تمثل القبيلة العربية حالة تاريخية متمايزة، تتطلب البحث عن جذورها وتطورها التاريخي، دون التسليم بالصورة السلبية عن مفهوم القبيلة، وما تقوم عليه من عصبية. فالقبيلة العربية بلغت مرحلة كبيرة من النضج، وسابقت المدنية في كثير من الدول العربية المعاصرة، حتى أصبحت هذه الدول تتفوق في مستوياتها المعيشية وتطورها الحضاري كثيرا ممن الدول الأوروبية، بعد أن نجحت القبيلة فى التحول إلى حالة من الثورة الاجتماعية، وتصبح عنصراً محورياً في تشكيل الهوية المعاصرة.
ولكن في المقابل، حرصت بعض النظم السياسية العربية على إهمال كل ما من شأنه تعزيز دولة القانون والدستور القائمة على المواطنة والمساواة التامة، بل اتجهت لترسيخ وتعزيز الولاءات القبلية والطائفية والعرقية، بما يضمن بقاءها في السلطة. وأجبرت الكثير من تلك الولاءات على العمل تحت الأرض، حتى جاءت تلك الريح العاصفة، فلم تسقط أوراق هذه النظم، بل اقتلعتها من جذورها، وكشفت عما تحت الأرض.
وأصبحت عواصف الربيع الثوري العربي أشبه بجرافات كاسحة كشفت عن الواقع الحقيقي في المجتمعات العربية، وما تمثله التكوينات الأولية فيها من قبائل وعشائر وعصبيات لم تكتف بدور المشاهد أو المشارك من بعيد، ولكن الساعي نحو تصدر المشهد، وإدارة حركة التغيير، ولكن في اتجاه عكس سير التاريخ، ليصبح الربيع العربي ربيعاً لجذور العرب وأصولهم القبلية والعشائرية والعرقية . فهل تبقي الجذور صامدة، أم تأتي رياح أشد عصفاً تعيد الأمور إلى نصابها الطبيعي، وتصبح هذه الجذور مجرد ركائز للبناء وليس في قمته، في وطن يحكمه الدستور والقانون، ويسوده العدل والمساواة؟.
أولاً- القبيلة في ثورة تونس:
للقبيلة وجودها القوي في تونس، فالشعب التونسي تمتد جذوره للعديد من القبائل، إلا أن أغلبها ينتمي إلى "بني هلال" و"بنى سليم"، الذين تعود جذورهم إلى الجزيرة العربية، ويرجع أصلهم إلى عدنان جد العرب، وأغلبهم جاءوا بعد فتح تونس. ومن أشهر عشائرهم وامتداداتهم المعاصرة:
1- جلاص: الذين يتمركزون بوسط البلاد، وهم بطنان، الأول: جلاص بني يدير القبالة في بوحجلة والشراردة ونصرالله وأولاد حفوز، والثاني: جلاص بني يدير الظهارى.
2- أولاد يعقوب: من أشهر قبائل بني سليم في جنوب تونس، وكانت إليهم رئاسة حكيم، وسائر بطونهم في البلاد التونسية بمنطقة قابس.
3- الصوابر: ومنازلهم بنواحي قابس وقرية الصابرية، ومنهم قسم لا يزال في الحجاز حتى اليوم.
4- بنو يزيد: ويتوزعون بين بني صهب بن جابر، وبني حمدان بن جابر، وبنى الخرجة، وأولاد سنان بن عامر، وأكثر في الحامه بقابس.
5- الكعــوب: وهم بنو كعب بن أحمد، ويتركزون حاليا بالوسط التونسي إلى جانب ولاية قابس.
6- الهمامة: وهي من القبائل القوية في منطقة نفطة وتوزر في جنوب غرب تونس شمال شط الجريد، كما يوجد منهم في بلدة المكناسي بوسط تونس شمال شرق مدينة قفصة.
7- أولاد دباب: ومساكنهم قرب حدود ليبيا مع تونس في تطاوين وما حولها.
هذا بجانب قبائل المثاليث، وقبائل أولاد سليم، وقبائل أولاد سلطان، ويتركزون بالوسط التونسي، وقبائل المرازيق الذين يستقرون في دوز بولاية قابس.
