديل الرسوم الدراسية (1) ويبدو أن هذه الظاهرة مرتبطة بمراحل التغير السريع أو التغيير الثوري في المجتمعات. فعلى سبيل المثال، رصد آصف بيات تنامي سياسات الشارع في إيران بعد الثورة الإسلامية، وكانت القوى المحركة الرئيسية لها هي الطبقات الفقيرة التي انتقلت للعيش في المناطق الحضرية )2(.
يجادل هذا العدد من الملحق بأن الشارع قد أصبح يتألف من قوي متنوعة، يصعب في كثير من الأحيان تحديد ماهيتها، أو ديناميكيات عملها، ولكنها أصبحت تتمتع بقوة سياسية مؤثرة في تحديد مستقبل النظم في الدول التي تمر بمراحل انتقالية، وربما في تحديد مسار السياسات الخارجية لدولها، وفي تحديد نوعية القضايا الأكثر أهمية فيها. كما أصبح الشارع يلعب دورا مهما في تحديد السياسات العامة في حالة الديمقراطيات المستقرة. كما يجادل بأن دراسة الشارع، كقوة سياسية مؤثرة، تتطلب استخدام مفاهيم ومداخل جديدة، أكثر تعبيرا عن الحالة التي تعيشها الدول العربية، خاصة تلك التي تمر بمراحل انتقالية، وأكثر قدرة على تحديد القوى الرئيسية الفاعلة في الشارع، وتحليل استراتيجيات عملها.
تأثير الشارع في الحياة السياسية
وفي هذا الإطار، يناقش هذا العدد من الملحق الظواهر المختلفة التي باتت تعبر عن الشارع في الدول العربية، ويحاول أن يقدم بعض المداخل النظرية التي يمكن من خلالها دراسة تلك الظواهر، خاصة في حالة الدول العربية التي تمر بمراحل انتقالية. كما يحاول الإجابة على عدد من التساؤلات الخاصة بمستقبل تأثير الشارع في الحياة السياسية، وحدود استمرار تأثيره بعد اكتمال بناء النظام الجديد بمؤسساته في دول مثل مصر وليبيا، وهل سيطرأ تحول في الشارع خلال مراحل الاستقرار أم لا؟، وكيف سيؤثر الشارع على عملية صنع القرار السياسي؟، وماهي "حدود" هذا التأثير؟.
في هذا الإطار، يناقش الملحق خمس صور أو ظواهر، يمكن من خلالها دراسة الشارع، وحركيته، والقوى غير المنظمة التي يتألف منها. إذ يناقش القسم الأول الرأي العام، باعتباره من أكثر الطرق انضباطا من حيث تحليلها لتوجهات الشعوب، ولكنها الأقل تأصيلا من الناحية النظرية، خاصة في الأدبيات العربية. حيث تناقش رانيا مكرم، الباحثة في وحدة دراسات الرأي العام بمركز الأهرام للدراسات، أساليب قياس الرأي العام، وأنماط تأثيره في السياسات الداخلية والخارجية للدول، ومدى تأثره بالعوامل الدينية.
ويناقش القسم الثاني المحتجين كقوة مؤثرة في الشارع، تعبر عن نفسها من خلال المظاهرات والاعتصامات. وتعد هذه الظاهرة هي أحد المداخل التقليدية في تحليل "المزاج السياسي" للشارع، والأكثر انتشارا في دول الربيع العربي، ولكنها الأقل انضباطا في دراستها، خاصة في الأدبيات العربية.
يناقش أشرف عبدالعزيز، الباحث في العلوم السياسية، تكتيكات واستراتيجيات الاحتجاج، وما طرأ عليها من تطور، في ضوء الثورات التي شهدتها المنطقة العربية، كما يناقش المداخل المختلفة لتحليل تأثيرها في سياسات الدول. وقد انتهي إلى أنه عند تحليل تأثير المظاهرات والاعتصامات في السياسة الخارجية، لا بد من التمييز بين الخطوط الأساسية للسياسة الخارجية، واتخاذ القرار في مجال معين لتلك السياسة.
ويناقش القسم الثالث القوى الزاحفة غير المنظمة، التي تحتشد تلقائيا، أو تتبع سلوكا ما بصورة تلقائية وغير منظمة لإحداث تغيير، ويناقش نموذج اللاحركات الاجتماعية Social Non-Movements، الذي طوره آصف بيات كمدخل لدراسة هذه القوى.
