فى الخامس من يونيو 1967، استيقظ المصريون على هجوم إسرائيلى، تحقق بعده هزيمة واستيلاء على المزيد من الأراضى العربية فى سيناء، وفلسطين، والجولان السورية. استهدف الهجوم الإسرائيلى كسر إرادة المصريين وإفقادهم الثقة بالقيادة السياسية، وهدم التجربة التنموية والدور الريادى المصرى فى القارة الإفريقية والوطن العربى، وتحقيق هدف أسمى يتمثل فى تقويض قدرات الجيش المصرى الأكبر فى الإقليم وهدم معنويات أفراده المقاتلين.. فهل نجحت إسرائيل فى تحقيق أهدافها مع المصريين؟
بكل يقين، ومع التسليم واقعيًا بتمكن إسرائيل من الاستيلاء على الأراضى العربية فى فلسطين والجولان وسيناء، ورغم الإدانة المستمرة العادلة له من منظمة الأمم المتحدة، سواء على مستوى الجمعية العمومية أو مجلس الأمن، ومع كل ما ترتب على ذلك من آثار، فلا تزال الدول العربية تستند إليه كمطالب مشروعة صاغتها فى المبادرة العربية للسلام، التى تكتسب شرعيتها من قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة فى هذا الشأن. إلا أن هذا الأمر لم يفلح كثيرًا مع الشعب المصرى العظيم ومؤسساته، وعلى رأسها المؤسسة الأشرف القوات المسلحة المصرية، حيث استطعنا استيعاب النكسة سريعًا بكل ما فرضته من مرارة وتحديات على الدولة المصرية، فقد بدأت بعدها ملحمة إعادة بناء القوات المسلحة التى كُلف بها الفريق أول محمد فوزى، وهى ملحمة متكاملة لم تشمل فقط إعادة التدريب ورفع الكفاءة، ولكن شحذ الروح المعنوية، والاستعانة بخريجى الجامعات للخدمة فى الأسلحة التى تحتاج إلى معرفة علمية. بلغت الشخصية المصرية ذروة الإيجابية فى حرب الاستنزاف التى استمرت 6 سنوات تقريبًا، استطاعت فيها القوات المسلحة المصرية أن تتخطى حاجز الهزيمة التى مُنيت بها وحولتها إلى نكسة وعبرة فى التاريخ، وذلك بعد أن تمكنت قواتنا المسلحة من عبور الحاجز المائى لقناة السويس واقتحام خط بارليف فى حرب السادس من أكتوبر، تلك الحرب التى ستظل عنوانًا للعزة والكرامة. مثّلت هذه الخطوات الجسور لحرب الاستنزاف المقدمة الضرورية لحرب أكتوبر التى شنتها القوات المسلحة المصرية ضد القوات الإسرائيلية المحتلة لأرضنا الطاهرة فى سيناء، بعد أن نجحت فى تحقيق معجزة فنية وعسكرية وعبور قناة السويس، وتحطيم خط بارليف الذى صورته إسرائيل ووسائل الإعلام الدولية منيعًا.
يحضرنا هنا تصريح للدكتور فاروق الباز، مدير مركز الاستشعار عن بعد فى جامعة بوسطن، قال فيه: «إن حرب السادس من أكتوبر لعام 1973 أفضل حدث فى حياته، مشيرا إلى أنه كان شاهدا على ثورة يوليو وحرب اليمن ونكسة 1967، غير أن أكتوبر 73 وما حققته الدولة المصرية من انتصارات أثبتت تمكن مصر من إعادة أرضها، لافتا إلى أن الحرب إعادة للشخصية المصرية والكرامة للشعب». فى السياق ذاته، قالت الكاتبة فريدة الشوباشى: «إنه لا توجد دولة فى العالم لم تتعرض لهزيمة. منذ 9 يونيو مساء، نزلنا بالملايين، هزمنا الهزيمة بعد النكسة بأيام، ولولا ذلك لما تمكنا من القيام بحرب الاستنزاف وتحقيق النصر والعبور».
من هنا، خاضت مصر حرب الاستنزاف، تلك التى مهدت عبر تخطيط بارع للقوات المسلحة لحرب أكتوبر 1973، لتكون حربًا شاملة، لها أهداف استراتيجية حاسمة، بحيث تقلب الموازين فى المنطقة وتهدم نظريات الطرف الآخر «إسرائيل» ودعائم استراتيجيتها، وتمتد زمنيًا لفترة تتيح تدخل الطاقات العربية الأخرى، بشرط نجاح قواتنا مع بدايتها بما يفرض ثقلًا للمفاوض المصرى فى نتائج ما بعد الحرب، وهى أمور تحققت كلها على أرض الواقع، حيث غيرت الحرب من التكتيكات والاستراتيجيات العسكرية على المستوى الدولى، واتبعت كثير من القوى العسكرية الكبرى التكتيكات التى نفذتها الأفرع الرئيسية لقواتنا المسلحة فى هذه الحرب. كما تمكنت مصر من تحقيق انتصارات دبلوماسية فى التفاوض بعد النصر العسكرى، وهو الأمر الذى يطابق كل نظريات الحروب الحديثة التى تكون فيها الدولة المنتصرة قادرة على فرض إرادتها ورؤيتها.