إلا أنه رغم هذا التنوع وتلك الامتدادات، لم يكن للقبائل وجود فاعل أو مؤثر في أحداث الثورة وتطوراتها، بما يعكس درجة كبيرة من تطور قيم المواطنة والولاء للوطن، وتجاهل كل العصبيات التحتية، وهو ما انعكس على سلاسة عملية التحول السياسي، بعد الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي ونظامه.
ثانياً- القبائل والتغيير في ليبيا
المجتمع الليبي مثله مثل معظم الشعوب العربية، مجتمع قبلي بالأساس، فمعظم الليبيين ينحدرون من أصول قبلية، عربية، وأمازيغية، بالإضافة إلى قبائل التبو وقبائل الطوارق وغيرها. ويصل عدد القبائل الليبية لنحو 140 قبيلة وفخذاً. وبحسب الخريطة السكانية الليبية، تنتشر قبائل العواقير والعبيدات الشرق وقبائل مصراتة في بنغازي. أما القذاذفة، فيتوزعون في مناطق الوسط وسرت وسبها وطرابلس، فيما يتمركز المقارحة في منطقة فزان (وسط) والورفلة في الجنوب والزاوية في الشرق. وفي مناطق الشمال الغربي، يعيش أبناء من قبائل الورفلة وترهونة وصقر وبني وليد والزنتان، بينما تعيش في الجنوب الغربي قبائل الطوارق، وفي الجنوب الشرقي قبائل التبو.
وقد حاول نظام القذافي جاهدا إيقاف عملية ذوبان القبيلة في المدينة، من خلال إعادة إحياء النعرات القبلية، وإقامة التحالفات المشبوهة، وإنشاء الروابط القبلية ذات البعد الأمني، وكذلك من خلال عرقلة عملية التمدن، وإضعاف المؤسسات المدنية القائمة، وعدم سماحه بتأسيس منظمات المجتمع المدني المختلفة.
واستغل القذافى البعد القبلي في سياسته للسيطرة علي الحكم في ليبيا، بعد أن غير اسمه من "معمر بومنيار" إلى "معمر القذافى"، لكى يكسب ولاء قبيلته. واستمر في استغلال القبيلة من خلال ضرب القيادات التقليدية للقبائل، ودعم عناصر موالية له. كما قام بإبرام تحالفات مشبوهة من خلال شخصيات محسوبة على قبائل معينة، وتخريج دفعات كبيرة من ضباط الجيش مبنية على قبيلته وعلى قبائل أرادها حليفة له، حيث كان يعتقد أنه يستطيع شراء ولائهم ببعض المزايا التي يحصلون عليها، إلا أن محاولاتهم المتكررة لقلب نظام حكمه أثبتت فشل مسعاه.
ومع اندلاع شرارة الانتفاضة الشعبية في ليبيا في 17 فبراير 2011، بدأت التحذيرات من العامل القبلي ودوره في إذكاء النزاع على السلطة، ولا سيما أن قبيلة القذاذفة، التي يتولى أحد أبنائها (العقيد معمر القذافي) السلطة على مدى 42 عاماً، هي من أصغر القبائل الليبية، بينما كان الملك محمد السنوسي، الذي انتزعت منه ثورة الفاتح من سبتمبر عام 1969 الحكم، ابن أكبر قبيلة (المقارحة). وجاء التهديد الأول بالعامل القبلي على لسان سيف الإسلام القذافي، حين حذّر من عواقب دخول بلاده في دوامة حرب أهلية، وأن القبائل ستتقاتل فيما بينها في الشوارع.
وبدا أن قائد الثورة قد اطمأن إلى أن "المقارحة" لن يقفوا ضده في معركته الأخيرة، فقد قدّم الكثير من التنازلات لإطلاق أحد أبناء هذه القبيلة (عبد الباسط المقرحي) المتهم في قضية لوكيربي، إلى جانب أن القذافي منذ نجاح ثورته عام 1969 وضع بعض أبناء المقارحة في مواقع مهمة، مثل تعيين الرائد الركن عبد السلام جلود مساعداً له، وتسليمه أهم الملفات السياسية في البلاد. وقد أسهم انشقاق جلود في تأييد قبيلة المقارحة للثوار، هذا إلى جانب رئيس جهاز الاستخبارات عبد الله السنوسي، ساعد القذافي اليمنى في إحكام السيطرة الأمنية على البلاد، وهو في الوقت نفسه نسيبه، إذ إنه متزوج من أخت صفية فركاش، الزوجة الثانية للقذافي.