ويعد هذا النموذج إحدي المحاولات الجادة لدراسة وتحليل توجهات الشارع وتفضيلاته، ولكنه الأقل اختبارا في تحليل وتفسير حالة الحراك التي تشهدها دول الربيع العربي. وتجادل رضوي عمار، الباحثة في العلوم السياسية، في هذا القسم، بأن التأثير الرئيسي لهذه الظاهرة لا يمس الدول التي تشهدها، بقدر ما يمس سياسات الدول الأخرى التي تتعامل معها، والتي تنزع إلى الاعتماد أكثر على الدبلوماسية الشعبية لحماية مصالحها في الدولة التي تشهد هذه الظاهرة. وانتهت إلى أن اللاحركات الاجتماعية تستطيع تقويض أركان نظام دولة ما، لكن تظل قدراتها على بناء نظام جديد غائبة، ما لم تتحول إلى حركات اجتماعية فاعلة في المجتمع.
ويناقش القسم الرابع القوى التي تتحدي السلطة، والتي أصبحت جزءا مهما من الشارع في دول الربيع العربي. وأهمية هذه الظاهرة مرتبطة بأن القوى التي تتحدي السلطة لم تعد قوي خارجة على القانون، اعتادت أعمال النهب أو السرقة، بل هي قوي معروفة بانضباطها، ولكنها رأت في تحدي السلطة مدخلا لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والشارع.
وتناقش في هذا الجزء د. أمل حمادة، أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، حالة الألتراس في مصر كمعبر عن هذه القوى. وتجادل بأن الألتراس يلعب دورا مهما خلال المرحلة الحالية في إعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والشارع في مصر، ولكن لا ينبغي أن نبالغ في الحديث عن تحوله إلى قوة سياسية، لأنه غير قادر على تقديم بدائل بناءة لرسم العلاقات الجديدة بين الدولة والشارع.
كما يناقش القسم الخامس البلطجية كقوة فاعلة في الشارع، لم يعد بالإمكان تجاهل وجودها في الدول التي تمر بمراحل انتقالية بعد سقوط النظم فيها، وانتشار حالة من الفوضي الأمنية بها. حيث يناقش أحمد أبو زيد، الباحث في العلوم السياسية، الخصائص العامة المميزة لظاهرة البلطجة، والقوى الرئيسية المحركة لها، وتأثيراتها في الحياة السياسية والأوضاع الأمنية، مع الاهتمام بالحالة المصرية، باعتبارها الحالة التي تطورت فيها أعمال البلطجة بصورة ملحوظة بعد سقوط نظام الرئيس السابق حسني مبارك.
ويعرض القسم الأخير من الملحق وجهتي نظر، إحداهما أكاديمية، وأخرى عملية، حول تأثير الاهتمام بالشارع في مجال العلوم السياسية، وفي عملية صنع القرار. حيث تناقش د. هبة رءوف، مدرس العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، من وجهة نظر أكاديمية، كيفية تأثير تزايد أهمية الشارع في دارسات المجال العام، من حيث القوى المؤثرة فيه، ونوع القضايا التي تتم مناقشتها، واستراتيجيات وأدوات عمل تلك القوى. وتجادل بأنه ترتب على هذا التأثير تحول مستمر ومتداخل الأبعاد في المجال العام، على مستوى الذات الفاعلة فيه، وعلى مستوى مساحات المجال العام، وعلى مستوى عنصر الزمن.
كما يناقش السفير الدكتور هاني خلاف، مساعد وزير الخارجية الأسبق للشئون العربية، كيفية تأثير تزايد أهمية الشارع في عملية صنع قرار السياسة الخارجية في الدول العربية، وفي علاقاتها الخارجية بصفة عامة. ويجادل بأن قدرة الشارع على التأثير في قضايا السياسة الخارجية لا تزال محدودة، وأن هناك خمسة عوامل ستزيد من قدرة الشارع على التأثير في قضايا السياسة الخارجية، منها تزايد أهمية المؤسسات البرلمانية المنتخبة في عملية صنع القرار، وتزايد أعداد الشباب المتعلم في أجهزة صنع قرار السياسة الخارجية، وتزايد قوة التيارات الإسلامية في الحياة السياسية داخل البلدان العربية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) تقديم ملحق" اتجاهات نظرية " ، مجلة السياسة الدولية ، العدد 187 ، يناير 2012، ص ص 3-5
1- Street Politics : playing with fire , The Guardian , Dec 11, 2010
2- Asef Bayat , Street Politics: Poor people’s Movements in Iran ،New York: Columbia unv.press.1997