أثمن، وأتوقف بالتقدير كثيرا عند مقولة أمين عام الأمم المتحدة: "ما يحدث فى غزة ليس أزمة إنسانية بل هى أزمة فى الإنسانية" فى دلالاتها البليغة والموحية، والموجعة أيضا.
بعد مضى أكثر من شهر كامل، تشى ساعاتها بل دقائقها بانعكاس حالة من الحزن والاكتئاب العام بعد أن أوجعت ما وقع فيها من كوارث كل أصحاب الحس الإنسانى الطبيعى ومُلاك الضمائر الحية فى كل الدنيا. قدم فيها الشعب الفلسطينى على أرض اشتعال معارك النزال الدموى أكثر من 10 آلاف شهيد من المدنيين العُزّل، نصفهم من الأطفال! وتفجير وهدم أكثر من ٦٠ مدرسة، ومئات الآلاف من الوحدات السكنية، وتدمير أكثر من ١٠٠ منشأة صحية، وفق تقرير منظمة الصحة العالمية، كان آخرها مستشفى لعلاج الأورام (بوضاعة وحقارة غير إنسانية) ما نجم عنه تشريد آلاف المرضى الفلسطينيين من المدنيين، منهم مرضى قلب وأطفال ونساء ومسنّون وعدد ضخم من مرضى السرطان فى مراحل حرجة لا يجدون علاجا بعدما نُسفت مشافيهم، وتم نقلهم إلى مستشفياتنا المصرية فى الشيخ زويّد والإسماعيلية وبورسعيد والقاهرة لإنقاذهم واستئناف علاجهم المستحق الذى حرموا من استكماله بقرار مجرم من جانب ثلة من صهاينة العصر وبتمكين أمريكى وأوروبى انتهازى غادر مطلق لمقدرات وأرواح الفلسطينيين فسلبوا من أصحاب الأرض والهواء والشجر والبحر حقوقهم فى التداوى فى مشافى الوطن.
وبناء عليه، سعت مصر جاهدة على مدى أزمنة النزال الدموى والمعارك الصعبة بين الطرفين للدفع فى اتجاه تحقيق التسوية الشاملة والعادلة للقضية الفلسطينية، فالوقوف بجانب شعب فلسطين مبدأ مصرى لم تحد عنه منذ عام 1948، كما تمثل حقوق الفلسطينيين أولوية قصوى لمصر وشعبها، فقد عملت على تبنى موقف عربى وإقليمى موحد بشأن رفض التهجير القصرى وتحويل الشعب الفلسطينى إلى جماعات من اللاجئين، ووقف العدوان الإسرائيلى على المدنيين وانتهاك مبادئ القانون الإنسانى الدولى.
ومنذ اندلاع الأزمة فى 7 أكتوبر الماضى حتى اليوم واصلت مصر جهودها الدبلوماسية والإنسانية لتهدئة أجواء الصراع، وفتح معبر رفح البرى وإدخال المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين فى قطاع غزة، ومعلوم أن الدور المصرى فى مسار "تهدئة الأوضاع" سيظل متوقفا فى تفعيله على مدى الإرادة الحقيقية لدى طرفى النزاع، وهو ما ظلت مصر تبذله من جهود وما تواجهه من تحديات من أجل مناصرة الشعب الفلسطينى الشقيق بكل إخلاص وجدارة.
وتتوالى المشاهد الإنسانية والوطنية والعروبية الإنسانية المصرية الرائعة منذ الساعات الأولى لقصف غزة مع عبور المساعدات من الجانب المصرى إلى قطاع غزة، وانتظار وصول الجرحى والمصابين، ومن ثم نقلهم بسيارات الإسعاف إلى المستشفيات، ما يؤكد دور مصر الكبير فى مساندة الأشقاء الفلسطينيين من جراء القصف الإسرائيلى المستمر على عدد من المناطق فى قطاع غز، وأنها لم تغلق المعبر قط.
ولا شك فى أن مصر لم تدخر جهدا على مدى الساعة، ولم تغلق المعبر، ولكن القصف الإسرائيلى من الطرف الآخر والتعنت الإسرائيلى هو السبب فى بطء إيقاع تواصل الشعبين المصرى والفلسطينى عبر المعبر.
