لا تزال التساؤلات وعلامات التعجب وأجواء الصدمة ومحاولة فهم وتفكيك المشهد هى الأبعاد المسيطرة على التطورات التى تشهدها جبهة غزة - تل أبيب بعد الهجوم الصاروخى لحركة المقاومة الإسلامية – حماس- على إسرائيل، واقتحام مستوطنات غلاف غزة صباح السابع من أكتوبر الجارى (٢٠٢٣)، وما صاحب الهجوم الذى شاركت فيه العديد من فصائل المقاومة فى قطاع غزة فى مراحه التالية، من وجود ومواجهة مستمرة فى تلك المستوطنات، وعمليات القتل والخطف التى أسهمت فى زيادة عدد الأسرى الإسرائيليين لدى الفصائل الفلسطينية فى القطاع.
وتجاوز اختراق الفصائل للمشهد القابل للتصعيد خلال الفترة الأخيرة، بكل ما حملته التطورات من فرص تفعيل قواعد الاشتباك القائمة منذ حرب غزة الرابعة (مايو ٢٠٢١)، فكرة تجاوز الحدود المادية بين قطاع غزة المحاصر منذ عام ٢٠٠٧ إلى المستوطنات القريبة والمعروفة باسم مستوطنات غلاف غزة، إلى الاختراق المعنوى على صعيد إسرائيل وقدراتها الاستخباراتية وجهوزيتها العسكرية، وكذلك اختراق حالة التصعيد المتقطع والمقيد على حدود القطاع إلى التصعيد المتزايد والحرب المفتوحة على صعيد غزة، ومعها تساؤلات متنوعة عن تطورات المشهد فى اللحظة والمستقبل.
تساؤلات تتجاوز حدود المواجهة على جبهة غزة فى ظل دخول الجبهة الشمالية على خط المواجهة المحدودة حتى اللحظة، إلى خطاب حماس وفصائل المقاومة فى القطاع عن أهمية تصعيد المقاومة بكل الوسائل فى الضفة الغربية والداخل الإسرائيلى بكل ما يطرحه تصعيد مماثل من مخاوف الحرب المتعددة الجبهات التى تثير مخاوف إسرائيل الأمنية، ويتم التحذير بصفة متكررة من ضرورة تجنبها، وخاصة مع طرح فكرة الحرب الإقليمية لفصائل المقاومة والقوى الإقليمية المؤيدة لها على جبهات الصراع المتعددة فى الداخل الفلسطينى ولبنان وسوريا، بالإضافة إلى غزة.
تبرر مخاوف الحرب المتعددة الجبهات والمواجهة الإقليمية المفتوحة من وجهة نظر إسرائيل، ضمن أمور أخرى، رواية تل أبيب عن وجود تهديد فلسطينى بقتل جميع الإسرائيليين، والإعلان فى ٨ أكتوبر الجارى أن إسرائيل فى "حالة حرب" للمرة الأولى بعد حرب ٦ أكتوبر ١٩٧٣، والتركيز على الحاجة إلى المساندة الأمريكية، وطلب المزيد من الدعم والأسلحة، من أجل بناء وترسيخ رواية التهديد الوجودى الذى تعيشه دولة إسرائيل، والذى يتطلب الدعم من الحليف الأمريكى والقوى الغربية الصديقة التى سارعت إلى إعلان دعم تل أبيب وحقها فى "الدفاع عن النفس".
تسهم الرواية الإسرائيلية أيضا فى بناء مظلة قبول وتأييد أمريكى وغربى للحرب الإسرائيلية الواسعة ضد القطاع بهدف القضاء على حماس، والرغبة فى التأكد من إنهاء القدرات العسكرية للحركة، وتحويل غزة إلى ركام، وحصار القطاع بشكل كامل، بكل ما تتضمنه تلك الأهداف والتحركات والممارسات والخطابات العنصرية المصاحبة لها من تجاوزات تنتهك القانون الدولى وحقوق الإنسان، وتقوم على العقاب الجماعى للسكان فى القطاع، بالإضافة إلى التهديد بالترحيل القسرى بكل ما يثيره من مخاوف وتهديدات إقليمية.
