لم يكن عام 2011 عاماً عاديّاً في الوطن العربي، ففي ذلك العام شهدت قرابة نصف الدول العربية محاولات للإصلاح والتغيير لم تحقق كلها بالضرورة أهدافها القصوى ولكن الهزيمة لم تكن نصيبها بالتأكيد. ومن الدول التي وضحت فيها ملامح الإصلاح المغرب وبدرجة أقل الأردن، وفي الحالتين كانت ثمة فئات لم تكن راضية عما تم وتطالب بالمزيد. ومن الدول التي اتخذت فيها محاولات التغيير بعداً ثوريّاً واضحاً تونس التي كان لها الفضل في إشعال شرارة الاحتجاج ومطلب التغيير في عديد من الدول العربية، وتلتها في ذلك مصر التي أضافت ثقلاً واضحاً لمطالب التغيير التي امتدت لاحقاً إلى ليبيا وسوريا واليمن، مع العلم بأن حركة المعارضة في اليمن كانت سابقة حتى على الثورة التونسية، وإن تلقت زخماً هائلاً بما وقع في تونس ومصر.
تفاوتت درجة النجاح التي حققتها حركات التغيير في بلدانها فقد نجحت في تونس ومصر وليبيا واليمن في الإطاحة برأس النظام مع خلاف في التفاصيل، إذ هرب الرئيس التونسي إلى السعودية، وتنحى الرئيس المصري عن منصبه وأقام في مدينة شرم الشيخ المصرية بعض الوقت إلى أن بدأت محاكمته، وقتل القائد الليبي بأيدي الثوار، ويسافر الرئيس اليمني إلى الولايات المتحدة تحت ستار العلاج، وبقي الرئيس السوري صامداً في موقعه حتى الآن، وإن بدأت المؤشرات تتزايد حول سقوطه الوشيك. وكان واضحاً أن موقف القوات المسلحة هو الذي حسم النهايات بشكل أو بآخر، فعندما انحازت القوات المسلحة إلى الثورة أو وقفت منها موقف الحياد أسرع ذلك بالإطاحة برأس النظام كما حدث في تونس ومصر، وعندما تبنت موقف النظام من مطالبات التغيير طال الصراع وامتد مخلفاً وراءه تكلفة بشرية ومادية هائلة كما كان الحال في ليبيا واليمن وسوريا.
ولكن الثوار انقسموا على أنفسهم بعد نجاحهم في إقصاء رأس النظام، ولم يكن لهم تنظيم يضعهم في مواقع السلطة، وربما تكون تونس قد تجاوزت هذه الحالة إلى حد بعيد بانتخابات المجلس التأسيسي وتوزيع الرئاسات الثلاث بين أكبر ثلاث قوى فازت بالانتخابات وعلى رأسها حزب النهضة الذي استأثر برئاسة الحكومة تاركاً رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس التأسيسي لشركائه السياسيين، وعبرت تونس بهذا أيضاً مرحلة الاستقطاب الحاد بين قوى "الإسلام السياسي" والقوى المدنية، وهي خطوة مهمة تثور بشأنها علامات استفهام كثيرة في مصر حيث لم يكتمل بناء المؤسسة التشريعية بعد، وإن كانت المؤشرات تشير إلى اكتساح تيار "الإسلام السياسي" لهذه الانتخابات حتى الآن، وإذا أطلقت يد البرلمان في تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور فإن هذا قد يفضي إلى هيمنة كاملة لـ"الإسلام السياسي" على النظام السياسي القادم، وسيتوقف إنهاء الاستقطاب بينه وبين القوى المدنية على مبادراته الذاتية. وما زالت الأمور غير واضحة في كل من ليبيا واليمن وإن كان ظاهراً أن قوى "الإسلام السياسي" سيكون لها حضور قوي في النظام الجديد، وهو وضع من شأنه أن يؤدي في الحالات الثلاث -مصر وليبيا واليمن- وربما سوريا لاحقاً، إلى عدم استقرار سياسي نتيجة شعور قوى الثورة بأن فصيلاً واحداً منها قد استأثر بكل شيء.