أما قبيلة الورفلة، فقد كانت إلى جانب القذاذفة والمقارحة في حلف أنشأه القذافي في بدايات عهده، لكن هذا الحلف لم يصمد طويلاً، فقد ثارت الورفلة ضد نظام القذافي في أواسط التسعينيات من القرن الماضي، وقادت عملية عسكرية فاشلة بعد اغتيال حسن إشكال الذي يعدّ أحد قادتها البارزين، ثم عادت الورفلة لتعلن انضمامها إلى انتفاضة الشعب الليبي. وسهّل أحد أبنائها "العقيد البراني أشكال" سقوط طرابلس، عندما فتح المدينة أمام الثوار من موقعه كقائد لكتيبة حماية القذافي.
وخلال ثورة السابع عشر من فبراير، كان العامل القبلي هو الحاسم في إدارة الصراع وتطوراته، وأصبحت خريطة توجهات القبائل ومواقفها من الصراع من أهم أدوات الثوار والدول الداعمة لهم في مواجهة القذافي.
ولكن رغم المخاوف من تصاعد دور القبيلة في الثورة، ومن أن بنية المجتمع الليبي ذات الطابع القبلي وغياب مؤسسات الدولة بالمعنى الحديث لن تجعل مهمة بناء مؤسسات سياسية جديدة صعبة في مرحلة ما بعد نظام القذافي، فإن هناك من يراهن على أن القبائل العربية على مر التاريخ هي التي بنت الدولة والإمبراطورية الإسلامية، وأن الليبيين قادرون بفضل نخبهم الواعية، وبفضل التعاون مع زعماء القبائل والعشائر، على أن يقودوا حملة بناء مؤسسات الدولة، وفق معادلة تفاهم وتعاقد، يتم في إطارها تلبية مطالب العشائر والقبائل، وتحقيق التنمية والعدالة، ورفع مستوى معيشة أبناء القبائل، وأن ما يتردد من مخاوف هي مجرد فزَّاعات يحاول البعض تضخيمها وجعلها سبباً للهجوم على الثورة، والنيل من منجزاتها.
ثالثاً- قبلية بامتدادات جديدة في مصر:
لم يكن للعامل القبلي دور فاعل في الثورة المصرية، سواء من حيث انطلاقتها، أو خلال تطوراتها المختلفة، ولكن الثورة كشفت عن عورات النظام السابق فيما يتعلق بالملف القبلي، حيث كان يستخدمه كأداة من أدوات السيطرة على الأوضاع، وكسب الأصوات الانتخابية. بل إنه اتجه إلى تسليح بعض القبائل ودعمها في مواجهة البعض الآخر، وفي مواجهة القوي المعارضة له، خاصة في محافظات الصعيد. وما إن سقط النظام، حتى وجدت بعض هذه القبائل نفسها بلا غطاء، فاتجهت لاستعراض قوتها في الدفاع عن مكتسباتها ومكانتها التي وصلت إليها في ظل النظام السابق.
ورغم أن خريطة توزيع القبائل في محافظات الصعيد تبدو بسيطة ظاهرياً، باعتبار أنها محصورة في قبائل الهوارة والهمامية والعرب والأشراف، فإنها على أرض الواقع شديدة التعقيد:
1- الهوارة: ليسوا قبيلة واحدة، بل عدة قبائل مختلفة، لا يوجد بينها تناغم أو تجانس منهم: الهمامية، وأولاد يحيي، والبلابيش، والنجمية، والسماعنة، والوشاشات، والقليعات. وكل قبيلة ينتمي إليها العديد من العائلات، التي تحكمها تقاليد صارمة في العلاقات والعادات الموروثة. وتتمركز قبائل هوارة شمال قنا وجنوب سوهاج.
2- الهمامية: تنتشر في قرى الرئيسية، والشاوسية، وهو، والحلفاية، وبهجورة، التابعة لمركز نجع حمادي، وكذلك مدينة فرشوط. أما الأمايوه، فهم موزعون على قرى أبومناع، والجحاريد، ونجع سعيد، وهي تتبع مركز دشنا. ويتمركز هوارة النجمية في نجع حمادي وقرية أولاد نجم، والبلابيش في قري فاو قبلي، والمعيصرة، وفاو بحري، فضلا عن وجودهم في قريتى أبوحزام وحمروم التابعتين لمركز نجع حمادي من الناحية الشرقية للنيل.