من جانب آخر، وفى حين أعادت هجمات حماس والفصائل على المستوطنات الإسرائيلية وضع القطاع بصفة خاصة والقضية الفلسطينية بصفة عامة إلى الواجهة، فقد أسهمت فى تعميق أزمات القطاع وزيادة الخسائر البشرية والمادية، وإعاقة خطط الإعمار المستهدفة خلال الحروب والمعارك التى شهدها القطاع منذ عام ٢٠٠٨. كما سلطت الأحداث الضوء على التحديات التى أفرزتها الحكومة الإسرائيلية التى تشكلت فى ديسمبر ٢٠٢٢ بزعامة بنيامين نتنياهو، والتى توصف بأنها الحكومة الأكثر تشددا ويمينية، ليس على صعيد القضية الفلسطينية وفرص إعلان دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية فى اللحظة والمستقبل فقط، ولكن على صعيد التحديات التى فرضتها على الداخل الإسرائيلى، وعلاقات إسرائيل الخارجية أيضا.
يظل مشهد الحرب المفتوحة فى بداياته، ويحمل فرصا متعددة للتصاعد، مع فرص محدودة للرشادة والتقييد. وفى حين يطرح الحديث عن التهدئة والوساطة منذ اللحظات الأولى، مع تأكيد دور مصر فى العمل على التوصل إلى تهدئة سريعة بهدف تقليل الخسائر البشرية والمادية وتجنيب الإقليم المزيد من المخاطر والتهديدات، تستمر التحديات من الأطراف المعنية. ينطلق الرفض الإسرائيلى، بدوره، للحديث عن فرص التهدئة من الرغبة فى تحسين الأوضاع العسكرية من أجل أجندة سياسية للائتلاف الحاكم عبر تحقيق انتصار عسكرى وسياسى واضح للحكومة بصفة عامة ونتنياهو بصفة خاصة.
وعلى صعيد الفصائل، تفرض مطالب الفصائل فيما يتعلق بملف الأسرى تحديات يصعب قبول إسرائيل بها وخاصة فى ظل مطالبة الفصائل بضرورة التوصل إلى صفقة تبادل تتناسب مع صفقة شاليط التى عقدت عام ٢٠١١، ومع ما لديها من أسرى عسكريين ورهائن مدنيين فى الأحداث الأخيرة، بالإضافة إلى ما تحتفظ بهم حماس من قبل، وفى حين ترفض إسرائيل على مدى سنوات التوصل إلى صفقة على طريقة شاليط، فإنه من الصعب أن تقبل إسرائيل بصفقة تبادل أسرى جديدة وسط الحرب وشعور الصدمة والهزيمة فى مواجهة حماس والفصائل الفلسطينية.
وسط تلك التحديات، ومع تراجع فرص التهدئة فى اللحظة لمصلحة فرص التصعيد، نتناول الإطار العام للتطور، وأبرز ما يطرحه من قضايا، وما يثيره من تساؤلات، وما يطرحه من تحديات على صعيد قواعد الاشتباك، والهدف من الحرب، والأزمة الإسرائيلية والرواية وتوظيفها فى اللحظات الأولى من التصعيد.
الاشتباك بين القواعد القديمة والوسائل الجديدة.. حدود الصدمة والمفاجأة:
لم تتمثل الصدمة والمفاجأة فى حدوث التصعيد على جبهة غزة، وعلى العكس من ذلك، كان الطريق إلى السابع من أكتوبر ممهدا فى جبهة غزة، مع فرص التصعيد المحتملة فى الجبهة الشمالية مع حزب الله. فى المقابل، تمثلت الصدمة الحقيقية فى الأساليب والأدوات المستخدمة، وخاصة فكرة نقل المعركة إلى ساحة مستوطنات غلاف غزة، وعدم الاقتصار على إطلاق الصواريخ من القطاع إلى الداخل الإسرائيلى سواء فى مستوطنات قطاع غزة أو غيرها من المدن كما حدث من قبل.
