تحدثنا من قبل، أنه لا تبنى الأوطان بالبلوجرز، واليوم نقول: ولا يدافع عنها بالبلوجرز، فالتريند والوطنية لا يلتقيان.
حينما قال هيرمنان روشسنج السياسى النازى: "إن أسلحتنا هى الإرباك العقلى، وتضارب المشاعر، وإشاعة الذعر، وإثارة التردد، وعدم استطاعة خصومنا الخروج بقرار حاسم"، لم يكذب ولم يكن يعلم يوما ما أن التريند هو ما سيحقق له هدفه وأمله فى الإرباك والتردد.
أسهم فى ذلك خوارزميات التواصل الاجتماعى التى تسهل الوصول إلى رغبات المتابعين وتحكمات المعلنين، فنتذكر على الفور ما ذكره مؤسس علم البروباجندا إدوارد بيرنز: (لو أننا فهمنا آليات العقل الجمعى ودوافعه، أوليس من الممكن السيطرة على الجماهير وإخضاعهم لنسق موحد حسب رغبتنا دون أن يدركوا ذلك؟) والنسق هو الشىء المنظوم، فكيف يمكن تنظيم المليارات من البشر حول العالم وهم مختلفون فى لغاتهم ودياناتهم وتوجهاتهم ورغباتهم؟ الإجابة: من الممكن إذا قمنا بمخاطبة غرائزهم!
وغريزة الخوف هى أقوى الغرائز المتحكمة فى البشرية يمكن من خلالها توجيه الجموع لثورات أو لتأييد إذا نجحت فى أن تجعلهم يهتمون بإشباع هذه الغريزة، ومن الممكن أن تجعلهم يلتفون حولك لإشباع احتياج ما مثل الطعام، أو احتياج مثل الملبس، أو احتياج مثل الأمن.
وحتى تتمكن من التحكم فى هذه الغرائز كان لا بد من خلق احتياج جديد لهم، فلن تستطيع أن تبنى خوارزميات الهندسة الاجتماعية حول من يخافون فقط، أو من يشعرون بالجوع فقط، أو نقص الأمان فقط، بل يجب أن تُشعر الشبعان بالجوع والمُطمئن بعدم الأمان، ومن لديه ملابس باحتياجه لألوان أخرى.
فيجب أن تخاطب المجتمع كله فى آن واحد بغريزة واحدة وهى أن تنشر بداخلهم الخوف، أو تشعرهم بالذعر عن طريق الأخبار الدموية، وأن الحرب على الأبواب، ومن الممكن أن تشعر مجموعة أخرى باحتياجهم لنوعيات خاصة من الطعام على الرغم من أنهم فى حمية غذائية لتخفيف الوزن، فتجد يوميا ما يسمى بالتريند.
التريند هو من يقود البشرية الآن، فنجد التريند يتوزع يوميا بين غريزة الخوف، وشهوة الطعام، وحب الموضة، وتلك المؤثرات هى ما تقودك إلى تصرفاتك وسعيك الحثيث لإشباع تلك الحاجة الملحة، وفى الطريق لإشباع تلك الحاجة تتساقط العديد من المبادئ والقيم والأولويات.
تطالعنا وسائل التواصل الاجتماعى بصفة مستمرة بمجموعة من المرتزقة الطامحين فى الشهرة وجنى الأموال عن طريق الحديث عن الطعام والملابس، أو العقارات، أو الحديث عن اللاشىء، فمن يستجيب كان من الآمنين، ومن لم يستجب سيكون من الخاسرين وتطوله عصا السوشيال ميديا حتى تترك آثارا مبرحة على سمعته الرقمية، وكذلك هم من يحركون التريند ويتحكمون بغرائزك ويتحكمون فى يومك، هل يكون ضاحكا أم باكيا سريع الوتيرة أم بطيئا، وهم من يقولون لك موعد الوطنية، وموعد الحب، وموعد الكراهية، وموعد جلد الذات، وموعد الحشد، وموعد الفُرقة، هم من يختارون لك ماذا تأكل، فهم يرون أن البيتزا أنسب لك اليوم والمشويات مضرة وتشرب مياها غازية أو عصير فريش.
