تتحدث تقارير دولية عديدة عن استعدادات إسرائيلية لتوجيه ضربة عسكرية موجعة لإيران، بل يؤكد بعضها أن العد التنازلى لهذه العملية ربما يكون قد بدأ بالفعل. ولأن هذا النوع من التكهنات تكرر كثيراً على مدى السنوات الثمانى الماضية، فمن الطبيعى أن يصبح عرضة للتشكيك وربما السخرية.غير أن إسرائيل ترى الأمر من منظور مختلف هذه المرة، فالوقت بالنسبة لها يمر، بينما برنامج إيران النووى يتقدم كل يوم خطوة جديدة نحو الأمام، ومع تقدمه تزداد إيران تصميماً، غير عابئة بعقوبات أو بتهديدات، والأنظمة العربية الموالية أو المعتدلة تتساقط الواحد تلو الآخر.
وإذا استمر الحال على هذا المنوال ومُنحت الشعوب العربية فرصة لإقامة نظم ديمقراطية، فستتمكن من اجتياز أهم عقبة كانت تحول فيما مضى دون حسم الصراع لصالحها، على الصعيد الاستراتيجى، وسيصبح سقوط المشروع الصهيونى حينئذ مسألة وقت. ولأن إسرائيل لا يمكنها أن تقبل أو تستسلم لهذا الاحتمال، مهما كان ضئيلاً، فعليها أن تحسم ترددها وأن تتحرك بسرعة لتوجيه ضربة ساحقة إلى إيران، رأس الأفعى!
هذا هو، فيما يبدو، منطق التفكير الاستراتيجى السائد الآن فى إسرائيل. وحتى لا نقع أسرى لتحليلات تقوم على أوهام سياسية أو أيديولوجية، ونبنى توقعاتنا على تقديرات وحسابات تتمتع بقدر من المصداقية، علينا أن نتذكر معاً منطق إسرائيل فى إدارتها صراعات وتفاعلات المنطقة، خاصة بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣، التى فاجأتها ولم تتحسب لها بالقدر الكافى، وكانت بمثابة زلزال أو كابوس أقسمت ألا يتكرر أبداً.
لقد كانت إسرائيل، ولاتزال، تنظر إلى كل دولة عربية أو إسلامية قوية باعتبارها خطراً واقعاً أو محتملاً، عليها أن تواجهه إن آجلا أو عاجلا. ولأنها لا تستطيع أن تطمئن إلى أى دولة لا تدور فى الفلك الأمريكى، فقد تعاملت مع كل دولة عربية أو إسلامية تسعى لتنمية مستقلة، وبناء قدرات ذاتية غير محكومة أمريكياً، باعتبارها مصدرا لتهديد أمنها يتعين إزالته، أيا كان شكل نظامها السياسى أو توجهاتها الأيديولوجية.
ووفقا لهذا المنطق تعاملت إسرائيل مع مصر القومية فى زمن عبدالناصر، ومع مصر الوطنية فى زمن السادات، ومع عراق صدام، وهو المنطق نفسه الذى تتعامل به اليوم مع إيران منذ ثورتها الإسلامية فى عام ١٩٧٩.
فعندما لم تفلح سياسة الاحتواء مع عبدالناصر، شنت عليه حرب ١٩٥٦، بالتواطؤ مع بريطانيا وفرنسا، وعندما فشلت شنت عليه منفردة حرب ١٩٦٧، وعندما نجح السادات فى شن حرب عام ١٩٧٣، بالتنسيق مع سوريا والعالم العربى كله، حرصت على ألا يتكرر ذلك أبدا، ولم يهدأ لها بال إلا بعد أن تمكنت من إخراج مصر من معادلة الصراع، بالتوقيع معها على معاهدة سلام منفرد فى زمن السادات نفسه، ولم تطمئن لمصر إلا حين أصبح مبارك «كنزاً استراتيجياً» لها، وبدأ يدور فى الفلك الأمريكى تماماً.