وتتمثل قواعد الاشتباك بصفة أساسية فى القواعد التى أُسست خلال التصعيد الذى سبق حرب غزة الرابعة فى المسجد الأقصى والقدس. وشهدت الفترة السابقة على بداية الحرب فى ١١ مايو ٢٠٢١ استهداف عدد من منازل حى الشيخ جراح فى القدس الشرقية، وإصدار قرارات إخلاء منازل لمصلحة المستوطنين، بالإضافة إلى اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى، والاعتداء على المصلين. وخلال تلك الفترة، ظهر محمد الضيف، القائد العام لكتائب عز الدين القسام - الجناح العسكرى لحركة حماس، محذرا من استمرار التصعيد الإسرائيلى ومهددا برد القسام. بهذا، أُسست قاعدة الاشتباك العامة والأساسية والقائلة بأن التصعيد فى القدس والمسجد الأقصى سوف يتم الرد عليه من غزة، وهى القاعدة التى فعِّلت فى حرب غزة الرابعة فى ظل استمرار السياسات الإسرائيلية التصعيدية.
مع الوقت، تم توسيع قواعد الاشتباك لتتضمن حياة السجناء الإداريين المضربين عن الطعام من أجل إنهاء سجنهم كما حدث خلال إضراب السجين الإدارى هشام أبو هواش، والأسرى فى السجون الإسرائيلية كما حدث خلال سجن الشيخ خضر عدنان، والوضع فى مخيم جنين. وفى حين تستمر تلك القضايا بوصفها أسبابا يمكن أن تقوم الفصائل وفقا لها بتفعيل قواعد الاشتباك، والرد من غزة فى مواجهة إسرائيل، فإن القرار النهائى فيما يتعلق بتفعيل قواعد الاشتباك ارتبط بقرار الفصائل على ضوء المطالب أو التهديدات التى أُعلنت، والاستجابة الإسرائيلية لتلك المطالب، وجهود الوساطة المصرية، وغيرها من الاعتبارات الخاصة بالظرف العام والقضية محل الاهتمام.
وبالعودة إلى المشهد الفلسطينى - الإسرائيلى فى مرحلة ما قبل طوفان الأقصى، يمكن القول بوجود العوامل الضرورية التى كان يمكن الاستناد إليها من أجل تفعيل قواعد الاشتباك، وخاصة على صعيد الاعتداء على المصلين والمصليات والمرابطين والمرابطات فى المسجد الأقصى، واقتحامات المستوطنين المتزايدة والمتكررة للمسجد، ومنع المصلين المسلمين خلال الأعياد اليهودية من أجل تمرير تلك الاقتحامات والسماح بالصلوات التلمودية فى ساحة المسجد، واستهداف الأسرى فى السجون الإسرائيلية، وزيادة عدد المعتقلين الإداريين والضحايا الفلسطينيين خلال الأشهر التى مرت منذ تشكيل حكومة نتنياهو بشكل واضح، وهى القضايا التى ظهرت فى الرسائل والتصريحات المختلفة للفصائل الفلسطينية فيما يتعلق بطوفان الأقصى بداية من محمد الضيف إلى المتحدث باسم القسام أبو عبيدة، وإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسى لحركة حماس، وصالح العارورى نائب رئيس المكتب السياسى الحركة وأحد المطلوبين من قبل إسرائيل بشكل واضح فى الفترة الأخيرة. وأشارت العديد من التحليلات إلى تزايد فرص التصعيد، وإمكانية دخول حماس على خط الأحداث، وخاصة مع زيادة المقاومة الفلسطينية فى الضفة الغربية، والاعتداءات المتكررة على المدن الفلسطينية من قبل المستوطنين كما حدث فى حوارة، واقتحام مخيم جنين، بالإضافة إلى تصريحات عدد من قادة الحركة، واللقاءات بين قادة الفصائل أو بينهم وبين حزب الله.
