فى كلمته غير المكتوبة أمام حفل خريجى الكليات العسكرية مساء الخميس الماضى أشار الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى الأوضاع المشتعلة ــ لحكمة لا نعلمها ــ على حدود مصر الغربية والجنوبية والشرقية قائلا «عندما يكون لديك جار عنده مشكلة صغيرة فأنت تتأثر، لكن ماذا لو أن هذا الجار بيته مشتعل، البيوت التى بجانبنا وجوارنا مشتعلة لكن شاءت إرادة الله أن تظل مصر آمنة مطمئنة».
توقفت أمام تلك الكلمات وعدت سريعا إلى الخريطة المصرية كى أتأمل حدود مصر الجغرافية، لأجد أن كل الحدود المصرية تقريبا الآن مشتعلة إذا استثنينا الحدود البحرية، حيث يحدها فى الشمال الشرقى فلسطين (غزة وإسرائيل) بطول 265 كيلو مترا، ويحدها من الغرب ليبيا بطول 1115 كيلو مترا، ويحدها من الجنوب السودان بطول 1280 كيلو مترا، فى حين يحدها من الشمال البحر المتوسط بطول 995 كيلو مترا، ويحدها شرقا البحر الأحمر بطول 1941 كيلومترا.
إذا استثنينا الحدود البحرية الطبيعية فإن كل حدود مصر وجاراتها بلا استثناء مشتعلة، وفوق براكين هائلة قديما وحديثا.
من بين الدول المجاورة ليبيا فى الغرب التى تعانى من الاضطرابات والفوضى منذ أكثر من 12 عاما، ولاتزال حتى الآن تراوح مكانها فى البحث عن مخرج يعيد إليها استقرارها ووحدتها دون أفق محدد أو جدول زمنى واضح ومستقر ومتفق عليه.
أما السودان فى الجنوب فهو يتعرض لأكبر محنة فى تاريخه المعاصر الآن بعد اشتعال الاقتتال والصراع فيه بين الجيش السودانى وقوات الدعم السريع منذ حوالى 6 أشهر حتى الآن دون أفق حقيقى للخروج من ذلك الصراع الذى أتى على الأخضر واليابس فيه وساهم فى تشريد الملايين من أبناء الشعب السودانى، وتحويل العاصمة السودانية الخرطوم إلى «خرابة» كبيرة.
أما الحد الشمال الشرقى فهو الأقدم فى التوتر والأزمات، وترجع أزماته وكوارثه إلى ما يقرب من 75 عاما حينما زرعت قوى الاستعمار الغربى إسرائيل كشوكة فى قلب العالم العربى فى عام 1948، وازدادت الأزمة حدة فى عام 1967 حينما التهمت إسرائيل باقى الأراضى الفلسطينية فى الضفة الغربية وقطاع غزة.
أعتقد أن حفل خريجى الكليات العسكرية يوم الخميس الماضى لم يكن مجرد حفل عادى، خاصة أنه تزامن مع احتفالات مرور 50 عاما على نصر أكتوبر المجيد، ومن هنا فقد حملت تلك الاحتفالات العديد من الرسائل للداخل والخارج على السواء فى هذا التوقيت العصيب أبرزها مايلى:
أولا: أن الجيش المصرى هو حامى حمى الأمن القومى المصرى وهو جيش قوى وقادر على صيانة وحفظ الأمن القومى المصرى باعتباره واحدا من أقوى جيوش العالم قاطبة حيث يحتل المرتبة الثانية عشرة فى مؤشر الترتيب الشامل للقوة العسكرية، وهو الجيش الأول عربياً وإفريقيا، وشرق أوسطياً متقدما على إسرائيل، وإيران، وكل الدول العربية والإفريقية بلا استثناء.
رغم كل ذلك فهو جيش رشيد يحمى ولا يعتدى، وفى الوقت نفسه لا يتخلى عن واجباته، ومقدساته، وقادر على بسط إرادته، وحماية مصر وأمنها، ومصالحها، رغم اشتعال الصراعات من حولها قديما وحديثا.
ثانيا: أثبتت الأحداث بعُد نظر الرؤية الإستراتيجية المصرية القائمة على أن كل صراع لا يؤول إلى السلام، هو عبث لا يعول عليه، ومن هنا كان الموقف الثابت للدولة المصرية فى الانتصار لمبدأ السلام القائم على العدل والمساواة، وإعطاء الشعب الفلسطينى حقه المهدر من 56 عاما فى إقامة دولته المستقلة، طبقا لمقررات الشرعية الدولية فى إطار مبدأ حل الدولتين، والالتزام بتفعيل المبادرة العربية القائمة على مبدأ الأرض مقابل السلام، وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو1976 وعاصمتها القدس الشرقية.
ثالثا: حذر الرئيس عبدالفتاح السيسى فى كلمته أمام الحاضرين من التصعيد الجارى الآن فى غزة، والذى يؤدى فى النهاية إلى «صراعات صفرية لا منتصر فيها ولا مهزوم، صراعات تخُل بمبادئ القانون الدولى والإنسانى وتخالف مبادئ الأديان والأخلاق»، مطالبا كل الأطراف بضرورة العودة فورا للمسار التفاوضى تجنبا لحرائق ستشتعل ولن تترك قاصيا أو دانيا إلا أحرقته.