كانت الاعتبارات الرئيسية التى تأسست عليها الاستراتيجية العسكرية المصرية لحرب أكتوبر قد تركزت على الاستفادة من دروس هزيمة يونيو 1967، حيث لم تكن لدينا استراتيجية شاملة للدولة تحقق التوازن والتنسيق بين الهدف السياسى للدولة وقدرتها العسكرية. تمكنا من تدارك ذلك فى أثناء الإعداد والتخطيط لحرب أكتوبر 1973، حيث وضعت استراتيجية شاملة للدولة تلعب فيها القوات المسلحة الدور الرئيسى، وتؤيدها بقية مصادر وقوى الدولة الشاملة الأخرى. ولعل أبرز سماتها أن التحرك السياسى السليم القائم على الخداع الاستراتيجى هيّأ أنسب الظروف المحلية والإقليمية، وأيضا العالمية، لبدء العمل العسكرى واستغلال نتائجه فى المفاوضات بعد انتهاء العمليات العسكرية. تجلت السمة الثانية فى هدم نظرية الأمن الإسرائيلى، التى كانت تعتمد على الردع المادى، والردع النفسى، والاحتفاظ بالحدود الآمنة على خط قناة السويس، حيث اعتمدت إسرائيل فى تطبيق هذه النظرية على عدة عناصر قوية، كان علينا أن نتغلب عليها ونبطل تأثيرها. تطلب ذلك اتخاذ قرار الحرب بمبادأة من جانبنا باستخدام القوة المسلحة، حيث إن ذلك يعنى تحديًا عمليًا لأسلوب الردع النفسى.
كما كان الانتقال من حرب الاستنزاف إلى شن هجوم شامل يعنى أيضًا هدم أسلوب الردع المادى. وقد تطلب الأمر هدم اقتناع الجانب الآخر بالاحتفاظ بالحدود الآمنة مع مصر وعلى جبهة قناة السويس بالتحديد. لذا، قمنا باختراق وتدمير خطوطه وتحصيناته الدفاعية على هذه الجبهة، مهما تستند إلى موانع طبيعية أو صناعية، ومهما يكلفنا ذلك من تضحيات. من هنا، جاءت السمة الثالثة التى عملنا فيها على حرمان القوات الإسرائيلية من مزايا توجيه الضربة الأولى، وأن نبدأ نحن بتوجيهها والاستفادة من مزايا المبادأة والمفاجأة، فى الوقت نفسه، بهدف شل فاعلية القوات الجوية الإسرائيلية المتفوقة وإضعافها بإنشاء منظومة دفاع جوى قوى مرتكز على حائط الصواريخ، بالتعاون مع القوات الجوية، وكذلك شل فاعلية القوات المدرعة الإسرائيلية فى المرحلة الافتتاحية للحرب، التى أعدتها إسرائيل لتدمير قواتنا إذا نجحت فى اقتحام قناة السويس بقوات المشاة. كذلك، عملت المدرعات المصرية وباقى الأسلحة والمعدات الثقيلة التى عبرت على المعديات والكبارى، التى بدأ تشغيلها فى آخر ضوء من اليوم الأول للعبور، على عرقلة وصول الاحتياطيات الإسرائيلية من العمق، وتشتيت جهودها، وبث الذعر فى خطوط مواصلاتها بواسطة قوات الصاعقة خلف الخطوط.
الشخصية المصرية:
ليس من شك فى أن الأداء البطولى للقوات المسلحة فى حرب أكتوبر، وما برز للعالم كله من فاعلية الجندى المصرى وجسارته، بالإضافة إلى التخطيط العلمى الدقيق الذى سبق الحرب، قد أدى إلى تغيير ملموس فى تقييم الشخصية المصرية لدى العديد من الكتاب والمفكرين. وقد أدى ذلك إلى الحديث عن إيجابيات الشخصية المصرية بعد أن طالتها سهام النقد الجارحة، التى يعود بعض الحاقدين لاستخدامها هذه الأيام. وهو أمر لو سلمنا بحسن النية فيه، فإنه ينتج عن منهج تجزيئى معيب فى النظر للشخصية الوطنية المصرية بعيدًا عن سَمتها الهوياتى، والتاريخى، والثقافى، والجغرافى الذى تشكلت فيه، وأكسبنا هوية مصرية قادرة على استيعاب إيجابيات ثقافات وحضارات الآخر ولفظ سلبياتها.