3- العرب: موزعون في كل قري شمال قنا وجنوبها، إضافة إلى المناطق المستقلة في جنوب سوهاج، وهم عبارة عن عائلات مختلفة وغير متجانسة، وتنتمي إلي جذور متنوعة. لكن فرضت عليها صراعات الأزمنة البعيدة أن تقف في خندق المواجهات الدامية ضد الهوارة. ويتوقف التمايز بين العائلات العربية على الثراء والوظائف والمشاركة في الصراعات.
4- الأشراف: تتركز في قنا وعدد من القرى التابعة لمركز قفط، والصراع الأزلي لها مع العرب عادة يتجدد بمعارك دموية أثناء الانتخابات البرلمانية، إلى جانب الصراع الذي لا يتوقف مع قرية السمطا، التي تضم 14 نجعا تنتمى إلى العرب بمركز دشنا، وهو الذي تجدد أخيرا بواقعة الاختطاف. ولا يختلف الأشراف عن القبائل الأخرى في ظاهرة الانقسام الداخلي الذي تفجره الطموحات السياسية.
وفي ظل هذه التركيبة، شهدت الأسابيع القليلة الماضية عدداً من الأحداث والصراعات القبلية الدامية، وكانت البداية في محافظة قنا بين قبيلتي العرب والأشراف، إثر قيام بعض المنتمين للعرب في قرية السمطا التابعة لمركز دشنا باختطاف 7 أفراد من الأشراف من قرية الشويخات التابعة لمركز قنا.
ثم اندلع العنف مجدداً في "المعيصرة"، إحدى قري "فاو" التابعة لمركز دشنا، التي شهدت مواجهة مسلحة بين عائلتي "العتامنة وعبدالقادر"، وأسفرت عن مصرع قتيل، وإصابة ثمانية آخرين، ثم انفجرت أحداث دامية أخري بين قريتي أبوحزام وحمردوم بين عائلتي الهمامية والسعدات، بسبب النزاع على حدود الأراضي الزراعية بينهما.
وفي جنوب سوهاج، نشب الصراع بين قبيلتي العرب والهوارة في قريتي أولاد خلف وأولاد يحيى، انتقلت من المشادات الكلامية إلى تشابك بالأيدي والشوم، وانتهت بتبادل إطلاق الرصاص، مما أدى إلى مقتل ثلاثة طلاب، اثنين من قبيلة العرب قرية أولاد خلف، والثالث من الهوارة قرية أولاد يحيى. وسرعان ما تطورت الأحداث إلى توسيع دائرة العنف بأن قام الهوارة بقطع خطوط المياه والتليفونات المؤدية لقرية أولاد خلف، وتشكيل فرق شبابية لقطع الطريق أمام سكان القرية، والاعتراض على دفن الطالبين اللذين لقيا مصرعهما من العرب، لأن مدافنهم داخل حدود قرية أولاد يحيى.
ولم تسلم محافظات سيناء وكذلك مطروح من الصراعات القبلية، على خلفية التنافس السياسي والصراع الانتخابي، في ظل صحوة الولاء والانتماء القبلي، والذي كشف عن ممارسات من الفساد والاستبداد والتسلط من نظام لم يكن يعنيه بقاء الدولة وقوة المجتمع، بقدر ما يعنيه بقاء قادته ورموزه، ليضيف مزيدا من التحديات والأخطار على ثورة مصر الجديدة .
رابعاً- القبيلة والسلطة في اليمن :
منذ قيام الثورة اليمنية الأولى في الستينيات من القرن الماضي، كان الهدف الرئيسى هو ضرورة التكامل بين الدولة والقبيلة، واستيعاب القبيلة في منظومة الدولة، وتوظيف القبيلة إيجابيا، بما يعزز من قدرات الدولة، ويحفظ للقبيلة دورها السياسي والاجتماعي، ولكن ضمن منظومة الوطن. إلا أن النظام اتجه إلى تكريس دولة القبيلة، بدلا من قبيلة الدولة، وأسهم في توسيع الفجوة ليس فقط بين القبيلة والدولة، بل بين الدولة والمجتمع.