رابعا: أوضح الرئيس موقف مصر الثابت والراسخ القائم على الحفاظ على مقدرات الشعب الفلسطينى وضرورة حصوله على حقوقه المشروعة طبقا لمقررات الشرعية الدولية، والتأكيد على أن ذلك «عقيدة كاملة فى نفوسنا وضمائرنا».
هو إذن موقف واضح وقوى تتبناه الدولة المصرية على اعتبار أن إستراتيجية الأمن القومى المصرى تبدأ من خارج حدودها فى فلسطين وليبيا والسودان وكل شبر من خريطة العالم العربى من المحيط إلى الخليج.
على مر التاريخ والأزمان كانت مصر هى القلب، والقوة الصلبة فى الخريطة العربية، فإذا نهضت مصر وقويت نهض العالم العربى، والعكس صحيح، ومن هنا تأتى مخططات «الإرباك» للدولة المصرية من حدودها الجغرافية الخارجية لاستنزاف طاقتها، وتعطيل مسيرتها فى التقدم والتنمية.
الواضح أن ما يحدث الآن هو خطوة فى سلسلة طويلة وممتدة لمخطط شيطانى رهيب يستهدف إعادة تقسيم العالم العربى على أسس عرقية أو دينية، وإنشاء ما يسمى «بالشرق الأوسط الكبير»، لضرب مخطط إستراتيجية الأمن القومى العربى فى مقتل.
هذا المخطط الشيطانى كانت بدايته عام 2003 بضرب العراق، وتهديد كياناته ومؤسساته بإدخال مبدأ المحاصصة الدينية والعرقية «شيعة ــ سنة ــ أكراد».
بعد نجاح المخطط فى العراق بدأت الموجة الثانية والتى أطلق الغرب عليها «ثورات الربيع العربى» منذ 13 عاما التى تحولت فيما بعد إلى خريف دام يلفح الجسد العربى حتى الآن، ولاتزال سوريا، وليبيا، واليمن، والسودان أسيرة لتلك الموجة القاسية التى أنهكت الجسد العربى، ودمرت قدراته وأضعفت مؤسساته.
كانت مصر هى «الهدف الرئيسى» فى تلك الموجة، لكن بفضل الله أولا ورعايته لمصر وشعبها، ثم بفضل جيشها القوى الذى يضم خير أجناد الأرض، عادت الدولة المصرية قوية صامدة، مستقرة، وعاد جيشها يحلق فى آفاق قائمة أفضل الجيوش العالمية، والأفضل والأقوى على الإطلاق فى الشرق الأوسط، والعالم العربى وإفريقيا
الآن تهب موجة جديدة من الموجات المهددة للأمن القومى العربى تقودها إسرائيل بعد أن أسقطت عملية «طوفان الأقصى» ورقة التوت عن دولة متهاوية تدعى زورا وكذبا أنها «دولة لا تقهر»، فى حين أنها تسقط سريعا أمام أول اختبار حقيقى وتلجأ دائما إلى الحليف الأمريكى لإنقاذ نفسها من الانهيار الكامل كما حدث من قبل فى حرب أكتوبر 1973 وها هو يحدث الآن فى غزة بعد أن تحركت أضخم حاملات الطائرات وانطلق أضخم جسر جوى منذ حرب 1973 لدعم قدرات إسرائيل وتمكينها من تنفيذ مخططها اللعين بتهجير الفلسطينيين وإبادتهم.
المخطط الجديد يستهدف تغيير التركيبة الديموجرافية لسكان فلسطين فى غزة ودفعهم إلى التهجير والنزوح أو الفناء وهذا هو «لب» المخطط الجديد، تمهيدا لإقامة «حلم إسرائيل الكبرى الكاذب»، ومن هنا كان الموقف المصرى الواضح والحاسم برفض كل تلك المخططات الشيطانية التى تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، والتشديد على مطالبة الشعب الفلسطينى بالبقاء والصمود على أرضهم لإفشال ذلك المخطط الجديد.
أخيرا أتفق تماما مع ما قاله الرئيس عبدالفتاح السيسى حينما وجه حديثه إلى الشعب المصرى والجبهة الداخلية المصرية قائلاً «إن شعب مصر مسئول عن حفظ مصر وأمنها جنبا إلى جنب مع أبنائها من القوات المسلحة، محذرا من الوقوع فى فخ الفتن والأكاذيب».
تلك هى الرسالة الأهم والأخطر التى يجب أن نعيها جيدا فى تلك اللحظات العصيبة التى تمر بها المنطقة العربية، فلا بديل أمامنا جميعا سوى الاصطفاف على قلب رجل واحد خلف قواتنا المسلحة وقائدها الأعلى للحفاظ على مقدرات الأمن القومى المصرى الذى هو بمثابة القلب الصلب للأمن القومى العربى تمهيدا لإفشال تلك الموجة الجديدة العاتية التى تستهدف تنفيذ المخطط الشيطانى «الشرق الأوسط الكبير» وفتح الطريق بعد ذلك أمام الحلم الكاذب لدولة إسرائيل الكبرى.