عرض ومراجعة : محمد بسيونى عبد الحليم
باحث في العلوم السياسية
هيمنت جدلية العلاقة بين دوري الأزهر الديني والسياسي على مسيرة هذه المؤسسة العريقة منذ نشأتها، وصاحبتها في سنوات التعايش مع أنظمة سياسية متباينة أدركت ثقل هذه المؤسسة في مجتمع ينزع بطبعه نحو التدين، ويطلب رأى الدين في سائر القضايا ، وهو ما حدا بالنظام السياسي السابق إلى "تدجين" هذه المؤسسة، ووضع حدود معينة للدور الذي تلعبه في المجتمع، واستخدامها كغطاء شرعي لتصرفاته.
ومع اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 ، سعى الأزهر للبحث عن دور جديد في سياق مخالف يحقق له الاستقلالية بعيداً عن السلطة السياسية. وفي هذا الصدد، تأتى أهمية دراسة "الأزهر في حقبة ما بعد الثورة" الصادرة عن مؤسسة كارنيجى لـ"ناثان براون" الباحث ببرنامج الشرق الأوسط بمؤسسة كارنيجى للسلام الدولي، وأستاذ العلوم السياسية والشئون الدولية بجامعة جورج واشنطن.
جدلية الدين والدولة
ينطلق "براون" في دراسته من جدلية العلاقة بين الديني والسياسي التي طُرحت كقضية رئيسية على الأجندة السياسية، وأصبحت موضع نقاش مجتمعي واسع عقب نجاح ثورة يناير 2011 ، وهو الأمر الذي سينتهي إلى دولة متأثرة بالدين ، بحسب ما ذهب إليه "براون". ومن هذا المنطلق، فإن الأزهر سيحتل مساحة أبرز كمؤسسة يتقاطع داخلها الديني والسياسي.
فنحن إزاء مؤسسة تليدة توسعت بمرور الزمن، حيث لم يعد الأزهر مجرد مسجد ، ولكنه أصبح مؤسسة كبيرة معقدة يتشابك فيها الديني والدنيوي. ويشير "براون" إلى أن الأزهر مؤسسة يندرج تحتها المسجد والجامعة التي تطور التعليم داخلها، وامتزجت مناهج التعليم الديني بالتعليم المدني، كما يشرف الأزهر على عدة مدارس تضم نحو مليوني طالب.
وفي سياق متصل، ظهر مجمع البحوث الإسلامية كإحدى الجهات البحثية التابعة لمؤسسة الأزهر، وقد اكتسب زخماً واسعاً خلال السنوات الماضية ، وتحرك بقدر من الاستقلالية بمنأى عن رغبات النظام السياسي القائم، وهو ما حدا بالمجمع في كثير من الأحيان إلى التصادم مع دار الإفتاء، والتي عدت بمثابة "المحامى الإسلامي للنظام".
ويشير "براون" إلى الدور الذي يلعبه الأزهر في الرقابة الثقافية، والذي يمثل مجمع البحوث الإسلامية ركيزته الأساسية، إذ يقوم الباحثون بالمجمع بمراجعة الأعمال الثقافية المختلفة، ومدى مواءمتها مع أحكام الدين الإسلامي، وهو ما اكتسب طابعاً قانونياً بعد الحكم الصادر من المحكمة الإدارية العليا عام 1997 بالسماح للأزهر بممارسة الدور الرقابي.
الأزهر والقوى السياسية ... تنافس أم تداخل؟
أوضحت الدراسة أن علاقة القوى السياسية والدينية والأزهر تشهد معضلة حقيقية، فالعلاقة بين الحركات الدينية والأزهر علاقة معقدة من خلال ثنائية التنافس والتداخل؛ فتتسم بقدر من التنافس. إذ إن تزايد دور الأزهر يمكن أن يمثل خصماً من نفوذ قوى دينية أخرى موجودة على الساحة كالتيار السلفي وجماعة الإخوان المسلمين، لاسيما أن السنوات الأخيرة أوجدت حالة من الجفاء بين المؤسسة الرسمية وتلك القوى.
فالأزهر يرى أن تزايد دور هذه القوى ما هو إلا تعبير عن تهميشه من شتى مناحي الحياة. وفي المقابل، عدت الحركات الدينية الأزهر رمزاً لنظام سياسي فاسد يستخدمه كبوق يوفر له شرعية دينية عبر فتاوى مؤيدة لرغبات النظام، بحسب بروان.