فى المقابل، أسهم التصعيد على حدود غزة وتراجعه لمصلحة توفير فرص عمل لعدد أكبر من عمال القطاع فى الداخل الإسرائيلى، أو تمرير بعض المكاسب الأخرى للقطاع، فى بناء تصور إسرائيلى بأن حماس لا ترغب فى التصعيد أو الدخول فى حرب جديدة، خاصة عندما لم تشارك الحركة فى معركة "وحدة الساحات" التى استهدفت فيها حركة الجهاد الإسلامى فى أغسطس ٢٠٢٢. تعاملت تحليلات إسرائيلية، بدورها، مع تحركات حماس بعد طوفان الأقصى بوصفها رسائل مقصودة لتقديم صور مغايرة للحقيقة، ونوعا من الخداع من أجل الإعداد لهجوم طوفان الأقصى من خلال بناء صورة الحركة الراغبة فى التهدئة رغم التحديات والنقد الفلسطينى والفصائلى لمواقفها، ورغبتها فى تهدئة الأوضاع فى القطاع وخاصة مع الحديث المتزايد عن تدهور الأوضاع المعيشية فى غزة. وأسهم حديث أبو عبيدة عن إعداد حماس لعملية طوفان الأقصى على مدى سنوات فى تدعيم تلك الرؤية الخاصة بالخداع الممتد.
الفصائل وطوفان الأقصى.. بين حرب التحرير وتحرير الأسرى:
أسهمت سياسات الخداع فى تقليل مخاطر التصعيد من غزة بالنسبة لإسرائيل، فى حين استمرت قواعد الاشتباك القديمة قائمة، وأسباب التصعيد متوفرة، وفكرة الرد من غزة مسيطرة. وإلى جانب مفاجأة التوقيت، بحكم تهميش إسرائيل لحقيقة وجود أسباب التصعيد، فإن الاختلاف المهم الذى أسهم فى تعميق الأزمة الإسرائيلية وتحويل السبت ٧ أكتوبر إلى "السبت الأسود"، واليوم الذى شهد سقوط أكبر عدد من الضحايا الإسرائيليين، فى أسلوب الرد الذى اعتمد على الصواريخ من أجل تمرير الاقتحام البرى للجدار المقام على حدود القطاع، ودخول العديد من المستوطنات الواقعة ضمن مستوطنات غلاف غزة، وقتل عدد من الجنود والمستوطنين، إلى جانب الحصول على عدد من الرهائن والأسرى يصل عددهم وفقا لتقديرات مختلفة إلى ما بين ١٥٠ و٢٠٠ شخص بمن فيهم ضباط كبار بهدف استخدامهم فى التوصل إلى صفقة تبادل أسرى جديدة من شأنها، من وجهة نظر الفصائل، الإفراج عن العدد الأكبر من الأسرى فى السجون الإسرائيلية والبالغ عددهم وفقا لبيانات سبتمبر ٢٠٢٣ نحو ٥٢٠٠ أسير، بينهم ٣٦ أسيرة و١٧٠ طفلا، بالإضافة إلى وصول عدد المعتقلين الإداريين فى الفترة نفسها إلى ١٢٦٤ بينهم أكثر من ٢٠ طفلا وأربع معتقلات.
يتضح مما سبق، ارتباط طوفان الأقصى بملفات مركزية فى قواعد الاشتباك، وهى المسجد الأقصى والأسرى. وفى حين ترغب الفصائل فى تأكيد دورها فى الرد على الاعتداءات الخاصة بالقدس والمسجد الأقصى، فإن أوضاع الأسرى فى ظل سياسات وزير الأمن القومى إيتمار بن غفير، وأهمية الملف بالنسبة للمجتمع الفلسطينى، تزيد من أهمية التوصل إلى صفقة تبادل جديدة.