وفى ليلة وضحاها نراهم يتحدثون عن الوطنية والقومية لأنها السلعة الرائجة اليوم، فلا مجال للكوميديا ولا مجال لبيع السندوتشات، وإذا أصاب الصفحة الخمول فسنخسر المتابعين الذين هم رأس المال الحقيقى الذى يغذى الحساب الدولارى آخر الشهر، فيقومون بسب فلان لأنه لم يلق بيانا يشجب فيه ويندد ويدعم، وإن استجاب نرى البيان غير كاف، ومن لم يشترك فى هذه المحكمة الرقمية أوقد نار الفرن الخاص به على الأخبار عوضا عن توقف سوق الطعام حاليا، ومن تتحدث عن الأزياء والتخفيضات تعيد صياغة الأخبار على طريقة "ألحقْ أسبوع التخفيضات"، ومن يقدم محتوى كوميديا أو تافها نراه يتقدم صفوف الوطنيين الرقميين للدفاع عن المعبر.
تمهل قبل أن تقول إن الموقف جلل، ولا بد من تضافر جميع قوى الشعب، يتضافر الشعب، كلٌّ فى مجاله، فلا تظن أنك وصلت إلى العالمية، يا عزيزى البلوجر صفحتك لم تتجاوز المليونين أو الملايين العشر، صوتك لم يصل بعد إلى ربع عدد المصريين، والمصريون لا حاجة لهم بأخبارك، فلديهم صفحات رسمية للأخبار، ولديهم بلوجرز للأخبار، ومؤثرون للتحليل السياسى، ونشرات دولية ومحلية موثوق بها، ومراسلون مرابطون فى جميع المواقع، فلا داعى للبلبلة والإرباك وإثارة الذعر بحثا لاستمرار متابعيك حولك، وخوفا أن لا تركب التريند فتصبح منبوذا ومن الخاسرين.
بإمكانك تحول محتوى صفحتك إلى محتوى توعوى فقط، محتوى يسعى للتلاحم وليس للتراشق وركوب التريند، محتوى يُفِهم الجموع ما هى القضية عوضا عن إلهائهم بأخبار فلان الذى لم يلق بيانا حتى الآن، الواجب عليك هو بث محتوى يهدئ الناس ولا يخيفهم، ليس مطلوبا منك أن تقوم بدور الصحفى العسكرى، أو المراسل الحربى، تماما غير مطلوب منك ذلك.
فأنت بذلك تسهم فى بث العديد من الأخبار المتضاربة، وتثير الشكوك فى المصادر الرسمية، فالمواطن يقع أسيرا للخبر السريع، الخبر الأول، ولن يستطيع تصديق الخبر الصحيح؛ لأنه خبر متأخر، المواطن سيقع فريسة طواحين الأخبار المتناثرة، فلن يستطيع تمييز الحقيقة من الكذب، وسيدافع عن أى خبر يحلو له لمجرد أنه أتى إليه على لسانك أنت.
أنا لا أصادر على حق أى مواطن فى التعبير المطلق عن وطنيته وحماسته، ورغبته فى تقديم العون، ولكن تحسس خطاك جيدا، قبل أن تصيب قوما بنيران صديقة، وأنت لا تجيد إطلاق النيران، فالكلمة سلاح، والصورة سلاح، وتجارة الأزمة، وتجارة الكلمة، والتريند، كل هذا سلاح غاشم فاسد يطل فى وجوه البسطاء والعامة، ويساعد على تكوين الرأى العام، أتدرى الآن ماذا فعلت بنا؟
فعلت ما فشل فيه الأعداء، نجحت فى شق الصفوف، فى مقابل أن تظل أنت القبلة والمنارة، نجحت فى عدم توصل الجماهير إلى قرار واحد متفق عليه، نجحت فى بث الذعر ظنا منك أنك تقول الحقيقة أو أنك تطمئن الناس.
• الوطنية والحماس يا سادة لا تتفقان مع تجارة البيانات. والتريند لا يمكن أن يصبح سلعة تباع وتشترى، فتكلفة البيع هى الأرض، وتكلفة الشراء هى الإنسان.