وحين تقدم عراق صدام ليحاول ملء الفراغ الذى تركته مصر فى النظام الإقليمى العربى، تم استدراجه إلى حرب طويلة المدى ضد إيران الإسلامية، استغرقت ثمانى سنوات، وبعد أن خرج منها سليما إلى حد ما نُصب له كمين فى الكويت أغراه بغزوها لتنقض عليه آلة الحرب الأمريكية فى النهاية وتحتله بعد أن تدمره وتتخلص من «صدام» بإعدامه. أما قصة الصراع مع إيران، التى بدأت منذ سقوط الشاه، فمازالت فصولها مستمرة، لم تصل إلى نهايتها بعد.
يخطئ من يتصور أن برنامج إيران النووى هو السبب الحقيقى وراء التصعيد الأمريكى ــ الإسرائيلى ضدها، فقد بدأ هذا البرنامج فى زمن الشاه، وحظى حينئذ بدعم قوى من الإدارة الأمريكية فى وقت كانت تعد فيه الشاه للعب دور شرطى المنطقة. السبب الحقيقى لهذا التصعيد هو الثورة الإسلامية نفسها، التى بدأ الصراع معها منذ اللحظة الأولى من اندلاعها، فقد أطاحت بنظام الشاه العميل، وأقامت نظاما إسلاميا يتبنى سياسات مناهضة للسياسات الأمريكية والإسرائيلية فى المنطقة، ويسعى لبناء إيران مستقلة ترفض الدوران فى الفلك الأمريكى.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكون طرد السفير الإسرائيلى من طهران وتسليم مقر السفارة الإسرائيلية إلى منظمة التحرير الفلسطينية هو أول قرار يتخذه النظام الإيرانى الجديد عقب نجاح الثورة. وحين يكون لنظام بهذه المواصفات برنامج نووى، حتى ولو كان نظام الشاه العميل هو من بادر به وسعى لتأسيسه، فمن الطبيعى أن تتعامل معه الولايات المتحدة وإسرائيل باعتباره نظاما معاديا يتعين تقويضه، فما بالنا إذا كان هذا النظام يتبنى أيديولوجية راديكالية ويصر على مواصلة الطريق إلى أن يتمكن من استيعاب التكنولوجيا النووية؟!
أظن أن من الطبيعى أن تتعامل الولايات المتحدة وإسرائيل مع نظام كهذا باعتباره العدو الأول فى المنطقة، وأن تعملا معا على إسقاطه حتى ولو كانتا على يقين كامل بأنه لا يسعى لامتلاك القنبلة النووية.
والواقع أن الحرب المعلنة على النظام الإيرانى منذ نجاح الثورة الإسلامية بدأت كحرب بالوكالة، فقد تم دفع صدام لشن الحرب عليها، بدعوى تحجيم قدرتها على تصدير الثورة، وتشجيع دول مجلس التعاون الخليجى على المشاركة فى تمويلها. وحين قرر الخومينى «تجرع كأس السم»، وقبل بقرار وقف إطلاق النار، تم التخلى عن «سياسة الاحتواء المزدوج» والحرب بالوكالة وجرى استبدال وسائل أخرى بهما، تعتمد على التدخل المباشر، لاحت فرصتها بعد ظهور بوادر تصدُّع ثم انهيار الاتحاد السوفيتى.
وإذا كانت الولايات المتحدة قد قررت البدء بالعراق، فلم يكن ذلك فقط لأنه صيد أسهل ولكن لحسابات تتعلق أيضاً بأمن إسرائيل، وللحيلولة دون قيام جبهة عربية قادرة على شن الحرب عليها بعد خروج مصر من معادلة الصراع، لكن أصبح من الثابت وثائقياً الآن أن إيران كانت الهدف التالى بعد الغزو الأمريكى للعراق واحتلاله، وقد أدى تعثر المخطط الأمريكى فى العراق، بسبب تصاعد المقاومة العراقية المدعومة إيرانيا، إلى إجبار الإدارة الأمريكية على تغيير استراتيجيتها للإطاحة بالنظام الإيرانى، فركزت جهودها على حلفاء إيران، خاصة حزب الله فى لبنان وحماس والجهاد فى فلسطين، وتكفلت إسرائيل بالتعامل مع هذا الملف، فشنت حربين متتاليتين على لبنان، عام ٢٠٠٦، وعلى غزة، نهاية عام ٢٠٠٨ وبداية عام ٢٠٠٩، غير أن نتائجهما لم تكن مرضية تماما.