وفى حين تمثل صفقة شاليط، أو وفاء الأحرار وفقا للجانب الفلسطينى، التى تمت فى ٢٠١١ بوساطة مصرية وخلال رئاسة نتنياهو للحكومة النموذج الذى ترغب حماس وغيرها من الفصائل فى الاستناد إليه فى صفقة جديدة بعد أن أفرج وفقا لها عن ١٠٢٧ أسيرا فلسطينيا مقابل الجندى الإسرائيلى جلعاد شاليط، فإن الرفض الإسرائيلى خلال السنوات السابقة للوصول إلى صفقة مماثلة قيَّد من فرص التوصل إلى اتفاق. ويظل من الصعب تمرير مثل هذا الاتفاق فى الوقت الحالى حيث الحرب دائرة، والردع الإسرائيلى محل تساؤل، ومكانة نتنياهو ومستقبله السياسى قضايا أساسية فى اتخاذ القرار الإسرائيلى الذى أعلن أن وضع الرهائن الإسرائيليين فى القطاع لن يقف ضد الحرب الإسرائيلية الهادفة إلى القضاء على حماس أو تحويل القطاع إلى ركام.
من جانب آخر، وفى حين لا تستبعد بعض التصريحات المختلفة أن تكون طوفان الأقصى حرب التحرير القادرة على تحرير فلسطين، باختلاف الرؤية بين فلسطين ١٩٦٧ وفلسطين التاريخية، فإن طبيعة الحرب، وحدود التصعيد حتى اللحظة يرجح أن تكون حرب الأقصى والأسرى بأكثر من أن تكون حرب التحرير والدولة الفلسطينية. ويتوقف تغير تلك الوضعية على العديد من العوامل التى ترتبط فى اللحظة بدرجة كبيرة بالموقف الإسرائيلى وحدود التصعيد ضد الشعب الفلسطينى فى القطاع، وإمكانية تنفيذ التهديدات التى طُرحت من أطراف مختلفة ضمن محور المقاومة والخاصة بالتصعيد فى حالة استهداف ضخم للقطاع وتهديد الفصائل الفلسطينية فى القطاع. كما قد تؤدى سياسات إسرائيل، ومحاولة استغلال الأحداث للمزيد من التوجه اليمينى على طريقة بن غفير الذى سارع إلى تسهيل إجراءات امتلاك الأسلحة، واستهداف المستوطنين للفلسطينيين فى الضفة الغربية، إلى اشتعال بؤر صراع جديدة يصعب فى حالة امتدادها إلى مخيم جنين، ومشاركة قوى المقاومة فى الضفة الغربية مثل عرين الأسود، معرفة حدود تطورها وسبل تقييدها التى قد تتراجع لصالح المزيد من التصعيد المفتوح.
إسرائيل على هامش الصدمة.. واقع سياسى مأزوم وعسكرى مرتبك:
استحضرت التطورات على جبهة غزة ومستوطنات غلاف غزة إلى الواجهة الحديث عن مسئولية نتنياهو عن الوقائع غير المسبوقة التى تشهدها إسرائيل. وأشارت العديد من التحليلات الإسرائيلية إلى مسئولية نتنياهو المباشرة عن تآكل الردع فى ظل انعكاسات خطة التعديلات القضائية التى طرحتها الحكومة منذ يناير الفائت بهدف تعظيم دور الائتلاف الحاكم وضمان سيطرته على كل السلطات، وتغيير القوانين، وإضعاف الدور الرقابى للمحكمة العليا، على الوضع السياسى والعسكرى والأمنى، وعلى تراجع الردع الإسرائيلى، والإضرار بوضع الجيش رغم المطالبات المتكررة بضرورة إبقاء الجيش خارج التجاذبات السياسية.
وفى حين أكدت التقارير المختلفة التى تناولت وضع الجيش على صعوبة تقييم الانعكاسات السلبية التى حدثت داخل الجيش بفعل التجاذبات والانقسامات السياسية المرتبطة بالتعديلات القضائية، فقد أشير بشكل واضح إلى أن تلك الأضرار سوف تبرز فى أول مواجهة إسرائيلية قادمة، كما حدث فى مواجهة "طوفان الأقصى". وهو ما يضيف بدوره إلى أهمية "السيوف الحديدية" التى أعلنتها إسرائيل بوصفها عنوان حربها على حماس بصفة خاصة وقطاع غزة بصفة عامة فى اختبار قدرة الجيش على تجاوز تحديات العام الأول من حكومة نتنياهو وما حملته من تحديات على مستوى جيش الشعب وتماسكه وجهوزيته، وعلى مستوى إسرائيل وقدرات الردع وحماية الأمن.
