نجحت ثورة الخامس والعشرين من يناير في الإطاحة بنظام "حسني مبارك" الذي كان حجر عثرة أمام عملية التحول الديمقراطي في مصر بسياسته القمعية لأحزاب المعارضة والحركات الاحتجاجية، ولقوي سياسية، على رأسها جماعة الإخوان المسلمون التي ظلت في صراع طويل مع النظام السياسي المصري منذ ثورة 1952، والتي حُظر عليها العمل السياسي الرسمي طوال فترة حكم نظام "مبارك".
ومع قيام ثورة يناير ونجاحها، أضحت الجماعة أكثر القوى السياسية والأحزاب السياسية تأثيرا على الساحتين السياسية والشعبية المصريتين، وهو ما كان جليا بوضوح أثناء استفتاء التاسع عشر من مارس على التعديلات الدستورية وتجييشها الشعب للموافقة على تلك التعديلات. وقد تزايد هذا الدور مع تأسيسها حزب "الحرية والعدالة" الذي يُمثل الذراع السياسية للجماعة، وانخراط الحزب في التفاوض مع المجلس العسكري، وتحالفها مع قوي وأحزاب السياسية في تكتلات سياسية، ناهيك عن دورها المتعاظم في الجدل السياسي حول مستقبل النظام السياسي المصري بعد سقوط نظام "مبارك"؛ وذلك لقدرة الجماعة التنظيمية والتجنيدية التي يفتقدها كثير من الأحزاب السياسية القديمة والجديدة.
ولهذا الدور المتنامي للجماعة ولحزبها على الساحة السياسية المصرية ، أولت الأوساط السياسية والبحثية وتلك الأكاديمية الغربية والأمريكية ـ على حد سواء ـ أهمية لمناقشة مستقبل النظام السياسي المصري، في حال وصول جماعة الإخوان المسلمين لسدة الحكم في مصر بعد ثورة يناير.
وقد أجمعت معظم تلك الكتابات على أن وصول الجماعة للمكانة التي هي عليها الآن يفرض تحديات جمة، يتمثل أهمها في صعوبة التحول نحو الديمقراطية لما تحمله الجماعة من أفكار متشددة لا تتلاءم مع الديمقراطية بمفهومها الغربي، وكذا التهديد بتغيير سياسة مصر الخارجية، خاصة تجاه الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
وفى سياق التخوف الأمريكي والغربي من وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم، وما إذا كانت الجماعة ستمثل عائقا لتحقيق الديمقراطية أم لا ، نشرت مجلة الشئون الخارجية Foreign Affairsفي عددها الأخير عن شهري سبتمبر/أكتوبر مقالة بحثية لـ" إريك تراجر Eric Trager" تحت عنوان جماعة الإخوان المسلمين التي لا تقهر.. آفاق قاتمة لمصر الليبرالية" “The Unbreakable Muslim Brotherhood: Grim Prospects for a Liberal Egypt”.
تنبع أهمية الدراسة من اعتبارين رئيسيين، أولها تمثل في تناولها لموضوع يشغل التفكير الغربي والعربي ـ حاليا بصورة متعاظمة ـ نتيجة تزايد نفوذ جماعة الإخوان المسلمين في مصر كأكبر قوة سياسية، وضبابية مستقبل النظام السياسي المصري، في حال وصولها لحكم مصر، وأي طريق ستنحو مصر داخليا وخارجيا تحت قيادة الجماعة.
أما الاعتبار الثاني، فيتعلق بكاتبها "إريك تراجر" أحد الباحثين الأمريكيين المتخصصين في دراسة أحزاب المعارضة المصرية، وهو الآن بصدد إعادة أطروحته لدرجة الدكتوراه عن أحزاب المعارضة، ناهيك عن معاصرته أثناء وجوده بالقاهرة لثورة الخامس والعشرين من يناير. ومن الجديد بالذكر أن "إريك" باحث بمعهد واشنطن لدراسة سياسة الشرق الأدنى Washington Institute for Near East Policy، أحد مراكز الفكر والرأي الأمريكية الموالية لجماعات الضغط الإسرائيلية بالولايات المتحدة الأمريكية، والمعبرة عن توجهاتها السياسية، لاسيما منظمة "إيباك"، كبرى منظمات اللوبي الإسرائيلي داخل واشنطن.