فقد استطاع التحالف الإيرانى ــ السورى أن يكسب هذه الجولة من الصراع، خصوصا فى ظل المأزق العسكرى المتصاعد للولايات المتحدة فى كل من العراق وأفغانستان وانفجار أزمة مالية عالمية طاحنة، وكلها عوامل مهدت لتغييرات فى الداخل الأمريكى نفسه ساعدت على وصول باراك أوباما للبيت الأبيض. وقد لاحت لبعض الوقت احتمالات تناقض فى المصالح بين السياسات الأمريكية والإسرائيلية فى المنطقة، غير أنه سرعان ما تبين أن بوسع إسرائيل احتواء الأزمة المكتومة وإعادة أوباما إلى رشده، خصوصا بعد أن أدرك أن حاجته لإسرائيل لا تقل عن حاجة إسرائيل له، إن لم تكن تفوقها.
يبدو واضحا من هذا الاستعراض تصميم الولايات المتحدة وإسرائيل على إسقاط النظام الإيرانى بكل الوسائل الممكنة، لكنهما لم تفلحا، بل صبت بعض سياساتهما الحمقاء لصالحه فى النهاية. ولأنه أثبت أنه لاعب ماهر طوال العقود الأربعة الماضية، فقد استطاع النظام الإيرانى تفويت فرصة النيل منه بضربة عسكرية مباشرة، بدت مكلفة جدا لمن يفكر فى القيام بها، فما الذى يجعل الضربة المحتملة لإيران تبدو اليوم أقل كلفة من المنظور الإسرائيلى؟
إنه «الربيع العربى»، الذى تسعى إسرائيل لتحويله إلى خريف ثم إلى شتاء قارس ومظلم. فكما فتحت ثورات الشعوب العربية باباً للأمل فى مشروع نهضوى عربى جديد، تعتقد إسرائيل أن هذه الثورات، القائمة منها والمحتملة، تتيح أمامها فى الوقت نفسه فرصة لتمزيق العالم العربى إن تمكنت من توظيفها لخلق حالة من الفوضى، تشتعل فى ثناياها حروب طائفية ومذهبية.
ومن المعروف أن ردود الفعل المحتملة من جانب حلفاء إيران: «سوريا وحزب الله وحماس والجهاد»، كانت تشكل فيما مضى أحد كوابح ردع إسرائيل عن توجيه ضربة عسكرية لإيران، أما اليوم فحلفاء إيران، وعلى رأسهم سوريا، إما يصارعون من أجل البقاء، وإما لديهم مشاغل داخلية تحول بينهم وبين القيام بأى عمل انتقامى من أجل عيون إيران، والنخب التى أشعلت الثورات فى البلدان العربية الأخرى تبدو بدورها مشغولة الآن بالصراع حول نصيبها من كعكة لم تنضج بعد، لذا تعتقد إسرائيل أن الفرصة أصبحت الآن مواتية تماماً للتصعيد ضد إيران بإحكام العقوبات الدولية أولاً ومواصلة الحرب الإلكترونية على منشآتها النووية، ولشل قدرات قواتها المسلحة ثانياً. فإذا لم تخضع إيران للمطالب الأمريكية ــ الإسرائيلية، فالضربة العسكرية قادمة لا محالة، ربما قبل فبراير المقبل!
وربما تعتقد إسرائيل أنه فى أسوأ الأحوال، وبافتراض حدوث ردود فعل إيرانية أو غير إيرانية عنيفة، فمن السهل توظيف هذه الردود لتعميق الخلافات المذهبية، ليس فقط بين إيران والدول العربية، وإنما داخل الدول العربية نفسها لخدمة سيناريو الفوضى الشاملة.
هكذا تفكر إسرائيل، رغم أن الأمر قد لا يكون بهذه البساطة. لكن السؤال: هل لهذا النوع من القضايا الاستراتيجية مكان فى تفكير النخب العربية، وبالذات النخبة المصرية، أم أن فصائلها جميعاً لاتزال مشغولة بتوافه الأمور عن عظائمها؟
-------------------------------------------
* نقلا عن المصري اليوم الأحد 13-11-2011.