وفى حين أثارت التظاهرات الإسرائيلية المعارضة لخطة التعديلات القضائية المخاوف من تأثير سياسات حكومة نتنياهو، ومواقف شخصيات مثل بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سوتريتش، فى الأوضاع بإسرائيل داخليا، فإنها لم تستبعد التسبب فى تصعيد الأحداث فلسطينيا فى ظل سياسات الاستيطان المتسارع على حساب الدولة الفلسطينية وفرص إعلانها، واستهداف الأسرى الفلسطينيين، وتعميق الاعتداءات على قطاع غزة مع تمرير بعض المساعدات الاقتصادية للسلطة الفلسطينية وفرص العمل للقطاع بوصفها الأدوات الممكنة ضمن الحل الاقتصادى من أجل الحفاظ على التهدئة، وتجنب المسار السياسى والالتزامات المفترضة على إسرائيل بوصفها دولة احتلال، أو بالنظر إلى الاتفاقات الدولية المعنية بالقضية الفلسطينية والتسوية القائمة على خيار الدولتين.
كما أعادت "طوفان الأقصى" إلى الواجهة الحديث الإسرائيلى الداخلى عن دور نتنياهو وسياسات حكومته المتطرفة فى إضعاف الأمن الإسرائيلى عبر تصعيد الاستيطان، وعنف المستوطنين، والاستخدام المتزايد للعنف فى مواجهة الشعب الفلسطينى، والاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، واستهداف الأسرى الفلسطينيين والمعتقلين الإداريين فى السجون الإسرائيلية، ورفض فكرة الدولة الفلسطينية والعمل على تجاوزها فى الفكر والممارسة. وفى هذا السياق، حمل الكاتب الإسرائيلى جدعون ليفى فى هآرتس "الغطرسة الإسرائيلية" مسئولية ما حدث فى السابع من أكتوبر، مشيرا إلى الاعتقال والقتل واقتحام المسجد الأقصى (أكثر من ٥٠٠٠ خلال عيد العرش)، والترحيل ومصادرة الأراضى والتطهير العرقى وحصار غزة، بوصفها مظاهر السلوك الذى فاقم الأحداث وصولا إلى لحظة الصدمة الإسرائيلية.
فى الوقت نفسه، صاحب التطورات دعوات مختلفة من قادة المعارضة للتوحد فى حكومة وحدة وطنية من أجل مواجهة التحديات التى تفرضها اللحظة، بما فى ذلك رئيس الوزراء الأسبق يائير لبيد ووزير الدفاع الأسبق بينى غانتس. وفى حين تمثل مثل تلك الخطوة أحد التحركات المهمة من أجل تجاوز التحديات التى واجهت نتنياهو سياسيا، وتواجه إسرائيل سياسيا وأمنيا، فإنها تصطدم باشتراط تلك الشخصيات استبعاد سموترتيش وبن غفير فى ظل مواقفهما وسياستهما اليمينية المتطرفة التى يرى قادة المعارضة أنها تهدد إسرائيل وليس العكس. يراهن نتنياهو بدوره على أهمية الحفاظ على الائتلاف من أجل تجاوز اتهامات الفساد التى يحاكم بشأنها، والتى تبرر وفقا للعديد من التحليلات التمسك بالتعديلات القضائية رغم ما ترتب عليها من إشكاليات فى إسرائيل وفى علاقاتها الخارجية خاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وبهذا، أضيف الجدل عن فرص تشكيل حكومة وحدة وطنية، ومن يدعم أو يقيد مثل تلك الفرص، إلى ساحة جديدة للجدل الإسرائيلى، وربما الانقسام والاختلاف، فى وقت تتزايد التحديدات وتسهم فى كشف المزيد من نقاط الضعف التى يصعب أن يتجنب نتنياهو تأثيراتها السلبية فى حياته السياسية فور انتهاء الحرب. بهذا، يدخل نتنياهو الحرب وهو فى حاجة إلى تحقيق إنجاز عسكرى وسياسى يمكن تسويقه من أجل البقاء. فى المقابل، تحمل فرص سقوط الحكومة بعد الحرب معها مخاطر نهاية الحياة السياسية لنتنياهو ومواجهة قضايا الفساد وأحكام السجن المحتملة.