تعقد إجراءات العضوية مصدر قوة التنظيم
يصف الكاتب جماعة الإخوان المسلمون في بداية مقالته بأنها الجماعة الأكثر تنظيما في مصر، والأكثر قدرة على حشد مؤيدين لها. ويرجع "إريك" هذا التنظيم والتماسك إلى عاملين، يتمثل أولهما في طبيعة العضوية، وأما الأخير، فيتمثل في التنظيم الهيراركى للجماعة، وهما اللذان يضمنان ولاء الأعضاء للجماعة.
وفيما يتعلق بطبيعة العضوية، فقد أكد الكاتب أن الانضمام لعضوية الجماعة أمر ليس بالسهل لتعقد الإجراءات التي تبدأ بالانضمام إلى ما يسمى بالأسرة، والتي تتكون من 4 إلى5 أفراد ويرأسها نقيب.
وهذه الأسرة تقوم بعدد من الأنشطة غير السياسية، وتستمر لمدة 6 أشهر، وقد تصل لأربعة أعوام، ليخضع بعدها لاختبارات بمدى الالتزام بالمعايير الدينية. ثم ينتقل المحب للمرحلة الثانية، ويصبح مؤيدا. وهذه المرحلة تستمر من عام إلى ثلاثة أعوام، ويقوم خلالها بعدد من الواجبات، أهمها التدريس في المساجد، وتجنيد الأعضاء.
أما المرحلة الثالثة ، فتتمثل في انتقال المؤيد إلى منتسب، وهذه المرحلة تستغرق عاماً وتعد أول خطوة نحو العضوية الكاملة، ومن ثم يصبح منتظما. وتستغرق هذه المرحلة عادة عامين، ويقوم المنتظم بحفظ القرآن والأحاديث النبوية، ويمكن أن يقوم بدور قيادي على مستوى الأسرة.
وقبل الوصول إلى الأخ العامل، وهى المرحلة الأخيرة، يتم اختبار ولاء المنتظم عن كثب، ويتم قبوله بعد موافقة قيادات الجماعة. وفى هذه المرحلة، يقوم بالتصويت في الانتخابات الداخلية. وترجع هذه الإجراءات إلى عام 1928 أي منذ تأسيس الجماعة. واعتمدت الجماعة على تلك الإجراءات المعقدة في الانضمام لها لضمان عدم تمكن أجهزة أمن الدولة من اختراق التنظيم.
وفيا يخص التنظيم الهيراركى للجماعة، فقد أشار "إريك" إلى أن القرارات تُتخذ من المستوى الأعلى إلى المستويات الدنيا. ويتمثل المستوى الأعلى في مكتب الإرشاد الذي يتكون من 15 عضوا، ويرأسه المرشد، ويتم اختيارهم من قبل مجلس الشورى الذي يتكون هو الآخر من 100 عضو، والذي يناقش القرارات الرئيسية من المشاركة في الانتخابات أو عدمها. ويتم التصويت عليها داخل مجلس الشورى، والتصديق عليها من قبل مكتب الإرشاد. أما المستويات الدنيا، قبل اتخاذها أي قرار، فإنها ترسل طلباتها ومقترحاتها إلى المستوى الأعلى المتمثل في مجلس الشورى ومكتب الإرشاد.