ويمثل التداخل الوجه الثاني من العلاقة بين الأزهر وتلك القوى، فالعديد من المنتمين لهذه القوى لهم وجود داخل الأزهر بصورة أو بأخرى. ومن ثم، فإن انفتاح الأزهر على ساحة العمل العام وإفساح المجال أمامه يعنى المزيد من الوجود لقوى دينية كحركة الإخوان المسلمين والتيار السلفي.
وفي هذا السياق ، تؤيد جماعة الإخوان استعادة الأزهر لدوره، والاستقلال عن السلطة السياسية؛ فازدهار دور المؤسسة الرسمية لا يعنى إقصاءهم أو الاستغناء عن دورهم في المجتمع.
وتنتقل الدراسة إلى رؤية القوى الليبرالية لدور الأزهر، وهى رؤية يعتريها قدر من الانتقائية. فهم من ناحية، يرفضون أي دور رقابي كهنوتي من جانب الأزهر على الإنتاج الثقافي. ولكنهم من ناحية أخرى يرون الأزهر رمزاً للإسلام الوسطى المعتدل يتعين إفساح المجال أمامه ودعمه، كي يكون حائط صد في مواجهة تيارات دينية أخرى تصفها القوى الليبرالية بأنها تيارات متشددة تميل للتفسيرات الدينية الجامدة.
ثورة يناير ومحاولات إحياء الأزهر
يشير "براون" إلى أن الأشهر التي أعقبت ثورة يناير شهدت تزايد المطالبات بإصلاح الأزهر برمته، واستعادة المؤسسة لاستقلاليتها التي فقدتها منذ سنوات، حينما سعت السلطة السياسية إبان حكم الرئيس "جمال عبد الناصر" لتقويض سلطات الأزهر، وسلب استقلاليته وأصدرت قانون عام 1961، حيث تم استبدال هيئة كبار العلماء التي كانت تتولى إدارة الأمور الرئيسية بالأزهر بمجلس من كبار مسئولي الأزهر، بمن فيهم عمداء الكليات المدنية (العلمانية)، وأصبح تعيين شيخ الأزهر من سلطات رئيس الجمهورية، وتم ربط مكتب شيخ الأزهر بمكتب رئيس الوزراء بدلاً من رئيس الجمهورية، كما نُقلت تبعية الأوقاف الدينية إلى وزارة الأوقاف.
وفي سياق متصل، سعت السلطة السياسية إلى استخدام دار الإفتاء كثقل موازن لشيخ الأزهر، وشرع نظام "مبارك" في القضاء على أي محاولات لإحياء دور الأزهر، عبر تعيين شيخ للأزهر يعبر عن مواقف السلطة السياسية، حيث عمد في عام 1996 إلى نقل المفتى محمد سيد طنطاوي إلى مشيخة الأزهر، وهو المعروف عنه مواقفه المؤيدة للنظام، فضلاً عن تحييد الأصوات المعارضة داخل المؤسسة الدينية، وفي مقدمتها جبهة علماء الأزهر، حيث تمكن النظام السابق من تقليص دورها إلى مجرد موقع على شبكة الإنترنت.
وعشية ثورة الخامس والعشرين من يناير، حاول الأزهر استعادة دوره من جديد ، وهو ما بدا من خلال مؤشرات عدة. ففي مارس الماضي، نظمت مجموعة من علماء الدين مسيرة لمطالبة المجلس العسكري باستعادة مركزية دور الأزهر واستقلاليته، وشرع الأزهر في تشكيل لجنة مهمتها صياغة قانون جديد للأزهر.
ويرجح "براون" أن يتضمن القانون نقاطا عدة، أهمها أن يعاد تشكيل هيئة كبار العلماء، ويكون منوطا بها انتخاب شيخ الأزهر، فضلاً عن نقل سلطة الإشراف على أموال الأوقاف للأزهر.
وتزامناً مع هذا، لم يكن شيخ الأزهر بعيداً عن الجدل السياسي الدائر في الدولة، حيث طرح وثيقة الأزهر التي استحوذت على اهتمام واسع. كما أمسى مكتب مشيخة الأزهر مقراً لاجتماعات مع قوى سياسية متباينة، بدءًا بجماعة الإخوان المسلمين ، مروراً بممثلي تيارات دينية أخرى، وانتهاء بعدد من مرشحي الرئاسة.