واستندت عقلية الحاكم إلى أسوأ ما في الموروث القبلي، حيث اتجه إلى تكريس عقلية القبيلة في إطار دولة الفرد الواحد والعائلة الصغيرة، كما انحاز إلى قبائل ضد قبائل أخرى، ضمن سياسة لعبة المصالح، وكسب الولاءات الفردية، وإضعاف القوى، وتقوية الضعيف، وإثارة الحروب والصراعات بين القبائل بعضها بعضا، وبين المناطق، بل وبين المذاهب المختلفة، مما أضعف ثقة المجتمع والقبيلة معاً في الدولة وحاكمها.
ومع ثورة الشباب اليمني، التي بدأت في الثالث من فبراير واشتعلت في الحادي عشر من الشهر نفسه، ومع ما حققه الشباب من نجاحات في بداية الثورة، ظهرت اختلالات المجتمع التي غرسها ورعاها نظام صالح طوال عقود حكمه، وتم تصوير الثورة على أنها صراع بين القبائل من أجل الحكم والسلطة.
ففي 22 مارس 2011، توافد الآلاف من أبناء قبيلة أرحب وغيرها من قبائل اليمن إلى مركز الشيخ محسن أبو نشطان، استجابة للدعوة التي وجهها الشيخ نبيه أبونشطان وعددٌ من مشايخ القبيلة وغيرهم من مشايخ القبائل اليمنية لتدارس الأوضاع التي تمر بها البلاد، وحالات القمع والقتل والإجرام التي تُمارس ضد المعتصمين أمام جامعة صنعاء، مبدين إدانتهم لتلك الأعمال الإجرامية، ومعلنين انضمامهم إلى ثورة الشباب السلمية، واستقالة من ينتمون إلى المؤتمر الشعبي العام، وانضمامهم إلى الثورة.
كما دعا المجتمعون في بيان لهم إلى تشكيل هيئة وطنية لإنقاذ البلاد من الوضع الذي تمر به، يشارك فيها جميع أبناء الوطن من مختلف التوجهات ومن مختلف المناطق، تعمل على تجنيب البلاد الصراعات والتجاذبات المحلية والإقليمية والصراعات الدولية، وحماية ثورة الشباب من استغلالها لمصالح حزبية ومناطقية وشخصية ضيقة لا تمت إلى الثورة وأهدافها التي قامت من أجلها بأي صلة.
وكان لدخول القبيلة في الثورة اليمنية العديد من التأثيرات السلبية في الثورة، منها:
- تأكيد هشاشة المجتمع المدني في اليمن، الذي لم يتخلص من قوة القبيلة وسيطرتها واستبدادها، ولم تفلح الدولة في تحويل المجتمع إلي شعب متجانس، وليس مجموعة من القبائل والطوائف المتنافسة والمتصارعة على السيادة والمجد والثروة والقوة، لا تجمعهم سوى رابطة وطنية شكلية، وإحساس ثانوي بالانتماء للوطن.
- إن وجود القبلي الثائر قد يكون وجودا مقلقا ومربكا وأحيانا خطرا. فهو إن لم يكن شريكا قريبا أو أساسيا في المجد المستهدف ولم يكن منظما، فإنه يتحول إلى مرتزق، دون تأثير حقيقي في موازين القوي.
- اتجاه البعض إلى القول إن ما يحدث ليس ثورة شعبية مدنية، وإنما دعوة قبلية، وسيكون مآلها ككل الدعوات التاريخية التي انتهت باستسلام الشيخ وأنصاره للسلطة، وهذا ما أفقد الثورة زخمها الشعبي الذي كان أبرز ملامح الثورات العربية الأخرى، كما جعل من نهايات الثورة غير واضحة، دون وجود عامل مساعد قوي، وهو ما برز في الضغوط التي مارستها دول مجلس التعاون الخليجي على أطراف الأزمة، حتى نجحت في الحصول على توقيع هذه الأطراف على تسوية ودية للصراع. ولكن يبقي الشيطان كامناً في التفاصيل، التي تضع تنفيذ هذا الاتفاق والالتزام به على المحك.
خامساً- اتحاد القبائل والعشائر في سوريا
تشهد التركيبة السكانية في سوريا تنوعا كبيرا في أطيافها وتقسيماتها الدينية والعرقية والمذهبية، ويعود هذا التنوع في جانب كبير منه إلى المكانة الاستراتيجية التي تمتعت بها سوريا عبر تاريخها، وكونها موطنا للعديد من الحضارات والديانات والإمبراطوريات التاريخية، كما كانت مسرحاً للعديد من المواجهات الكبرى بين الإمبراطوريات القديمة من الفينيقيين، والآشوريين، والإغريق، والفرس، والرومان، والفراعنة، والمغول، والصليبيين.
