استحق " المتظاهر The Protester" لقب شخصية عام 2011 الذي منحته له مجلة " التايم" ، إذ اعتبرته فاعلا رئيسيا وموجها للتاريخ الإنسانى، لاسيما على خلفية الثورات التي شهدتها المنطقة العربية ، فضلا عن الاحتجاجات التي امتدت إلى بقاع أخرى في العالم. لقد احتفت التايم بـ" المتظاهر" لتصف ملامحه وأسباب صعوده للمشهد العالمي ليكون موجها للربيع العربي الذي أسقط نظما سياسية ظن البعض أنها عصية على التغيير.
وحددت مجلة التايم ملامح المتظاهر في عام 2011 ، واعتبرتها وراء نجاحه في التغيير في بقاع مختلفة من العالم ، ومن أبرزها:
1 - تجاوز الانتماء السياسي، إذ أن المتظاهر في عام 2011 كان مجردا من الانتماءات السياسية أو الأيديولوجية التي تحد منه، أو ترك مرجعياته جانبا، وانضوى تحت لواء واحد مع آلاف قد لا يشبهونه تماما بغرض تغيير الوضع السائد، فمتظاهر 2011 لم يسجن نفسه في حسابات ومساومات الأحزاب السياسية.
2 -غياب الزعامة ، فلم ينتظر المتظاهر أن يتحقق التغيير على أيدي الحكام أو النخبة ، إذ أحدث التغيير بنفسه من القاعدة، ولم يعد للزعامة المعنى التقليدي نفسه القديم، إذ تحرك الشارع بدون قيادة ليسقط أنظمة ظلت تحتمي بأدوات قمعية.
3 -عودة قوة الشارع، فمتظاهر 2011 عالج قلقا تملك كثيرين مع غياب قوة الشوارع، خاصة خلال التسعينيات وأول عقود الألفية الجديدة، فقد كان صوت الشارع فى الأغلب ضائعا لا يحدث الكثير، لذا جاء المتظاهر ليغير حركة التاريخ ، مثلما حدث مع حركة الحقوق المدنية فى الستينيات، وفى سبعينيات إيران والبرتغال، لكنه حقق ما هو أكبر من ذلك، فهو يختلف عن هذه العينة من المتظاهرين، فلا يناصر قضية مجردة.
4 -عابر للقوميات، أن تأثير المتظاهر تخطى الحدود الجغرافية والثقافية ليحدث فورة إقليمية وعالمية. هو الأقرب شبها بأرباب الثورة الفرنسية منتصف القرن التاسع عشر، عندما بعثوا بإشارات التغيير إلى باقي أوروبا، فكان تحولا تاريخيا كبيرا. ولقد كان أول ظهور للمتظاهر في شوارع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، قبل أن ينتقل إلى مدن أوروبا و ووال ستريت الأمريكية، مرورا بإسرائيل، وانتهاء بموسكو ونيودلهى. حقق متظاهر 2011 أكبر نجاح لنظرية " قطع الدومينو".
5 - شعارات شبه موحدة، (خاصة فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية، والمساواة، ومجابهة الفساد) ، إذ اتبع المتظاهر تقريبا نفس تكتيكات الحشد والاعتراض، وكأن مظالم أهل الجنوب والشمال فجأة أصبحت واحدة رغم أنهم في الولايات المتحدة وأوروبا لديهم أدوات أكثر سلاسة لتغيير النظم السياسية والحكومات.
6 - كسر دائرة الخوف، إذ أن المتظاهر كان يعلم أن القتل والتعذيب في انتظاره ، لكن ذلك لم يزده إلا اصرارا على الخروج إلى الشارع لكسر دائرة الخوف ، ففي حين أن أهل تونس ومصر مثلا خرجوا إلى الميادين، مدركين أن انتهاكا وقتلا مؤكدا في الانتظار، وهو ما كان ولا يزال يجرى في سوريا واليمن.
7 - تكنولوجيا الضغط، فقد اعتمد متظاهر 2011 على أدوات التكنولوجيا فى التوجيه وإطلاع العالم الخارجي على ما يجرى فى بلاده، عبر استخدام شبكات التواصل الإجتماعي، والهواتف الذكية فى إدانة الأنظمة التي انتفض ضدها وتوثيق تضحياته وجرائم غيره.
8 -تبادل الخبرات الاحتجاجية ، أنه اعتمد على عولمة تجربته وتبادل الخبرات، ونصائح مواجهة قوات الأمن، وسحب الغاز المزيل للدموع. كان لهذه الوسائل أيضا الفضل في عولمة تجربة مدن التظاهر الفاضلة باحتلال ميادين وشوارع، وفرض نظم للدخول والخروج والتعامل بداخلها، وبالطبع إقامة مستشفى ميداني لإسعاف من سقط، وخطوط لإمداد الأغطية والطعام و خلافه، أو ما وصفه تقرير " تايم" التاريخي " بالـ Communal Resistance. لكن تطور أدوات المتظاهرين لم تقص الوسائل التقليدية من الاجتماع وجها لوجه، والتنسيق المباشر، والارتحال من مكان إلى آخر، قاصدين قلب الثورة في ووال ستريت، وميدان اللؤلؤة، والتحرير وغيرها.
