استهل الوطن العربي عام 2011 بحركات شعبية قوية تهدف إلى تغيير جذري في أوضاع عدد من الأقطار العربية. بدأت الشرارة الأولى من تونس في الشهر الأخير من العام المنصرم، وتصاعدت بوتيرة سريعة إلى الحد الذي مكنها من الإطاحة برأس النظام ونخبته في أيام قليلة. كانت الرسالة واضحة: أن الحكم البوليسي والعنف المفرط غير قادرين على التصدي لثورة شعبية، ولذلك سرعان ما انتقلت الشرارة إلى مصر التي كانت تموج أصلاً بإرهاصات الثورة، وهكذا تفجرت مظاهرات التغيير واستطاعت في أسبوعين وأيام قليلة أن تطيح بدورها برأس النظام ومعاونيه الأساسيين. انتقلت الشرارة إلى اليمن وليبيا وسوريا وبدرجة أقل إلى بلدان عربية أخرى حتى بدأ كثيرون يتحدثون عن تحول شامل في النظام العربي، وكتبت في حينه مقالاً في هذه الصفحة أختلف فيه مع هذه الفكرة وفقاً للخبرة التاريخية المقارنة عامة والخبرة العربية خاصة.
دخل الوطن العربي "الخريف" وما زالت علامات الاستفهام وكثير من العثرات تحيط بعملية التحول التي جرت بما في ذلك الحالتان التونسية والمصرية، ذلك أن الأوضاع لم تستقر فيهما بعد، وساعد على ذلك أن الطبيعة الشعبية للثورة في البلدين لم تمكن قياداتها من الوصول إلى السلطة، وإنما احتاج الأمر إلى تدخل المؤسسة العسكرية لحسم الموقف لصالح الثورة، وبدء مرحلة انتقالية أخذت قوى سياسية عديدة -بعضها لم يشارك في الثورة أصلاً أو كان حتى جزءاً من النظام القديم- تستعد للهيمنة على مشهد المستقبل بما يفتح الباب لاحتمالات إجهاض الثورة في البلدين.
لكن الوضع أخطر في الحالات الثلاث الأخرى. صحيح أن المجلس الانتقالي يتولى السلطة في ليبيا الآن، ولكن جيوب المقاومة ما زالت موجودة في سرت وبني وليد على الأقل، هذا بالإضافة إلى حالة الانقسام بين القوى التي لعبت الأدوار الرئيسة في الثورة. أما اليمن وسوريا فإنهما يعيشان ذروة الخطر في ظل عجز الثوار عن حسم الموقف لصالحهم واستخدام النظامين القائمين قواتهما المسلحة في مواجهة الثوار، وقد حدثت انشقاقات مهمة في القوات المسلحة اليمنية ما بين مؤيدي الرئيس الحالي ومعارضيه غير القادرين على حسم الموقف لصالح الثوار، وهو ما يجعل الموقف في اليمن -وبدرجة أقل في سوريا- مرشحاً للتحول إلى حرب أهلية.
وعندما نتوقف في محاولة لاستكشاف أسباب هذا الوضع يتعين علينا بداية أن نسلم بأن عمليات التغيير الجذري ليست بالأمر الهين، غير أننا مع ذلك يمكن أن نرصد عوامل واضحة لتعثر "الربيع العربي" في الحالات الثلاث: اليمن وليبيا وسوريا. ولاشك أن موقف "المؤسسة العسكرية" يتصدر هذه العوامل، إذ لم تكن مصادفة أن البلدين اللذين يمكن أن ينطبق فيهما وصف "المؤسسة العسكرية" بحق على القوات المسلحة كانا هما الأسرع بما لا يقارن بغيرهما في إحداث الخطوة الأولى في عملية التغيير، ففي كل من تونس ومصر اكتسبت المؤسسة العسكرية طابعاً "وطنيّاً"، وخاصة أنها كانت بعيدة في الحالتين عن معادلتي البقاء بالنسبة للنظامين القائمين، بمعنى أن أيّاً منهما لم تكن ركناً أساسيّاً في الحماية اليومية للنظام، وإنما تركت المهمة لقوات شرطة متضخمة لعبت الدور الأساسي في حماية النظامين من الضغوط الشعبية. وهكذا تصرفت القوات المسلحة في البلدين كمؤسسة وفقاً لوازع وطني، بمعنى أنها عندما شعرت بأن الإرادة الشعبية تريد التغيير، وأن النظام القائم ليس بمقدوره وأدها من ناحية، ولا يمكن أن يقوم بعملية إصلاح حقيقي من ناحية أخرى تدخلت بحسم لصالح الثوار.