ووفقا للأرقام المتاحة (يونيو 2011)، يبلغ عدد سكان سوريا نحو 23 مليون نسمة، يتوزعون على النحو التالي:70% من السّنة (العرب)، 9% من العلويين (العرب)، 8% من السنة (الأكراد)، 8% من المسيحيين (العرب الأرثوذكس في الدرجة الأولى)، 2 إلى 3% من الدروز (العرب)، 1% من الشيعة (العرب وسواهم)، أقل من 1% من السنة (الشركس)، أقل من 1% من أقليات أخرى كاليزيدية والإسماعيلية، وعدة آلاف من اليهود. ورغم هذا التنوع السكاني، فإنه يغلب على سوريا الاختلاط والتمازج، في ظل وجود أغلبية عربية إسلامية سنية.
وجغرافيا،ً نجد أن العلويين تركزوا تاريخياً في قرى الساحل السوري وبعض مناطق الداخل والقريبة من الداخل، بينما تركزت الأغلبية السّنية في المحافظات الرئيسية (دمشق، حمص، حماه، حلب، الرقة، درعا). في حين أن غالبية الشيعة في دمشق وحلب والرقة. أما الدروز، فالكثافة الأعلى لهم في المنطقة الجنوبية بالجبل محافظة السويداء، والمسيحيون منتشرون في كل أنحاء البلاد، وفي بعض المدن يتركزون في أحياء معينة، أو في قرى بأكملها. ويتركز الشركس في دمشق، في حين يتركز الأرمن بالدرجة الأولى في حلب وريف اللاذقية والقامشلي في شمال شرقي البلاد. أما الأكراد، فيتركزون في المناطق الشمالية الشرقية، محافظة الحسكة، والقامشلي، والشمالية في ريف حلب قريباً من الحدود مع تركيا. أما محافظة دير الزور ومدينة البوكمال والقرى القريبة من الحدود مع العراق، فغالبيتها من العرب السنة.
وقد تشكلت الخريطة القبلية في سوريا على مدى قرون، وقد جاءت من شبه جزيرة العرب إلى بلاد الشام قبائل طي والنعيم والعمور والعقيدات منذ أمد بعيد، وجاءت قبائل البوشعبان والبوخميس والكيار من الـعراق. وبعد ذلك، جاءت عـشـائر شمر وعنزة من نجد، خلال القرون الثلاثة الأخيرة، وعادت أعداد غفيرة منها إلى المملكة العربية السعودية بعد الطفرة النفطية، ولا سيما بعدما أمر الملك الراحل فيصل بن عبدالـعـزيز بـمنـحهم الجنـسية الـسـعوديـة.
ولا ينحصر وجود القبائل العربية السورية الكبرى في محافظة أو منطقة واحدة، بل توجد القبائل في الكثير من المحافظات، وتمتد إلى أقطار عربية أُخرى، ويتجاوز عدد أبنائها الملايين، ومثال ذلك قبيلة النعيم التي تعد من القبائل العربية السورية الكبرى، ولها وجود في لبنان، والأردن، وفلسطين، والعراق، وشبه جزيرة العرب، وتركيا.
وقد برزت قوّة اللُّحمة العشائرية في الثورات السورية القديمة والحديثة، وأسهمت في إضعاف الأحزاب السياسية في سوريا. ففي كثير من الحالات، يتخلي الساسة عن أحزابهم، ويلتحقون بعشائرهم، عندما تتضارب مصالح الأحزاب مع مصالح العشيرة أو القبيلة. وفي المقابل، فإن أكثر أبناء المجتمع السوري تمسكاً بالأحزاب هم أولئك الذين يفتقرون إلى أنساب عشائرية أو قبلية صريحة، والذين يفتقرون إلى التأييد الجماهيري أثناء الحاجة إليه، فيضطرون إلى الاحتماء بأبناء العائلات والعشائر والجيران والأصدقاء أو مَن يوالونهم.