إن الشخصية المصرية ليست قالبًا جامدًا يتضمن عددًا من السمات الحضارية والنفسية «الغريزية»، التى لا تتغير ولا تنال منها رياح الزمان، بل إنها -فى التحليل العلمى الدقيق- تعد انعكاسًا لنمط تفاعلات المجتمع مع محيطه، مضافًا إليها بعد أساسى ومهم هو البعد الحضارى، الذى يمتد فى الزمان بصورة تجعلها مستعصية كثيرًا على التحليل، فهى شخصية تأتى بالمعجزات وقتما يظن الجميع أن الموت سكنها.
ويمكن القول إن الشخصية المصرية استيقظت من سباتها الطويل. فرغـــم المحـــن والنكسات والأزمات التى عرفها الإنسان المصرى على مدى آلاف السنين، فإن إرادته لا تموت ويعود إليه شـبابه وحيويته، فنجده يكسـر أغلال الانكسار ويعود مجددًا ليقف فى صمود تحت راية النصر، ولم تكن نكسة يونيو 1967 استثناء من هذه القاعدة. فبعدما قال المراقبون إنها هزيمة بلا عودة، لأمة خرجت من مسار حركة التاريخ وصراع الأمم، كانت المشاهد قاسية والنتائج فادحة بحجم الأحلام الكبيرة التى عاشتها الأمة، لكن المصريين لا يعرفون الانكسار فخرجوا فى مظاهراتهم الحاشدة يطالبون الرئيس جمال عبدالناصر بتحمل المسئولية كاملة، وهو ما تم بالفعل وبسرعة، حيث اندلعت حرب الاستنزاف البطولية، وتمكنت القوات المصرية من تحقيق الانتصارات عبر عمليات نوعية فى عمق العدو، وتم بناء حائط الصواريخ، ثم تكلل كل هذا بانتصار أكتوبر 1973، الذى أثبت أن مصر قادرة بشعبها على تحقيق النصر.
الشخصية المصرية حقيقة اعترف بها المفكر الكبير جمال حمدان فى كتابه «شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان»، إذ يقول: «والذى نراه هو أننا إزاء حالة نادرة من الأقاليم والبلاد، من حيث السمات والقسمات التى تجتمع فيها، فكثير من هذه السمات تشترك فيه مصر مع هذه البلاد أو تلك، ولكن مجموعة الملامح ككل تجعل منها مخلوقًا فريدًا فذًا، فهى بطريقة ما تكاد تنتمى إلى كل مكان دون أن تكون هناك تمامًا. وبهذا، فإنها تكاد تأخذ من كل طرف تقريبًا بطرف، أى تأخذ بالحد الأدنى -على الأقل كميًا- من الحد الأقصى من الحالات والسمات، بصورة تؤكد فيها ملكة الحد الأوسط وتجعلها سيدة الحلول الوسطى، تجعلها أمة وسطًا بكل معنى الكلمة، بكل معنى الوسط الذهبى، ولعل فى هذه الموهبة الطبيعية سر بقائها وحيويتها على مر العصور ورغمها». لعل هذه الشخصية كانت أهم أسس حرب أكتوبر على المستوى الداخلى، حيث تعمّق التخطيط العلمى والعملى للحرب مع العدو، وكان على مستوى عالٍ ودقيق. فقد استطاعت القوات المسلحة المصرية فى الأيام الأولى للمعركة أن تحقق هدفًا استراتيجيًا لا يختلف عليه أحد، هو «كسر النظرية الأمنية الإسرائيلية».
كما حقق الجيش المصرى، إلى جانب الانتصار الاستراتيجى، انتصارًا آخر على مستوى العمل العسكرى المباشر متمثلًا فى «عملية العبور التى اكتسحت مانعًا مائيًا ضخمًا -خط بارليف- فى 6 ساعات»، ثم دخلت لعدة أيام فى معارك بالمدرعات والطيران، وأمّنت لنفسها عدة رءوس جسور داخل سيناء، وألحقت بالعدو خسائر وصلت إلى ربع طائراته وثلث دباباته تقريبا خلال أسبوع واحد من القتال. داخليًا أيضًا، وعلى مستوى الجندى المصرى، فجّرت الحرب والظروف التى نشبت فيها طاقة إنسانية لم يكن أحد يحسب لها حسابًا، أو يخطر بباله أنها موجودة على هذه الدرجة من الاقتدار والبطولة عند الجندى والضابط المصرى. وزادت الحرب من تماسك الجبهة الداخلية ورفضها للتدخل الأجنبى، والإسهام فى دفع عملية الاقتصاد «المجهود الشعبى» خطوات للأمام، وإحساس الناس بالوحدة والتضامن بعد طول صبر على الاحتلال حتى تحقق النصر.