أما في الحالات الأخرى فلا توجد "مؤسسة عسكرية" بالمعنى المفهوم، وإنما هي مؤسسة "عائلية" في الحالتين اليمنية والليبية، حيث يقود ابن الرئيس اليمني أقوى فرق القوات المسلحة وهو الحرس الجمهوري المتفوق عدة وتدريباً. وينسحب الأمر نفسه على الحالة الليبية حيث لا يمكن الحديث عن قوات مسلحة أصلاً، وإنما عن وحدات عسكرية متفرقة يقودها أبناء القذافي نفسه. وفي سوريا يوجد جيش حزبي طائفي هو جزء من النظام القائم. صحيح أن ثمة انشقاقات داخل هذا الجيش، لكنها قليلة العدد ضعيفة التأثير.
وثمة عامل آخر يستحق إمعان النظر، وهو العامل "القبلي"، ولم تكن مصادفة أن أسرع الدول العربية في عملية التغيير كانت تونس فمصر حيث يتوارى العامل القبلي إن لم يختف تماماً من حيث تأثيره على المعادلات السياسية في البلدين. أما في الحالة الليبية فليس ثمة مجال لشك في أن الحرب الدائرة حتى الآن بين الثوار والمدافعين عن سرت وبني وليد هي حرب مع قبيلة القذافي وغيرها من القبائل الموالية له. ويعني هذا أن ثمة عاملاً لعدم الاستقرار سوف يبقى حتى بعد كسر شوكة المقاومة في هاتين المدينتين. وفي اليمن نذكر أن تاريخ محاولة بناء دولة حديثة منذ تفجرت الثورة ضد نظام الإمامة في 1962 هو تاريخ يحمل من بصمات "القبيلة" أكثر مما يحمل من بصمات القوى السياسية الحديثة. صحيح أن الموقف الراهن يشهد قبائل مع الثورة وأخرى مع النظام القائم غير أن وجود قبائل مؤيدة للوضع الراهن يعني تعطيل عملية التغيير من جانب والتسبب في عدم استقرار في حالة نجاح الثورة من جانب آخر، إلى درجة أنه يمكن القول إن الثورة اليمنية الراهنة قد تفضي بالبلاد لاحقاً إلى حرب أهلية، خاصة على ضوء وعورة التضاريس في اليمن التي تقيد قدرة أي نظام حكم فيه على كبح الحركات المعارضة، وبالأمس القريب على سبيل المثال رأينا الإخفاق المتكرر من جانب النظام الحاكم في اليمن في حسم حرب الحوثيين لصالحه.
ويبقى بعد ذلك عدد من العوامل التي قد تكون أقل أهمية في تفسير "عثرات" الربيع العربي، ولكنها تحتاج معالجة خاصة، وعلى رأسها موقف "النظام العربي" مما يجري حاليّاً على الأرض العربية، وقد كانت عملية التغيير في كل من تونس ومصر أسرع من أن تسبب ضغطاً على النظام العربي، لكن النظام السابق في ليبيا استخدم العنف المفرط ضد معارضيه، فاتخذت الجامعة العربية موقفاً غير مسبوق بتعليق عضوية ليبيا فيها وفي كافة منظماتها، وطلب التدخل الدولي من مجلس الأمن، وكان هذا اعترافاً مبكراً من الجامعة بالثورة ساعد عليه أن أمينها العام السابق كان على وشك الانتهاء من مدته الثانية دون نية في التجديد، وأن علاقات النظام الليبي السابق بمعظم النظم العربية كانت إما بالغة السوء أو غير ودية على الأقل، ولكن أنهار الدماء سالت بعد ذلك في سوريا واليمن دون أن تنطق الجامعة بحرف واحد، وما زالت الجامعة تتحدث عن حوار من أجل الإصلاح مع النظام السوري مع أن أوان الإصلاح قد ولّى منذ أريقت الدماء على الأرض السورية، ومن عجب كذلك أن مجلس الجامعة في اجتماعه أول من أمس لم ينظر سوى الحالة السورية مع أن الحالة اليمنية جديرة بدورها بالبحث.
ويخشى والأمر كذلك أن تفضي "عثرات الربيع العربي" بعدد من البلدان العربية إلى حالة من حالات الحرب الأهلية أو عدم الاستقرار على أحسن الفروض، وسيكون هذا كابحاً لأية عملية تغيير قادمة، ومصدراً لتفاقم تردي الوضع الاقتصادي، وكلها احتمالات مقلقة لابد من مناقشتها علميّاً كجزء من محاولة صنع مستقبل أفضل لهذه الأمة.
-------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية.