«الحديث بهدوء وحكمة وصبر وتعقل لا يعنى أبدا الضعف أو التهاون».. تلك هى الرسالة القوية التى أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى أمام الجموع الغفيرة التى احتشدث فى إستاد القاهرة الخميس الماضى، فى إطار التضامن مع فلسطين خلال فعالية «تحيا مصر.. استجابة شعب تضامنا مع فلسطين».
ما قاله الرئيس عبدالفتاح السيسى أمام الحشود الهائلة فى إستاد القاهرة أعلنه بصراحة ووضوح فى اليوم التالى أمام رئيسى وزراء إسبانيا وبلجيكا، بوصفهما رئيسى الاتحاد الأوروبى الحالى والمقبل فى أثناء زيارتهما مصر، ولقائهما الرئيس فى قصر الاتحادية.
خلال المؤتمر الصحفى، كانت رسائل الرئيس عبدالفتاح السيسى قوية وواضحة، موضحا أن تهجير الفلسطينيين من أراضيهم هو الوجه الآخر لتصفية القضية الفلسطينية، وأن ذلك بمثابة خط أحمر مصرى لن تسمح به مصر فى كل الأحوال.
الفهم العميق للصراع العربى ــ الإسرائيلى كان واضحا فى تعاطى الرئيس عبدالفتاح السيسى مع الأزمة منذ اندلاعها حتى نجاح الوساطة المصرية ـ القطرية ـ الأمريكية فى التوصل إلى الهدنة الإنسانية التى بدأ سريانها منذ صباح أمس الأول، والتى لا يعرف أحد على وجه اليقين إن كانت هى الخطوة الأولى للوصول إلى الوقف الشامل والدائم لإطلاق النار أم أنها مجرد هدنة لالتقاط الأنفاس، ليعود الإرهاب الإسرائيلى مرة أخرى ينشر الخراب والدمار فى أرجاء الأراضى الفلسطينية المحتلة.
ولأن القضية الفلسطينية تدخل ضمن محددات الأمن القومى المصرى، فقد ضحت مصر خلال 75 عاما بالغالى والنفيس من أجلها، وخاضت أربع حروب، بدءا بحرب 1948 مرورا بحربى 56 و67، وانتهاء بحرب أكتوبر المجيدة فى 1973، وهى الحرب التى فتحت الباب أمام سلام المنتصر، وتوقيع اتفاقية السلام المصرية ــ الإسرائيلية.
سعت مصر منذ توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل إلى مد مظلة السلام إلى المنطقة كلها، وأوضحت بشكل قاطع أنه لا حل ولا سلام دائما دون حل مشكلة القضية الفلسطينية، وإقامة دولة فلسطينية موحدة قابلة للحياة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
طوال تلك الفترة، كانت مصر «الوسيط النزيه» الباحث عن تحقيق السلام العادل والدائم فى المنطقة، إلا أن عقلية العدوان والتطرف والإرهاب التى تسيطر على الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة حالت دون تحقيق هذا الهدف للأسف الشديد حتى الآن، خاصة بعد رحيل آخر رموز السلام الإسرائيلية رئيس الوزراء الراحل إسحق رابين.
فى هذا الإطار، تركزت المباحثات والاتصالات المصرية منذ اندلاع الأزمة الأخيرة فى قطاع غزة حول ضرورة البحث عن أصل المشكلة وجذورها، وضرورة التوصل إلى حل نهائى لها بعد 75 عاما من اندلاع الصراع العربى ــ الإسرائيلى.
المشكلة الأساسية تكمن فى أن الحديث عن السلام وحل الدولتين لا يظهر إلا كحل مؤقت بعد اندلاع الأزمات، وهو ما تكرر طول فترة الصراع الممتدة منذ 75 عاما، وها هو الآن يعود إلى الواجهة مرة أخرى بعد معركة «طوفان الأقصى»، وما تبعها من مجازر إسرائيلية دموية وعنيفة ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلى فى قطاع غزة.
كان الرئيس عبدالفتاح السيسى واضحا وصريحا كعادته خلال المؤتمر الصحفى مع رئيسى وزراء إسبانيا وبلجيكا حينما طالب بضرورة الاعتراف الفورى بالدولة الفلسطينية على حدود 1967، ومعاملتها كعضو دائم كامل داخل المنظمات الدولية، لأن الحديث عن إطلاق المسار السياسى فقط حديث «مستهلك» و«مكرر»، ولا يكفى وحده، ولكن لابد أن يصاحب ذلك اعتراف دولى بالدولة الفلسطينية، لتصبح هذه الدولة قابلة للحياة على حدود دولية معترف بها.
خلال السنوات الــ30 الماضية، اندلعت 5 جولات من الصراع الفلسطينى ـ الإسرائيلى، راح ضحيتها أكثر من 27 ألف مدنى فلسطينى بسبب غياب الأفق السياسى. وفى الجولة الأخيرة، سقط نحو 15 ألفا من المدنيين الأبرياء، من بينهم أكثر 5500 طفل و2000 سيدة، كما تم تدمير أكثر من 50 ألف منزل تدميرا كاملا، و100 ألف منزل تدميرا جزئيا، وهو ما يعنى ببساطة خلق بيئة مستحيلة للحياة، بما يعنى وضع الفلسطينيين أمام عمليات التهجير القسرى، لغياب كل أساسيات الحياة فى المناطق المدمرة، وهو ما حدث فعليا فى شمال غزة.
تدمير الجيش الإسرائيلى المنازل، وقصفه المستشفيات وإخراجها من الخدمة، وهدمه المدارس، وتدميره البنية التحتية.. كل هذا يعنى ببساطة استحالة الحياة فى تلك المناطق، والأخطر ما قامت به قوات الاحتلال بمنع الفلسطينيين من العودة إلى منازلهم حتى بعد سريان الهدنة، حيث منعت قوات الاحتلال المواطنين الراغبين فى العودة من الجنوب إلى الشمال، وأطلقت عليهم النار، وأوقعت عشرات القتلى والمصابين على الرغم من سريان الهدنة.
كل هذا يكشف ببساطة عن الوجه الحقيقى للحرب الإسرائيلية على غزة، وما فعله الجيش الإسرائيلى من أجل تكرار مأساة النكبة فى إطار مسلسل التهجير القسرى، وإخلاء الأراضى الفلسطينية من سكانها، تمهيدا لضمها إلى إسرائيل، وإقامة المستوطنات بها كما يحدث كل يوم فى القدس الشرقية وأراضى الضفة الغربية.
من هنا، كان وضوح الموقف المصرى منذ اندلاع الأزمة، ورفض التهجير من غزة إلى مصر أو إلى أى مكان آخر، واعتبار ذلك خطا أحمر مصريا، لأن مصر تعى حقيقة الموقف، وتفهم خطوات إسرائيل العدوانية، بدءا بالتهجير وانتهاء بالتصفية، وهو ما لم ولن تسمح به مصر، بوصفها قلب العروبة النابض، و«عمود الخيمة» العربية، والشقيقة الكبرى للعالم العربى، على الرغم من كل ظروفها، وما تحملته وتتحمله من فاتورة اقتصادية مكلفة ومجهدة طيلة 75 عاما من الحروب والصراعات والقلاقل والاضطرابات فى المنطقة.
ولأن هناك من يفكر بطريقة «عرجاء»، وبلغة تفتقد إلى الحكمة والموضوعية، فهناك من يربط بين الرفض المصرى لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، وعلاقة ذلك بظروفها الاقتصادية، وهو ما أوضحه الرئيس فى العديد من المواقف، وآخرها خلال المؤتمر الصحفى مع رئيسى وزراء إسبانيا وبلجيكا، حينما أشار إلى أن مصر تستوعب ما يقرب من 9 ملايين لاجئ من الدول العربية والإفريقية، وتعاملهم معاملة الضيوف المكرمين، وبالتالى لن تهتز أو تتأثر بالضيوف الفلسطينيين. لكن الوضع يختلف بالنسبة للأشقاء من الفلسطينيين، لأن الأزمة هنا تكمن فى رغبة إسرائيل فى تفريغ الأراضى الفلسطينية، والاستيلاء عليها بعكس الدول الأخرى التى بها قلاقل واضطرابات ومن المؤكد أنها سوف تنتهى مع الوقت، طال أم قصر، ثم يعود الضيوف إلى أراضيهم وبلادهم فى سوريا وليبيا والعراق واليمن والسودان، وغيرها.
شرح بسيط وتلقائى نابع من فهم عميق، وتجربة ثرية، ومعلومات غزيرة للرئيس عبدالفتاح السيسى فى هذا الملف الشائك، ردا على كل «المغرضين» و«المشككين» فى النيات المصرية فى هذا الإطار، وتأكيدا عمليا لتلك الرؤية الإستراتيجية، فإن مصر كانت ولاتزال هى الداعم الأكبر للفلسطينيين, بدليل أنها قدمت حتى الآن ما يقرب من 75% من إجمالى المساعدات التى تم تقديمها إلى قطاع غزة منذ اندلاع الأزمة، أى أن مصر قدمت ثلاثة أرباع المساعدات، فى حين قدمت باقى دول العالم الربع فقط، وهو ما يؤكد أن قضية التهجير لا تعنى لمصر قضية اقتصادية على الإطلاق، لكنها تعنى قضية أمن قومى مصرى وخطا أحمر، دفاعا عن القضية الفلسطينية ومستقبلها، ورفض كل محاولات تصفيتها تحت أى مسمى، لأنها ضمن محددات الأمن القومى المصرى.
يبقى الأمل أن يعود قادة إسرائيل إلى لغة العقل، وأن يمارس قادة العالم ـ خاصة أمريكا وأوروبا ـ أقصى درجات الضغط عليهم، لتحويل الهدنة الإنسانية إلى وقف فورى وشامل ودائم لإطلاق النار، يعقبه اعتراف دولى بدولة فلسطين على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، ثم إطلاق عملية سياسية شاملة حول شكل الدولة وتسليحها، وترتيب الأوضاع الأمنية بها، ودور المنظمات الأممية والعربية والإقليمية فى هذا الإطار، لتنعم المنطقة بالسلام والاستقرار والأمن بعيدا عن حمامات الدم والكراهية، والتحريض، والقلاقل والاضطرابات.