ووفق تلك الرؤية الإيجابية للتفاعل مع تفاصيل الكارثة تعامل الرئيس عبد الفتاح السيسى بإيقاع على طريقة "مسافة السكة" شعاره العروبى العظيم، فهو الذى طالما ما حدثنا عن أهمية العمل المتسارع على تنمية الوعى بأبعاد الواقع المحلى والعربى، والعمل المستمر دون كلل لتحسين جودة الحياة، والذهاب بهمة لإصلاح الخطاب الثقافى والإعلامى والتنويرى.
وبناء عليه، ونحن نتابع كارثة "الحرب على غزة" توالت الرسائل المصرية المهمة بداية بما صرح به الرئيس فى أثناء وعقب زيارة وزير الخارجية الأمريكى، وتعمد توجيهه بفتح الهواء ليسمع العالم كله محددات الموقف المصرى بكل وضوح ودون مواربة، بما لا يقبل أو يسمح بتزييف أو تأويل من قبل قوى الشر وأتباع شياطين السياسة، وذكر الرئيس فى إيجاز رسائل إعلامية وطنية وعروبية وإنسانية مهمة يمكن عرضها فى سطور تلغرافية لضرورة التذكير بها، التى منها:
· بالإشارة إلى الرقم الضخم لضحايا الانتهاكات الإسرائيلية بسبب جولات العنف المتكررة فى غزة، نرى أن رد الفعل الإسرائيلى قد تجاوز مبدأ حق الدفاع عن النفس إلى العقاب الجماعى غير المقبول.
· "نبذل جهودا لاحتواء الموقف فى غزة وبضمان عدم تدخل أطراف أخرى".
· "من المهم خفض التوتر وتيسير دخول المساعدات إلى قطاع غزة".
· وتساءل الرئيس: "لماذا قُتل "السادات"؟ ولماذا قُتل "رابين"؟ومن الذى قتلهما؟ المتطرفون، ونحن بحاجة للعمل معا"، فى رسالة واضحة تشير إلى بشاعة أهل التطرف، وأنه لا عودة لزمن مهادنة قوى البغى والظلم والتخلف الفكرى.
· "أنا اتربيت فى حى كان بجوارى يهود ولم تحدث لهم أى مشكلة، لم يتعرض اليهود فى أى يوم لأى شكل من أشكال القمع أو الاستهداف، كما لم يحدث فى المنطقة العربية أن تم استهداف اليهود على مدار التاريخ القديم والحديث، وفى المقابل كان استهداف اليهود فقط فى الدول الأوروبية، لكن لم يحدث ذلك مطلقا فى الدول العربى"، ولعل فى دلالة وأهمية ذلك التصريح الرد على تصريح وزير الخارجية الأمريكى "أنا آت هنا كيهودى وليس كوزير خارجية، وأمريكا تقدم الدعم غير منقطع النظير لإسرائيل فى كل المجالات وقد أعطى الرئيس بايدن الضوء الأخضر لإسرائيل للقيام بالانتهاكات ضد الفلسطينيين"!!
هى بحق رسائل غاية فى الأهمية لوضع النقاط على الحروف توجهها مصر العربية الحرة الأبية والتاريخ والجغرافيا حول التفاعل مع "قضية القضايا" فلسطين وحقوق عربها التى فى العين والقلب.
وبالفعل وصلت الرسائل إلى الإعلام العالمى والإقليمى والعربى والمحلى لفرط صدق مفرداتها وإنسانية فحواها ودلالاتها السياسية والدبلوماسية المصراوية البديعة.
ثم كان القرار المصرى الرئاسى والفكرة العبقرية والمهمة بالدعوة المصرية لعقد مؤتمر دولى خلال يومين ليشهد العالم على كل أبعاد الكارثة (ويتفق أو يختلف الحضور فى تقييمهم لأبعاد الكارثة وتبعاتها الإنسانية على الأرض الفلسطينية)، وليواصل شعبنا العظيم بث رسائله على لسان الرئيس صاحب الدعوة ومبدع الفكرة، فيستهل خطابه البديع قائلا:"نلتقى اليوم بالقاهرة، فى أوقات صعبة، تمتحن إنسانيتنا، قبل مصالحنا، تختبر عمق إيماننا، بقيمة الإنسان، وحقه فى الحياة، وتضع المبادئ، التى ندعى أننا نعتنقها، فى موضع التساؤل والفحص".