طوفان الأقصى فى مواجهة حرب الرواية:
على الرغم من تركيز جزء كبير من الاهتمام، سلبا وإيجابا، على توظيف حماس والفصائل للصورة والفيديو، والحضور عبر الوسائل المختلفة، فإن جزءا كبيرا من الأسباب يعود إلى حرب غزة الرابعة. وفى حين ارتبطت تغطية حماس والفصائل بطبيعة العملية، وخاصة فى بدايتها، حين كانت السرية هى الأساس فى تنفيذ الهجوم، واستخدام أسلحة وأدوات جديدة من شأنه إحراج إسرائيل وقدراتها الاستخباراتية، فإن جزءا أساسيا ارتبط بالرغبة فى تقديم الرواية أو السردية الفلسطينية، أو رواية الفصائل فى هذا السياق، بعد أن تعرضت الرواية الفلسطينية للتقييد المستهدف خلال حرب غزة الرابعة.
وشهدت حرب غزة الرابعة تقييد المحتوى الفلسطينى واستهدافه على وسائل التواصل الاجتماعى "السوشيال ميديا" المختلفة، وفى العديد من الصحف ووسائل الإعلام الغربية، بالإضافة إلى حذف العديد من المصادر الفلسطينية من تلك المنصات. وارتبط هذا الأمر بدوره بجهود متنوعة فى داخل فلسطين وخارجها لنشر الرواية الفلسطينية، والوقوف فى مواجهة حراس البوابات فى وسائل الإعلام، واللوغاريتمات التقنية فى وسائل التواصل الاجتماعى وغيرها من المصادر الإلكترونية التى ربطت بين المقاومة والإرهاب، وشعارات فلسطينية معينة والعنف. كما صاحب تلك الفترة محاولة القيام بما أطلق عليه تصحيح الرواية من خلال القيام بالتعليق على التصريحات والمقالات التى تقدم رواية مخالفة أو ملتبسة، عبر مشاركة تلك المصادر والتعليق على ما جاء فيها من التباس أو مغالطة من وجهة النظر الفلسطينية، وتقديم رؤية مغايرة تتناسب مع الرواية الفلسطينية.
فى هذا السياق، تمثل تغطية الفصائل للأحداث، رغم ما ارتبط بمحتوى بعضها من نقد أو جدال، فى تقديم محتوى يعبر عن رؤية الفصائل، ويوثق الأحداث من قبل الجانب الفلسطينى مع إدراك استهداف الرواية الفلسطينية بشكل مقصود فى العديد من الحالات، ومخاطر ترك ساحة الرواية للآخرين.
استحضرت بعض الأصوات فى إسرائيل بدورها صور الشتات اليهودى من أجل تعظيم فكرة المخاطر والتهديدات الوجودية للدولة، ولكن تلك الرواية نفسها التى أسهمت فى إعلان الدعم الغربى الواسع لما قيل إنه "حق إسرائيل فى الدفاع عن النفس" دون مراعاة الحق الفلسطينى، وكسر الجليد فى العلاقات بين الرئيس الأمريكى جو بايدن ونتنياهو، وإعلان معونات أمريكية عاجلة إلى تل أبيب، وإرسال حاملة طائرات إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، والعمل على تعزيز أسراب الطائرات المقاتلة فى المنطقة، ورفض واشنطن فتح جبهات مواجهة جديدة أو تحريك الجبهة فى الضفة الغربية أو لبنان، فقد أسهمت من جانب آخر فى طرح تساؤلات حقيقية عن القدرات العسكرية لإسرائيل فى مواجهة الفصائل الفلسطينية، وتناقضها الواضح مع حديث الجهوزية العسكرية، والقدرات الاستخباراتية الإسرائيلية، والإعلان فى مرحلة التصعيد مع حزب الله حول قضية الخيمة عن قدرتها على إعادة لبنان إلى العصر الحجرى، أو تحويل غزة إلى ركام كما قيل على هامش طوفان الأقصى.