في 23 مارس 2011، أعلن اتحاد القبائل والعشائر العربية السورية (الذي يتكون نحو 60 قبيلة وعشيرة، تُشكل نحو 50% من سكان سوريا) الثورة على النظام السوري، منادياً الشعب السوري للمشاركة في الثورة ضد ما سماه النظام الطائفي الديكتاتوري في سوريا، مستوضحاً أوضاع البلاد في ظل احتلال آل الأسد للسلطة في سوريا لمدة 41 عاماً، وتنكيله بالشعب السوري بأبشع الوسائل من قتل وتعذيب وتشريد وانتهاك للأعراض، وسرقة المال العام والخاص. وذكر بيان الاتحاد أن ضحايا النظام السوري يتعدون الـ 100 ألف شهيد، ومثلهم مفقود، وثلاثة ملايين من المشردين، واستنكر تحويل سوريا إلى مزرعة خاصة لآل الأسد.
وطالب البيان أبناء القبائل والعشائر العربية المُغرر بهم من قبل النظام بالانسحاب الفوري من الحزب الذي يستخدمه النظام للسيطرة على مقدرات سوريا لصالح العائلة الحاكمة، وطالبهم بالانضمام إلى صفوف الثورة. كما وجه البيان نداءً إلى القوات المسلحة، يُذكرهم بأنهم أقسموا على حماية سوريا، أرضاً وشعباً، وأنهم لم يقسموا على حماية النظام ومصالحه، وطالبهم بالوقوف إلى جانب الشعب السوري في ثورته ضد الديكتاتورية، مهدداً بالحساب العسير لمن يخون الشعب. كما تضمن البيان دعوة إلى علماء الدين والمشايخ من كافة الأطياف بالوقوف إلى جانب الثورة، ودعمها. كما طالب الشعب السوري في كل المحافظات بأن يكون يداً واحدة وسنداً لدعم الثورة، مطالباً برفع علم الاستقلال الذي يرمز إلى سوريا موحدة بكافة أطيافها ومكوناتها.
وفي 17 أغسطس 2011، نشر مركز الشام للدراسات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا نتائج دراسة ميدانية قام بها في مختلف المحافظات السورية، خلال الفترة بين الأول والخامس والعشرين من يونيو لعام 2011 حول مواقف الطوائف السورية من الثورة التي تشهدها البلاد ضد نظام الرئيس بشار الأسد.
وجاءت النتائج على النحو التالي، وفقاً لآراء من تم استطلاع آرائهم:
م
|
الطوائف
|
المؤيدون للنظام
|
المحايدون
|
المؤيدون للثورة
|
1
|
السنة
|
10%
|
25%
|
65%
|
2
|
العلويون
|
84%
|
10%
|
6%
|
3
|
المسيحيون
|
60%
|
23%
|
17%
|
4
|
الدروز
|
62%
|
20%
|
18%
|
5
|
الإسماعيلية
|
54%
|
11%
|
35%
|
وقد حاول النظام السوري اللعب على وتر الطائفية وتشجيعها، بل والتهديد بها، إلا أن الشعب الثائر كان أكثر وعياً من قيادته، وفطن لما يدبر له. فلو كانت الثورة طائفية، لما أطلق الثوار على "جُمع" ثورتهم أسماء مثل (جمعة صالح العلي)، و(الجمعة العظيمة)، و(جمعة أزادي/الحرية)، و(جمعة الحرائر)، و(جمعة حماة الديار)، فالشعب السوري الثوري الثائر يفهم دوافع الضرب على وتر الفتنة الطائفية من قبل أعداء الثورة، بل وأعداء الوطن.
ورغم هذا الوعي، وهذا الفهم، يبقي الخطر قائماً، والتحدي كبيراً من الاستخدام السلبي للعامل القبلي في مرحلة ما بعد نجاح الثورة، ونجاحها قادم، فالمسألة ليست إلا مسألة وقت فقط، لنظام تهاوت أركانه وفقد شرعيته.
إن ربيع القبائل العربية لا يمكن فصله عن ربيع أوطانها، فهي مكون رئيسى من مكونات هذه الأوطان. وبقدر ما كانت النظم السياسية، الثورية وغير الثورية، حريصة على تطبيق القانون، ونشر روح التسامح والعدل والمساواة، وتبنت من السياسات ما يعزز ثقافة الوطن الواحد والعيش المشترك، فإن من شأن ذلك أن ينعكس إيجاباً على كل مكونات المجتمع، بل وهنا يمكن الرهان على القبائل لتكون الركيزة الأولى في استمرار وازدهار ربيع الأوطان.