وهكذا، وجد الأزهر نفسه في مواجهة قضايا شائكة كقضايا العلاقة بين المسلمين والمسيحيين والليبرالية، وموقف الإسلام منها، وشكل الدولة، ودور الدين فيها، وغيرها من القضايا التي فرضت عليه التدخل والبحث عن دور في سياق أفرزته الثورة.
مستقبل دور الأزهر
لقد "ولد الأزهر من رحم السياسة مرتدياً ثوب الدين" – على حد تعبير الدكتور عمار على حسن في كتابه"الإصلاح السياسي في محراب الأزهر والإخوان المسلمين" – إذ إن الأزهر تمكن منذ نشأته من أن يجمع بين الديني والدنيوي (السياسي) ، وهى الحقيقة التي لازمته، ولكنها تعرضت للانزواء في بعض الأحيان، عطفاً على رؤية النظام السياسي القائم، وطبيعة القيادات التي تمتلك زمام الأمور في هذه المؤسسة.
وهذه العلاقة بين دور الأزهر الديني ودوره السياسي حاول "براون" تناولها من خلال دراسته، ليخلص إلى أن إرهاصات ساعدت في استعادة الأزهر لدوره، متزايدة عقب ثورة يناير. وفي هذا الصدد، يمكن القول إن استقلال الأزهر وانفصاله عن السلطة السياسية يعد أحد المتغيرات ضمن منظومة من المتغيرات مرتبطة بمستقبل دور الأزهر. ويمكن إجمالها فيما يلي:
أولاً- تراث الأزهر في العقل الجمعي المصري: فمنذ ما يزيد على ألف عام، والأزهر يحتل مساحة إجلال وتقدير في العقل الجمعي المصري، على اعتبار أنه يمثل الإسلام السني الوسطى. ولكن هذه الصورة تعرضت للاهتزاز بصورة عنيفة خلال السنوات المنقضية – إبان فترة نظام مبارك – إذ إن الأزهر كان من وجهة نظر العديدين رمزاً للسلطة السياسية القائمة آنذاك، يقدم لها الغطاء الشرعي من خلال فتاوى تتماشى مع رغبات الدولة، فضلاً عن الأحاديث المتواترة عن الاختراق الأمني لجامعة الأزهر، كغيرها من مؤسسات الدولة ، ومن ثم اختلت المعادلة بين الجماهير والأزهر، ولم يعد الأزهر هو المرجعية الرئيسية، لاسيما مع صعود التيار السلفي، واكتسابه شعبية واضحة.
وإزاء هذا السياق، فإن نجاح مؤسسة الأزهر في استعادة دورها يتطلب قبول العقل الجمعي للمصريين للأزهر كمؤسسة رئيسية تعبر عن الدين، بعيداً عن السلطة السياسية القائمة.
ثانياً- العلاقة بين التيارات الدينية: إذ إن الآونة الأخيرة شهدت بزوغ التيارات الدينية في العمل العام، وبدا أن ثمة صراعاً يهيمن على العلاقة بين هذه التيارات، وعلى وجه الخصوص الصوفية والتيار السلفي. وهو الصراع الذي تمتد آثاره إلى المؤسسات الدينية الرسمية في الدولة، متمثلة في الأزهر ودار الإفتاء، حيث نُظر إلى مواقع القيادة بتلك المؤسسات خلال السنوات الأخيرة على أنها حكر على أتباع الصوفية، فشيخ الأزهر والمفتى من أتباع المذهب الصوفي. وفي المقابل، وجد التيار السلفي نفسه بمواقفه من مبادئ الصوفية في صراع وتنازع مستمر، وهذا الانشقاق انتقل إلى داخل مؤسسة الأزهر نفسها التي تضم أتباع كلا التيارين. ومن هذا المنطلق، فإن شكل العلاقة بين التيارات الدينية بعد الثورة سينعكس بالسلب أو بالإيجاب على دور الأزهر واستقلاليته.
ثالثاً- شكل النظام السياسي ومساحة الدين:فبحسب شكل النظام السياسي الذي ستنتجه الثورة، سيتحدد الدور الجديد للأزهر في الحياة السياسية، وتعد الانتخابات القادمة الركيزة الأساسية في النظام الجديد، حيث تترجم رغبة المصريين في شكل النظام القادم، ودور الدين في الحياة السياسية. فنجاح القوى الدينية في الانتخابات البرلمانية القادمة وحصدها لغالبية المقاعد يعنى المزيد من تقاطع الديني مع السياسي، بما ينعكس إيجابياً على دور الأزهر في الحياة السياسية.