ومن ناحية أخرى فإن الصعود الملفت لقوى "الإسلام السياسي" في حالات التغيير الثوري ستكون له آثاره الواضحة على النظام العربي، فعلى رغم ما أثبته "الربيع العربي" من قواسم مشتركة قوية بين الشعوب العربية إلا أنه قد يفضي في التحليل الأخير إلى اختفاء النظام العربي بالمفهوم الذي ألفناه، ذلك أن مرجعية قوى "الإسلام السياسي" هي "الأمة الإسلامية" وليس "القومية العربية"، وبالتالي فإن حدود النظام العربي ستكون عرضة للتغيير نتيجة تدعيم العلاقات مع عدد من الدول الإسلامية مثل تركيا وماليزيا وإندونيسيا، وهلم جرا، وربما تبقى المعضلة الإيرانية قائمة لأن فتح حدود النظام الجديد سيزعج دول مجلس التعاون الخليجي كثيراً للاعتبارات المعروفة، وهي دول لا يمكن لنظام جديد في الوطن العربي أن يخاطر بفقدان علاقته معها، وخاصة أن هذه الدول قد قدمت في مرحلة معينة ملاذاً آمناً لقيادات تيار "الإسلام السياسي" في الوطن العربي، ومع ذلك -أي على رغم التغيير المرجح لحدود النظام- فإن القوى "الإسلامية" الحاكمة الجديدة قد تكتشف قوة الرابطة العربية المبنية على اللغة المشتركة والتاريخ المشترك والتلاصق الجغرافي، وقد تضطر إلى إعادة الاعتبار للنظام العربي وإن اعتبرته النواة الصلبة للنظام الإسلامي الأوسع.
وكذلك فإن لنجاح بعض حركات التغيير أثراً محتملاً على الصراع العربي- الإسرائيلي، ولهذا تعيش إسرائيل الآن حالة من القلق فيما لو تغيرت سياسات النظم "الإسلامية" الجديدة في الوطن العربي، وهو احتمال مستبعد في الأجلين القصير والمتوسط نظراً لاعتبارات موازين القوى، وإن كانت لغة الخطاب السياسي الجديد تجاه إسرائيل في النظم "الإسلامية" مرشحة للتغيير بالإضافة إلى اتباع نهج أكثر صرامة تجاه تفاصيل العلاقات معها، كما في قضية تصدير الغاز المصري لإسرائيل على سبيل المثال. وأحد الاحتمالات أيضاً أن تؤدي التطورات الأخيرة إلى آثار سلبية على المصالحة الفلسطينية، ذلك أن "حماس" فرع من حركة "الإخوان المسلمين" في مصر والوطن العربي، ولو أن "الإسلام السياسي" قد استتب له الحكم في تونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها فإن "حماس" قد تبدأ في التفكير في المصالحة بمنطق مختلف، بمعنى أن ترى أن ثمة توافقاً استراتيجيّاً جديداً يتخلق في جوارها المباشر وغير المباشر، الأمر الذي يمكن أن يغريها بالتشدد في موضوع المصالحة طالما أنه أصبح لها ظهير استراتيجي مهم وعمق تستند إليه في حركتها.
لم يكن عام2011 إذن عام إنجازات "صافية"، بل هو عام الإنجازات "الناقصة" أو "الملتبسة" إذا جاز التعبير، وما زال أمام حركات التغيير مهام جسام يتعين عليها الوفاء بها تحقيقاً لأهدافها وترسيخاً لها. ويضاف إلى ما سبق أن عام2011 لم يكن كله "ربيعاً"، فقد انفصل جنوب السودان عن السودان الموحد في ذلك العام في سابقة هي الأولى من نوعها في الوطن العربي، وليست المشكلة الأساسية هي انفصال الجنوب عن الشمال، ولكن في كون هذا الانفصال دليلاً على إخفاق النظم العربية في إدارة التنوع في بلدانها، وإذا استمر هذا الإخفاق فقد ينذر بحالات أخرى جديدة، مثل أكراد العراق وجنوب اليمن اللذين امتدت مطالبهما عبر السنين، وكانت في البداية مطالب معقولة تستند إلى إرساء مبدأ المواطنة للجميع ثم تطورت شيئاً فشيئاً إلى المطالبة بالانفصال إزاء تجاهل مطالبهم المشروعة. ولو تكررت سابقة انقسام دول في النظام العربي فسيكون المعنى الوحيد لهذا هو أننا مقبلون في الوطن العربي على مرحلة اضطراب عظيم.
ولكن الله سبحانه وتعالى شاء ألا ينتهي العام إلا بمبادرة تفتح الباب للأمل في مستقبل أفضل، تلك هي مبادرة العاهل السعودي بطرح فكرة "الاتحاد الخليجي" في القمة الخليجية الأخيرة، وتبني هذه القمة للفكرة، ووضع عدد من الضوابط الإجرائية لدراستها في أسرع وقت ممكن، وعلى رغم أننا لا نستطيع الجزم بمصير هذه الفكرة إلا أن مجرد طرحها يفتح الباب لنسمات الأمل في أن يكون عام 2012 عاماً أفضل بالنسبة لأمتنا العربية.
-----------------------
* نقلا عن الاتحاد الإمارتية، الثلاثاء، 3/1/2012.