بهذا، توظف الرواية الإسرائيلية القائمة على التهديدات الوجودية فى تحقيق أهداف سياسية داخلية تتمثل فى تمتين الجبهة الداخلية والتجاوز عن انتقاد نتنياهو وحكومته والدفع نحو التوحد فى مواجهة الحرب على خلفية المخاوف من مستقبل لا يتم فيه القضاء على حماس. كما تُوظف تلك الرواية خارجيا من أجل الحصول على الدعم الغربى المادى والمعنوى فى مواجهة انتهاك الحقوق والحريات الخاصة بالشعب الفلسطينى وخاصة بعد أن عدَّت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلى يوآف غالانت، عن حرمان الفلسطينيين فى غزة من الغذاء والكهرباء، مقززة وعقابا جماعيا يمثل جريمة حرب تعرض حياة ٢,٢ مليون فلسطينى يعيشون تحت الحصار الإسرائيلى "الساحق وغير القانونى" للخطر.
الخلاصة:
يتسم المشهد الفلسطينى - الإسرائيلى بالتعقيد، وفى حين من السهل معرفة بداية طوفان الأقصى، فمن الصعب معرفة حدود الطوفان وقدرة الامتداد وفرص التهدئة. وبالمثل فى حين يسهل معرفة بداية حرب السيوف الحديدية، فمن الصعب معرفة حدود امتداد تلك السيوف، والخسائر البشرية والمادية التى يمكن أن تترتب عليها. فى الوقت نفسه، ووسط "الطوفان والسيوف"، تسيطر فكرة التهديدات الإقليمية التى يمكن أن تسهم الأوضاع على ساحة غزة، وانعكاساتها المحتملة على الساحات الأخرى وخاصة ساحة لبنان، فى حدوثها بكل ما لها من انعكاسات على دول الإقليم وأمنه واستقراره.
وعلى الرغم من الحديث عن محاولات عقد صفقات تبادل أسرى مقيدة، النساء الرهائن من الجانب الإسرائيلى مقابل الأسيرات الفلسطينيات فى السجون الإسرائيلية، فإن فشل تلك المقترحات فى الوقت الحالى يظل مسيطرا ومتوقعا فى ظل حاجة إسرائيل إلى تجاوز فكرة الهزيمة وتآكل الردع، والحاجة إلى تحقيق مشهد انتصار عسكرى وسياسى. وفى ظل ما لدى الفصائل، بدورها، من أسرى ورهائن إسرائيليين، والحاجة إلى عقد صفقة تبادل للأسرى بوصفها ضرورة وطنية وفصائلية، والحاجة إلى تحسين أوضاع القطاع وفك الحصار واستكمال جهود الإعمار، يظل من الصعب على الفصائل القبول بفكرة تهدئة بطعم التراجع.
فى مواجهة تلك التحديات، تظل التطورات رهنا بمواقف الأطراف الإقليمية والدولية، وقدرتها على فرض الرشادة والعقلانية على مشهد الحرب والتصعيد. كما تتوقف على الدور المصرى فى ظل وضعيته الخاصة فى قضية الوساطة، ودور مصر فى إعادة إعمار القطاع، وعلاقتها الاستراتيجية والجغرافية التى تجعل ما يحدث فى غزة قضية أمن قومى كما هى قضية وطنية، وجزء من موقف مصر الثابت فى دعم الحق الفلسطينى والالتزام بحل الدولتين.