إيطاليا واليونان ليستا ألمانيا، وإلى عهد قريب، لم تكن ألمانيا تريدهما أن تكونا كذلك. فقد كانتا أراضي الجنوب المشمس، والشعوب الأقل ميلاً إلى العمل، حيث توجد ثقافتان أكثر سعياً وراء المتع. وبالنسبة للألمان، هما بلدان تفوح منهما رائحة الجنس والطعام اللذيذ. ولنتأمل هنا، كمثال على الانقسام الثقافي في أوروبا، الحجة التي دفع بها مؤخراً رئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني لإثبات أن اقتصاد بلاده في حالة جيدة، إذ قال: "إن مطاعمنا تغص بالناس". وشخصياً، أشك في أن ثمة زعيماً ألمانياً واحداً، من أي لون سياسي، قد يقيس رخاء ألمانيا الاقتصادي بعدد الزبائن الذين يرتادون المطاعم.
وقبل أزمة 2008، لم يكن الشمال يجد مشكلة في الهوة الموجودة في أوروبا بين الشمال والجنوب. ففي النهاية، الكثير من الزبائن الذين يقصدون مطاعم إيطاليا كانوا –ومازالوا– ألماناً. وإذا كان اقتصاد إيطاليا القائم أكثر على المطاعم يتأخر بشكل متزايد وراء الاقتصاد الصناعي القوي لألمانيا من حيث النمو والإنتاجية والمداخيل، فلا بأس في ذلك أيضاً؛ فأوروبا تستطيع احتضان اقتصاد بسرعتين. وليحيا الاختلاف، كما يقول الفرنسيون.
لكن من الواضح اليوم أن مؤسسي الاتحاد الأوروبي، ومؤسسي وحدته النقدية بشكل خاص، فشلوا في إدراك أن صنيعتهم ستنقلب عليهم يوماً ما وستطالب بمزيد من المعايير القارية الموحدة للأداء الاقتصادي، وأنها ستطالب إيطاليا بالكف عن أن تكون إيطاليا، واليونان بالكف عن أن تكون اليونان. ولهذا السبب يمكن القول إن اضطرابات الأسبوع الماضي ستستمر، وأن الأجندة المطروحة على أوروبا اليوم تتمثل في محاولة القيام بشيء مستحيل.
إن العيب المفاهيمي (أو الخطيئة الأولى، إن شئتم) للاتحاد الأوروبي هو أنه فرض بنية فوقية لديها مطالب خاصة بها على ديمقراطيات ذات سيادة. فالوحدة الأوروبية بدأت في عام 1952 كمشروع اقتصادي بالأساس -إلغاء التعرفات الجمركية بين شركات الفحم والفولاذ في فرنسا وإيطاليا وألمانيا الغربية ودول البينيلوكس- وكان الهدف الأكبر هو صياغة مصالح مشتركة بين ألمانيا وبقية أوروبا، وبالتالي إحباط حروب من النوع الذي أغرق أوروبا في أعمال بربرية وحشية مرتين خلال نصف قرن السابق.
ولكن، وفي وقت توسعت فيه شراكة الفحم والفولاذ وتطورت إلى سوق مشتركة، ثم إلى وحدة نقدية لديها مظهر من مظاهر السيطرة السياسية التي تتجاوز البلدان، تغيَّر جوهر الاندماج الأوروبي. فقد خلق اليورو بيتاً منقسماً على نفسه: ذلك أنه من الناحية النقدية، كانت القارة موحدة؛ لكنها من الناحية المالية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، ومن حيث طريقة الحكم، ظلت الدول الأوروبية منفصلة وذات سيادة؛ حيث ظلت كل واحدة منها تصدر سنداتها الخاصة بها، سندات استثمر فيها جيل جديد من البنوك المضاربة وراهن عليها. وعندما خسرت الرهانات في عام 2008، لم يهدد ذلك عملة الدول الأوروبية ذات الأداء الاقتصادي الضعيف فحسب، وإنما أيضاً عملة الدول الأوروبية ذات الأداء الاقتصادي الجيد كذلك، لأن الأمر، في النهاية، يتعلق بعملة واحدة.
إن ما نراه في إيطاليا واليونان اليوم هو انتصار للأسواق على السيادة الوطنية والديمقراطية. فربما لا تجمع بين حكومتي هاتين الدولتين قواسمُ مشتركة كثيرة؛ فاليونان كان يحكمها اشتراكي ديمقراطي، وإيطاليا يحكمها نرجسي أوتوقراطي، إلا أنه من المستحيل تقريباً إيجاد سياسيين من أي أيديولوجيا في أي من البلدين مستعدين لخفض مستوى المعيشة لمواطنيهم بالـ20 أو الـ25 في المئة التي تطالب بها الأسواق في دعوتها إلى التقشف. ولهذا تطرح هذه الأيام أسماء تكنوقراطيين عملا من قبل لدى مؤسسات مالية أوروبية، مثل لوكاس باباديموس في اليونان وماريو مونتي في إيطاليا، كمرشحين لشغل منصب رئاسة الوزراء في الدولتين على التوالي.
والأكيد أن برلسكوني ليس نموذجاً للديمقراطية؛ ذلك أنه عبد طريقه نحو منصب رئيس الوزراء في إيطاليا بالأساس عبر شرائه وسائل الإعلام في بلده، وعبر استعمال ثروته لشراء السلطة. ومثلما كانت ستقول مجلة "تايم" العتيقة ربما، فإن السيد بطل الفضائح الجنسية ليس بصديق للديمقراطية قطعاً. ومع ذلك، فإن الضغوط الحقيقية عليه للتنحي عن منصبه لا تأتي من الناخبين الإيطاليين الذي ضاقوا ذرعاً بمغامراته، وبذاءته، ورأسمالية المحسوبية الراكدة التي أشرف عليها، وإنما من أسواق السندات التي تجعل من المستحيل على إيطاليا تمويل ديونها.
غير أن مطالب السوق تتعدى برلسكوني؛ لأنه بالمعنى الأوسع، فإن اقتصاد إيطاليا (واقتصاد اليونان أيضاً) هو الذي يُرفض من قبل الأسواق التي تشدد على ضرورة إعادة التنظيم، بغض النظر عما إذا كان الإيطاليون (واليونانيون كذلك) يرغبون في إعادة تنظيمه أم لا.
لقد كتب كارل ماركس في عام 1948 أن الرأسمالية "ترغم كل الدول على التكيف مع نمط الإنتاج البورجوازي"، أي إخضاع أوضاعها الاقتصادية القديمة لمطالب الرأسمالية دائمة التحديث، وهذا تقريباً ما يحدث هذا الأسبوع لإيطاليا واليونان. لكن المشكلة هنا لا تكمن فقط في حقيقة أن هذه العملية قد تعرِّض دولة مطاعم للخطر، وإنما في أنها تعرِّض للخطر حق دولة في أن تقرر بنفسها على نحو ديمقراطي ما إن كانت ترغب في البقاء دولة مطاعم أم لا، وذلك بغض النظر عما إن كان ذلك قد يبدو مفتقراً لحس المسؤولية أو مغرياً بالنسبة لجيرانها الشماليين.
----------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية الأحد 13 نوفمبر 2011.