9 - سلمية ثورية، فكلما صعدت قوات الأمن من بطشها ضد المتظاهر ، توافد على ميادينه الثورية المزيد والمزيد من المشاركين، بعضهم يرفع صوته بشكل سلمي لأول مرة. وعندما تخلى المتظاهر عن السلمية، كما حدث فى حالة الغاضبين البريطانيين، خسر تعاطف مجتمعه، حتى و إن كانت مظالمه تستحق سرعة الفصل. لم تكن الشعارات فقط موحدة، وتنتقل من قطر إلى آخر، لكن متظاهر 2011 استعان بإرث الأدبيات الثورية، مثل خطب مارتن لوثر كينج.
ثانيا: مقارنات روسية – عربية
قبل التقرير الذى قدمته مجلة " تايم" احتفاء بالمتظاهر على نحو أربعين صفحة، جاءت مقالة الشهير فريد زكريا، عاقدا مقارنة بين الحالة الروسية وانتفاضة أهالي موسكو وما حولها ضد سنوات جديدة من حكم فلاديمير بوتين، وبعض جوانب التجربة العربية وربيعها.
فالهم الأساسي الذي دفع متظاهر الشرق الأوسط إلى الميادين دفع نظيره الروسي أيضا إلى الخروج. الإحساس نفسه بضياع الحقوق وإبعاده خارج المعادلة السياسية والاقتصادية لهذه البلاد.
صحيح أن السنوات التي تلت خروجه في موسكو وعواصم العرب شهدت نموا اقتصاديا سجلته التقارير المحلية والدولية، لكنه لم ينل منه الكثير. وفى أحيان، لم ينل شيئا أبدا، لاستشراء الفساد بين القيادة السياسية والنخب المرتبطة بها.
لكن هذا النمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي خلق في الحالتين ( الروسية والعربية) طبقة من الشباب المتعلم تكنولوجيا والمطلع على مجريات الأمور في العالم الخارجي، فكانت المقارنة وكان الغضب. قد يكون، والعهدة على زكريا، الوطن العربي أكثر قوة بتنوع ونضوج مجتمعه المدني، مقارنة بروسيا التي بدأ المجتمع المدني يحدث فارقا فيها.
روسيا أيضا تشبه في بعض خصائصها نموذج الخليج العربي وإيران. فبفضل موارد وفيرة ومتنوعة بين البترول وغيره، تمكنت الدولة الروسية من تفعيل سياسة تمزج بين الترغيب بالرشوة والترهيب قمعا، فكانت محاولات المتظاهر متواضعة التأثير حتى الآن.
لكن، وفقا لنبوءة زكريا، إذا تحقق احتمال انخفاض أسعار البترول عالميا، فستفقد الدولة الروسية إحدى الأدوات التي تضمن لها البقاء.وقد يجد المجتمع المدني هناك فرصته ليحدث تحولا تاريخيا، كما تتوقع نهاية مقال زكريا. وحتى يتحقق هذا في روسيا، فإن هناك ما حققه المتظاهر في أقطار أخرى ويستحق التقييم.
ثالثا: نقطة ضعف المتظاهر؟
مجلة تايم حذرت من أن متظاهر2011 يعانى بعض المشكلات. فهو في الأغلب متعلم، مطلع، وغير مسيس.وفى ذلك سر نجاح ما نجح من الثورات واستمرار غيرها. ولو كان قام بها السياسيون باعتباراتهم واستعدادهم للمساومة والإذعان للحاكم، لفشلت الثورات.
لكن نقطة القوة، بعد تمام أولى أهداف الثورة، كانت نقطة ضعف كما حدث في مصر. فغياب الرؤية السياسية الموحدة للثوار ترك البلاد فريسة للخلافات. اللافت أن الحركات الإسلامية (التي وقفت بعيدا عن الثورة في صراعها الأول) قطفت ما زرعه متظاهر الميادين، عبر صناديق أول انتخابات برلمانية نزيهة.
لكن هناك رأيا به من الصواب الكثير، يقول إنه ما دام دخل التيار الإسلامي المعترك الديمقراطي، وسط بداية للتعددية الحزبية الحق، فسيكون عليه التوجه وسطا، والتزام الاعتدال، فالعلاقة تغيرت وللأبد بين الحاكم والمحكوم. يبدو أن نهاية التاريخ لم تحل بعد. المتظاهر فتح فصلا جديدا، والبقية تأتى.. هكذا، تتوقع التايم.