ويرى الكاتب أن هذا النظام ساعد على تجنب الملاحقة من قبل أمن الدولة ، ومن ثم سهولة المشاركة في المظاهرات لاحقا. وأشار "إريك" إلى أنه مع ذلك، لم تشارك الجماعة في مظاهرات الخامس والعشرين من يناير، نتيجة تهديدات أمن الدولة باعتقال قياداتها. ولكنه يرى أنه مع الضغوط المستمرة التي تعرضت لها الجماعة من قبل شباب الإخوان للمشاركة في جمعة الغضب، استجاب القيادات لمطالبهم، ومن ثم الاشتراك في المظاهرات.
وكتب "إريك" أن مشاركة الجماعة، بداية من جمعة الغضب، ساعد في التأثير فى مجريات الأحداث، وانتصار الثوار على الأمن المركزي المصري، وانسحابه في اليوم ذاته، ولكنه لا ينسب هذا الانتصار لجماعة الإخوان المسلمين وحدها ، بل للعناصر الليبرالية أيضا.
وأكد أن الجماعة، حتى بعد سقوط نظام مبارك، لم تتغير داخليا لتواكب بوادر التحول الديمقراطي الذي تشهده مصر. فيقول إن جماعة الإخوان لا تزال محافظة على قوتها التنظيمية، ضمانا للحفاظ على ولاء أعضائها، كما أن قياداتها يرون أن نظام الهيراركية الذي تتمتع به الجماعة يعد هدفا مساعدا في تحقيق أهدافها الأخرى على المستوى الوطني.
الجماعة الأكثر تأثيرا بعد الثورة
قدم الكاتب عددا من الأدلة التي تثبت أن جماعة الإخوان المسلمين أصبحت القوة الأكثر تأثيرا على الساحة السياسية المصرية بعد الإطاحة بنظام "مبارك"، فضلا عن إمكانية نجاحها بأغلبية ساحقة في الانتخابات البرلمانية القادمة. وتمثلت الأدلة التي أشار إليها في:-
أولا:التعديلات الدستورية الأخيرة التي وافقت عليها أغلبية الشعب المصري في التاسع عشر من مارس، حيث مارست جماعة نفوذها للتأثير فى نسبة كبيرة من المواطنين للموافقة على تلك التعديلات، التي جاءت في مصلحتهم، لأن هذه النتيجة ضمنت إجراء الانتخابات البرلمانية في وقت تتفوق فيه على الأحزاب السياسية الموجودة أو حتى الناشئة حديثا.
ثانيا:غياب أكبر منافس تقليدي لها، وهو الحزب الوطني الديمقراطي المنحل في أبريل من العام الجاري، وبالتالي فلا توجد قوى سياسية قوية منافسة للإخوان. ويرى عدد من المحللين أن الإخوان المسلمين شجعت عددا من المستقلين على خوض الانتخابات البرلمانية القادمة، للفوز بصورة حاسمة. وتشعر الجماعة الآن بثقة كبيرة في حصولها على نسبة كبيرة من مقاعد البرلمان القادم، حيث أعلنت الجماعة في أكثر من محفل أنها ستنافس على أقل من 50% من مقاعد البرلمان، ومن المتوقع حصولها على 30-40% من المقاعد، ومن ثم إمكانية السيطرة على السلطة التشريعية.
وتطرق الكاتب إلى الجدل الدائر داخل جماعة الإخوان المسلمين حول تأسيس الجماعة حزبا سياسيا، حزب "الحرية والعدالة"، ليعبر عن الجماعة سياسيا وينافس باسمها، وكذا الانقسام حول توجه أعضائها لتشكيل أحزاب سياسية أخرى من رحم الجماعة، مثل حزب "التيار المصري". فيشير إلى أن مكتب الإرشاد رأى أن حزب "الحرية والعدالة" المؤسس تحت عباءة الجماعة هو آلية لتوحيد أعضاء التنظيم تحت راية سياسية واحدة. في حين يرى آخرون داخل الجماعة أن تأسيس حزب أو أحزاب تعبر عن أفكار الجماعة يمثل انشقاقا عن أولويات عمل الجماعة ، وهى توفير الخدمات الاجتماعية، وهذا الاتجاه سائد ضمن عدد من نشطاء الجماعة الشباب، الذين أعلنوا في مؤتمر لهم في مارس عدم رغبتهم دخول الجماعة في أي حزب سياسي، لأنها جماعة دينية.