أما على المستوى العربى، فقد أعاد نصر أكتوبر للشارع العربى ثقته بذاته، بعد أن كانت تجتاحه حالة من الإحباط الشديد إثر هزيمة 1967، التى رافقها العديد من المظاهر الاجتماعية السلبية فى الوطن العربى. من النتائج أيضًا أن المواقف العربية خلال الحرب بلورت ملامح عصر عربى جديد تتحد فيه كلمتهم ضد العدو. وفى الحرب، استُخدمت كل الأسلحة من مشاركة لقوات عربية من دول شقيقة فى العمليات، إلى اقتصادية عبر استخدام سلاح النفط، إلى سياسية عبر توحيد المواقف وحشد الرؤى الدولية الداعمة للحقوق العربية. كانت هذه المواقف وراء إعادة تخطيط علاقات القوى الكبرى بالدول العربية على المستوى البعيد، وهو ما أثر فى التفاعلات العربية-العربية وجعلنا ندفع اليوم ثمنًا لاستهداف دول الوطن العربى، عبر مخططات لإنهاك اقتصاداته، وتدمير مجتمعاته أخلاقيًا وسلوكيًا، عبر مخططات استهدفت دول المواجهة الرئيسية فى العراق وسوريا وليبيا والسودان، تلك المخططات التى حاولوا أن تشمل مصر، وتصدى لها مجددًا الشعب المصرى، صاحب الشخصية الفريدة، وأبناؤه فى القوات المسلحة الشريفة الذين استجابوا لمطالبه، وحققوا عبورًا جديدًا فى ثورة الثلاثين من يونيو، أعادوا من خلاله رسم خريطة التفاعلات الإقليمية مع القوى الدولية بقيادة مصرية تُعلى من القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية للقانون الدولى.
اعتراف إسرائيل بالهزيمة:
غيّرت حرب أكتوبر الفكر العسكرى الحديث، وأصبحت عملية العبور مرجعًا أساسيًا لكل الجيوش العالمية الحديثة. ويصف المؤرخ العسكرى البريطانى، إدجار أبولانس، عملية العبور: «بأنها كانت معجزة عسكرية مكتملة الأركان». ولأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، فقد كان لزامًا توفير سلاح متطور حديث مع تنظيم وتدريب القوات بشكل جيد ومتواصل، وتعبئة الجبهة الداخلية فى شتى المجالات من أجل معركة تحرير الأرض وإزالة آثار العدوان. ففى سبتمبر 1968، قررت مصر التحول إلى استراتيجية جديدة والانتقال بالجبهة من مرحلة الصمود إلى مرحلة جديدة من المواجهة العسكرية، أطلق عليها مرحلة «الدفاع النشط» بهدف استنزاف القدرات العسكرية الإسرائيلية. كانت الانطلاقة بالانخراط المباشر فى الحرب مع العدو على مدى ثلاث سنوات ونصف السنة، إلى أن اكتمل الاستعداد لخوض معركة الاقتحام المجيدة فى السادس من أكتوبر 1973. كانت حرب الاستنزاف حرب المعجزات، لأنها استمرت نحو ست سنوات ما بين عمليات عسكرية وعمليات مخابراتية متواصلة، تلقت فيها إسرائيل ضربات موجعة من الجيش المصرى. كما كانت حرب الاستنزاف أول صراع مسلح يضطر فيه العدو للاحتفاظ بنسبة تعبئة عالية ولمدة طويلة، وهو ما ترك آثاره السلبية على معنويات الشعب والجيش الإسرائيلى واقتصاد الدولة، بدرجة لم يسبق لها مثيل فى الحروب السابقة، خاصة أن قادة العدو كانوا قد وعدوا شعبهم بأن جولة 1967 هى آخر الحروب، فإذا بالاستنزاف يتصاعد ويحطم مصداقية القادة فى نظر الشعب. كانت حرب أكتوبر معركة أسلحة مشتركة، قدمت مقطوعة متناغمة وابتكرت تكتيكات غيّرت الكثير من المفاهيم العسكرية، حيث استطاع سلاح المهندسين أن يلفت انتباه العالم بمعجزة العبور، التى شملت فتح الثغرات فى الساتر الترابى بطريقة شديدة البساطة، وبناء الكبارى، وعبور الدبابات والأسلحة الثقيلة، وقالت الصحافة العالمية حينها إن «المهندسين المصريين استطاعوا بناء الكبارى لعبور قناة السويس، وإن عملية المرور فيها سلاسة أكثر من شوارع القاهرة».
بدأت الملحمة، بعد حرب 67 مباشرة، ببناء دُشم حصينة لحماية الطائرات من ضربها على الأرض، وأدركت القيادة السياسية أهمية الصواريخ المضادة للطائرات. وخلال حرب الاستنزاف، سطر المقاتل المصرى سطورًا مضيئة. وللتعبير عن حجم الإنجاز الذى تحقق ببناء «حائط الصواريخ»، قالت جولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك: «مواقع الدفاع الجوى المصرى كعش الغراب المشئوم، كلما دمرنا أحدها نبت آخر بدلًا منها»، فى إشارة إلى إرادة وتصميم المصريين على استكمال حائط الصواريخ، حيث اختلت موازين القوى فى المنطقة، واستطاع الحائط بعد تحريكه أن يوفر بكامل طول قناة السويس، وبعرض من 12 إلى 15 كيلو مترا شرق القناة، شريط الحماية الجوية اللازمة لعبور الأفراد والأسلحة الثقيلة.
يقول الفريق سعد الدين الشاذلى، رئيس الأركان الأسبق، فى مذكراته عن الحرب: «إن الجيش المصرى حاول استخدام عدة وسائل لفتح الثغرات فى الساتر الترابى، مثل المدفعية الثقيلة والديناميت، إلا أن نتائج التجارب لم تكن مبشرة». جاءت إجابة تلك المعضلة من أحد الضباط المصريين الذين عملوا فى بناء السد العالى، حيث اقترح فتح الثغرات باستخدام مضخات المياه، وأجرى سلاح المهندسين تجربة على تلك الفكرة وكانت النتائج مذهلة، وأثبتت جدارتها فى الحرب الفعلية، حيث استطاع سلاح المهندسين فتح 70 ثغرة فى الساتر الترابى بكل منها 1500 متر مكعب، خلال سويعات قليلة، وبعدها مباشرة قام سلاح المهندسين ببناء 10 كبارى ثقيلة لنقل وعبور الدبابات والمدافع والمعدات الثقيلة، و5 كبارى خفيفة، حتى يمكنها أن تجتذب نيران العدو، وبالتالى تخفف من هجوم العدو على الكبارى الرئيسية، وهى مشابهة للكبارى الثقيلة، ولكن حمولتها 4 أطنان فقط، وكذلك 10 كبارى اقتحام لعبور المشاة، وتجهيز وتشغيل 35 معدية نقل عبر القناة، وتم كل هذا تحت قصف أسلحة العدو. وبعون من الله، تم اقتحام خط بارليف، أكبر مانع مائى فى التاريخ، وانتصرت القوات المصرية.
وقد أذهلت تلك العبقرية العسكرية الإسرائيليين لدرجة أن «جولدا مائير»، رئيسة وزراء إسرائيل، قالت: «ليت الأمر اقتصر على أننا لم نتلق إنذارًا فى الوقت المناسب، بل إننا كنا نحارب على جبهتين فى وقت واحد، ونقاتل أعداء كانوا يعدون أنفسهم للهجوم علينا من سنين». كما قالت: «سأظل أحيا بهذا الحلم المزعج لبقية حياتى، ولن أعود الإنسانة نفسها مرة أخرى التى كانت قبل الحرب». وفى مذكراته حول حرب أكتوبر، قال، «حاييم هيرتزوج»، رئيس دولة إسرائيل الأسبق: «لقد تحدثنا أكثر من اللازم قبل السادس من أكتوبر، وكان ذلك يمثل إحدى مشكلاتنا، فقد تعلم المصريون كيف يقاتلون، فيما تعلمنا نحن كيف نتكلم. لقد كانوا صبورين، كما كانت بياناتهم أكثر واقعية منا، كانوا يقولون ويعلنون الحقائق تمامًا هذه المرة حتى بدأ العالم الخارجى يتجه إلى الثقة بأقوالهم وبياناتهم». وفى ندوة عن حرب أكتوبر بالقدس فى 16 سبتمبر 1974، قال الجنرال الإسرائيلى «يشيعيا جافيتش»: «إنه بالنسبة لإسرائيل، ففى نهاية الأمر انتهت الحرب دون أن نتمكن من كسر الجيوش العربية، ولم نحرز انتصارات، ولم نتمكن من كسر الجيش المصرى أو السورى على السواء، ولم ننجح فى استعادة قوة الردع للجيش الإسرائيلى. إننا لو قيّمنا الإنجازات على ضوء الأهداف، لوجدنا أن انتصار العرب كان أكثر حسمًا، ولا يسعنى إلا الاعتراف بأن العرب قد أنجزوا قسمًا كبيرًا للغاية من أهدافهم، فقد أثبتوا أنهم قادرون على التغلب على حاجز الخوف، والخروج إلى الحرب والقتال بكفاءة، وقد أثبتوا أيضا أنهم قادرون على اقتحام مانع قناة السويس. ولأسفنا الشديد، فقد انتزعوا القناة من أيدينا بقوة السلاح». أما صاحب كتاب «إسرائيل.. انتهاء الخرافة» «آمنون كابيليوك»، فقد قال: «تقول الحكمة البريطانية: كلما كان الصعود عاليًا، كان السقوط قاسيًا. ففى السادس من أكتوبر، سقطت إسرائيل من أعلى برج السكينة والاطمئنان الذى كانت قد شيّدته لنفسها، وكانت الصدمة على مستوى الأوهام التى سبقتها قوية ومثيرة، وكأن الإسرائيليين قد أفاقوا من حلم طويل جميل لكى يروا قائمة طويلة من الأمور المسلم بها والمبادئ والأوهام والحقائق غير المتنازع عليها، التى آمنوا بها سنوات عديدة، وقد اهتزت، بل وتحطمت فى بعض الأحيان أمام حقيقة جديدة غير متوقعة وغير مفهومة بالنسبة لغالبية الإسرائيليين. ومن وجهة نظر الإسرائيلى العادى، يمكن أن تحمل حرب أكتوبر أكثر من اسم، مثل «انهيار الأساطير» أو «نهاية الأوهام» أو «موت الأبقار المقدسة». فيما كشف «ناحوم جولدمان»، رئيس الوكالة اليهودية الأسبق، فى كتابه «إلى أين تمضى إسرائيل» عن: «أن من أهم نتائج حرب أكتوبر 1973، أنها وضعت حدًا لأسطورة إسرائيل فى مواجهة العرب، وأحدثت تغييرًا جذريًا فى الوضع الاقتصادى. ومن أهم النتائج الأكثر خطورة تلك التى حدثت على الصعيد النفسى، حيث انتهت ثقة الإسرائيليين بتفوقهم الدائم». وقالت صحيفة جيروساليم بوست الإسرائيلية: «إن الدفاع الجوى المصرى المضاد للطائرات يتمتع بقوة لم يسبق لها مثيل فى تاريخ الحروب، وتفوق تلك التى واجهها الأمريكيون فى فيتنام، مشيرة إلى أنه قد حدثت إساءة تقدير كبيرة من جانب الإسرائيليين بالنسبة لفاعلية الدفاعات المصرية وقدرة المصريين على عبور القناة». وأشار «موشى ديان»، وزير الدفاع الإسرائيلى، إلى: «أن حرب أكتوبر كانت بمنزلة زلزال تعرضت له إسرائيل، ولم نملك القوة الكافية لإعادة المصريين للخلف مرة أخرى، فقد استخدم المصريون الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات بدقة شديدة». وقال تعليقا على وجود أسلحة دفاع جوى جديدة لدى مصر: «كان الجيش الإسرائيلى يعلم بوجود هذه الأسلحة لدى مصر، ولكن استخدام قوات الدفاع الجوى المصرى لها بكفاءة عالية هو ما لم نكن نعلمه».
الانتصار المصرى:
لعل أهم نتيجة استراتيجية للحرب هى تنفيذ الهدف الأساسى للرئيس السادات، بطل الحرب والسلام، وهو إنهاء حالة اللاحرب واللاسلم فى الشرق الأوسط. من ناحية أخرى، كانت الحرب صدمة نفسية قاسية للشعب الإسرائيلى، فقد أدرك الإسرائيليون أن قواتهم يمكن أن تُقهر، وانتهت الحرب بتوقيع اتفاقية فك الاشتباك فى يناير1974، حيث وافقت إسرائيل على إعادة مدينة القنيطرة لسوريا والضفة الشرقية لقناة السويس لمصر، مقابل إبعاد القوات المصرية والسورية من خط الهدنة وتأسيس قوة خاصة للأمم المتحدة لمراقبة تحقيق الاتفاقية. تم استرداد السيادة الكاملة على قناة السويس، وجميع الأراضى فى شبه جزيرة سيناء، واسترداد جزء من مرتفعات الجولان السورية، ومهدت الحرب الطريق لاتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل فى سبتمبر 1978 م، وتم استرداد طابا عن طريق التحكيم الدولى فى 19 مارس 1989.