وترجم المحللون هذا الجدال بأن الجماعة ستنشق إلى عدة فصائل سياسية، ومن ثم عدم قدرتها على حشد عدد أكبر من المؤيدين. ولكن لا يرجح الكاتب هذا التحليل، نتيجة لولاء الأعضاء للجماعة وقياداتها، ولأن عددا كبيرا من الأعضاء قرروا عدم الخروج على قرارات مكتب الإرشاد. كما أن مؤسسي حزب "التيار المصري" لن يخرجوا برؤية عقائدية مختلفة عن رؤية الجماعة. وهو الأمر الذي دفع "إريك" إلى القول إن جماعة الإخوان ستظل أقوى فصيل سياسي متماسك في مصر خلال الفترة القادمة.
خيارات السياسة الأمريكية تجاه الجماعة
وأشار "إريك" إلى أن الجماعة تكن عداء شديدا للولايات المتحدة وحلفائها. فعلى الرغم من أفكارها المعتدلة الرافضة للعنف والإرهاب والفكر المتطرف، والعمل مع الجهاديين، فإن قياداتها يرون أن الولايات المتحدة "دولة الإرهاب" لقتلها الأبرياء في العراق وأفغانستان والبوسنة، وأن الصهيونية ليست شرعية ويحق مقاومتها. ويرى أن الجماعة تهدد المصالح الأمريكية مع مصر. ومن ثم، طرح الكاتب عددا من الخيارات للسياسة الأمريكية للخروج من هذه المعضلة، يتمثل أهمها في:-
أولا:-تنبيه المجلس العسكري والأحزاب السياسية، قبل الانتخابات، إلى الخطوط الحمراء التي لن تسمح واشنطن بأن تتخطاها الحكومة المصرية القادمة، واشتراط اعتراف واشنطن بنتائج الانتخابات البرلمانية القادمة بعدم الانخراط في صراعات على الحدود المصرية.
وربط عدم التدخل الأمريكي في الشئون المصرية الداخلية بعدم تدخل جماعة الإخوان المسلمين في قضية الصراع العربي- الإسرائيلي. وبالرغم من الاعتقاد السائد بأن الإخوان لن تدخل في حرب مع إسرائيل، فإنها ستساند حماس معنويا وماديا ضد إسرائيل، وهذا سيخلق عداء شديدا مع إسرائيل.
ثانيا:تقديم الحكومة الأمريكية الدعم للقوى الليبرالية، وتدعيم جهود التحالف بين القوى الليبرالية لمواجهة تنامي نفوذ جماعة الإخوان المسلمين، والعمل على تقليل احتمالية خضوع الأحزاب المصرية لسيطرة جماعة الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى دعوته الإدارة الأمريكية لتقدم أفكارا ليبرالية للشعب المصري غير المثقف، وتعليمه أهمية التعايش مع الآخر، واحترام حقوق الأقباط، تجنبا لتعرضهم للهجوم ولمزيد من العنف.
ومن ثم يرى "إريك" في نهاية مقالته أن الولايات المتحدة ليس لديها أي خيار سوى التعامل مع الحكومة المقبلة، أيا كان نوعها أو شكلها، مع سعي واشنطن في الوقت ذاته لجعل المشهد السياسي الداخلي في مصر أكثر تنافسية. خاتما بأن واشنطن عليها أن تكون واضحة حول طبيعة الجماعة التي تضم أكثر من 600,000 عضو تحت مظلتها، والتركيز أكثر على الواحد وثمانين مليون مصري، الباقين من الشعب المصري.