هذه النجاحات الدبلوماسية ترسخ لتفوق الكفاءات الدبلوماسية والقانونية والعسكرية المصرية على كل المناورات التى قام بها الفريق الإسرائيلى. وأبرزت اتفاقية التحكيم الدولى بشأن طابا هذه الجهود، حيث تمكن الفريق المصرى أن يسبق منافسه إلى كل مكان فى العالم يحتفظ بنسخ ووثائق تتعلق بموضوع النزاع، ما أدى إلى حسمه لمصلحة مصر، وحرم إسرائيل من أى وجود حقيقى بمنطق الجغرافيا السياسية فى البحر الأحمر، وهو الأمر الذى يجب أن نضعه دائمًا فى الحسبان كأحد دروس التاريخ. فتوسيع مساحة الأرض، التى تطل من خلالها إسرائيل على خليج العقبة، سيظل هدفًا دائمًا لإسرائيل. كذلك، أكد النجاح المصرى فى اتفاقية التحكيم بشأن طابا بُعد نظر متخذى وصناع القرار المصرى فى التوجه نحو السلام منذ اتفاقية كامب ديفيد، التى جعلت السلام خيارًا استراتيجيًا، وتبنى الحوار وعدم اللجوء لتسوية النزاعات عسكريًا أحد المبادئ الرئيسية للسياسة الخارجية المصرية.
إن القوات المسلحة المصرية تدرك جيدًا مفهوم الأمن القومى الشامل، وأهمية المحافظة عليه وحمايته فى كل المجالات. لذا، كان الدور المهم الذى لعبته منذ عام 2011 فى التصدى لمحاولات هدم الدولة، باعتبار أبنائها نتاجًا طبيعيا من مجمل مكونات الشعب المصرى، متشبعين بكل ما اكتسبته الشخصية المصرية من سمات على مدار التاريخ. من هنا أيضًا، تأتى عبقرية ثنائية مكافحة الإرهاب والمشاركة فى عملية التنمية الشاملة للدولة. ففى الوقت الذى كانت فيه القوات المسلحة المصرية تقوم بتنفيذ عملياتها العسكرية فى سيناء لتطهيرها من العناصر الإرهابية، نجدها تسهم بفاعلية كبيرة فى إعادة بناء الدولة المصرية من خلال تنفيذ المشروعات القومية الكبرى التى تضع مصر على خريطة الاستثمار العالمية، وفتح مجالات وفرص عمل جديدة للشباب، وكذلك الإسهام فى تخفيف العبء عن كاهل المواطنين.
ومنذ ثورة 30 يونيو الشعبية العظيمة عام 2013، التى عُدَّت عبورًا جديدًا، أخذت القوات المسلحة المصرية على عاتقها إعادة بناء الدولة مرة أخرى، والإسهام فى التنمية الشاملة، بانحياز جيش مصر الوطنى مجددًا لمطالب الشعب والقيام بحمايته. فكما حمى الجيش المصرى إرادة قطاعات من الشعب فى أثناء 25 يناير، فقد احترم الإرادة الشعبية الجامعة فى 30 يونيو، واجتمع مع القوى السياسية والشبابية، وممثلى الأزهر والكنيسة، لإعلان خريطة المستقبل فى 3 يوليو، التى أسست لمرحلة جديدة نفخر بأن نطلق عليها الجمهورية الجديدة، وأن يكون مؤسسها الرئيس السيسى، جمهورية جديدة استطاعت، عبر مبادئ راسخة فى سياستها الخارجية، أن تستعيد مكانة مصر الإقليمية والدولية، وأن تعيد مصر لاعبًا مؤثرًا فى دوائر سياستها الخارجية الرئيسية، بل وأن تعيد ابتكار دوائر جديدة من قلب الدوائر التقليدية، تفعّل من خلالها ثقل دورها.
هكذا، سيظل نصر السادس من أكتوبر ورجال القوات المسلحة مبعث اعتزاز وفخر، وستظل ذكريات وبطولات النصر تتوارثها الأجيال، جيلًا بعد جيل، توضح وتظهر مدى عبقرية وشجاعة المقاتل المصرى الذى لقن الإسرائيليين والعالم درسًا لن ينسوه فى فنون القتال والتخطيط والخداع الاستراتيجى، فتحية لكل شهداء مصر الأبرار من رجال القوات المسلحة على مدار التاريخ وفى كل معاركنا، الذين ضحوا بأرواحهم الطاهرة ودمائهم الزكية فداء لمصر، وحفاظًا على أمن أراضيها واستقرار وسلامة شعبها.
ختامًا، تمثل حرب أكتوبر 1973 ملحمة شعب، تراكمت لديه قيم خالدة مكّنته من إطلاق قدرات بلا حدود، أبهرت العالم، وأثبتت أن الشخصية المصرية وقتما يتوقع الجميع لها الانكسار أو يتوهمون أنهم قد تمكنوا منها، تمثل جوهر التحول والعودة بمصر لمكانتها الريادية بين الأمم، وأن التحولات التى أفرزتها حرب أكتوبر فى سياسة مصر الخارجية قد تحولت مع الوقت إلى ثوابت رئيسية لا تحيد عنها مؤسسات الدولة، متمسكة فى ذلك بالقوانين والقواعد التى صاغتها الشرعية الدولية، ممثلة فى منظمة الأمم المتحدة، ومعلية من المبادئ الإنسانية وقواعد القانون الدولى التى لا تحيد عنها الدبلوماسية المصرية فى تفاعلاتها مع مختلف القضايا الشائكة فى محيطها الإقليمى أو على الصعيد الدولي، مؤكدة مؤسسية صنع القرار بما يتفق مع كل ما سبق، ما يمكن فى النهاية متخذ القرار من أن يأخذ القرار الرشيد فى التوقيت المناسب بما يعلى من المصلحة الوطنية والقومية للدولة المصرية.
إن نصر أكتوبر لم يمثل علامة فارقة فى سياق استراتيجيات الحروب والتسليح العالمية، بل كانت له نتائج مهمة بلورت التحولات العقلانية الرشيدة التى تراعى حجم وموقع وتاريخ الدولة المصرية. ولا تزال نتائج هذه السياسات علامة مضيئة فى العلامة الوطنية لمصر، ومن أهمها مبدأ عدم الانحياز، والوقوف على مسافة واحدة من جميع القوى الإقليمية والدولية فى تفاعلاتها التعاونية والصراعية، ومبدأ عدم التدخل فى الشأن الداخلى للدولة الوطنية فى أى مكان فى العالم ومنح شعوب هذه الدول حق تقرير مصيرها، ومبدأ التفاوض والحل السياسى كأداة لحل النزاعات قبل أن تتحول لصراعات مسلحة مع التدخل السريع وقتما أمكن للحد من ذلك، وإيجاد مختلف الأدوات التى تساعد على تحقيق هذا الاقتراب، والتأسيس لدبلوماسية نشطة متعددة المستويات تحقق الوجود المصرى الفعال فى القضايا المصيرية المستجدة على أجندة المجتمع الدولي، وعلى رأسها التحديات البيئية والمجتمعية والاقتصادية وفقًا لمنظور مصرى متكامل تمت صياغته برؤية مصرية وطنية خالصة، وإعلاء مبدأ المكسب للجميع كأداة لتحقيق العدالة فى إدارة التفاعلات بين الشمال التقدم ودول الجنوب النامية، ومبدأ الحفاظ على الدولة الوطنية ومؤسساتها، وعلى رأسها الجيوش الوطنية التى تعد فى المنظور المصرى للتنمية قاطرة التنمية والدرع الواقية من أى تهديدات وكوارث طبيعية أو نتيجة لتفاعلات الأزمات الدولية الاقتصادية والعسكرية، ومبدأ التمسك بقواعد القانون الدولى والاتفاقيات المبنية عليه كآليات رئيس فى تسوية أى نزاعات مهما تكن طبيعتها، ومبدأ رفض التدخل العسكرى كأداة لتسوية الصراع داخليًا أو بين الدول.
وفى وسط كل ذلك، تظل القضية الفلسطينية هى جوهر التحركات الدبلوماسية المصرية فى جميع المحافل الدولية واللقاءات التفاعلية الثنائية أو الجماعية، مرتكزة فى ذلك على قرارات الأمم المتحدة فى هذا الشأن، وعلى المبادرة العربية للسلام كأدوات لا حَيْد عنها لتحقيق التسوية العادلة والشاملة واستعادة الحقوق الفلسطينية والعربية.
ستظل ثقتنا بأن هذا الشعب بأبنائه فى القوات المسلحة الذين عبروا هزيمة 67 وحولوها لنكسة عابرة، وحققوا نصر أكتوبر 73 بتمسكهم بعبقرية مكونات الشخصية المصرية، لقادرون دومًا على العبور بالدولة المصرية وتحقيق النصر فى كل مرة. ونشرف فى الذكرى الخمسين لنصر أكتوبر أن نقدم قسمًا خاصًا فى القسم الاستراتيجى والعسكرى يخلد لذكرى نصر لا يزال يمدنا حتى اليوم بدروس خالدة وبالشعور الدائم بالعزة والكرامة والفخر.