لم تكد تنتهى حرب أكتوبر 73، أعظم انتصارات الجيش المصرى فى التاريخ الحديث، ولم تكد رائحة البارود تنقشع بعد عن سماء سيناء، إلا وكانت جميع مراكز الأبحاث العلمية العسكرية ومراكز الدراسات الاستراتيجية فى العالم تدرس نتائج هذه الحرب وتأثيرها فى تغيير المفاهيم العسكرية، وإمكانية تطويرها، فضلا عن أساليب القتال، وأنظمة التسليح وتطوير المعدات العسكرية.
وقد اعتقد بعض المحللين أن الحرب الروسية-الأوكرانية ستقدم لنا العديد من المفاهيم الجديدة للفكر العسكرى العالمى. ولكن حتى الآن، ونحن على أبواب نهاية العام الثانى من هذه الحرب، نجد أنها لم تقدم لنا أى جديد إلا استخدام موسكو للصواريخ الباليستية فى الضربات الأولى للحرب بدلا من الضربة الجوية، نظرا لدقة هذه الصواريخ وقلة تكلفتها، حيث إن هذه الصواريخ الباليستية، مثل إسكندر وكنجال الروسية، لا يتعدى ثمنها عدة ملايين، فيما يبلغ ثمن كل من الطائرة F16 والسوخوى الآن 100 مليون دولار. كذلك، أبرزت هذه الحرب قيمة استخدام المسيّرات الجديدة فى تنفيذ أعمال استطلاع وجمع المعلومات وتنفيذ الضربات الانتحارية والهجومية. ولكن حتى الآن، لا يزال الفكر العسكرى ينتظر تطوير أساليب قتال هذه المسيّرات وتطوير إمكانياتها، وهو ما ستظهره الأيام المقبلة مع نهاية هذه الحرب. من هنا، يمكن القول إن حرب أكتوبر 73 قدمت العديد من المفاهيم الجديدة للعلم العسكرى، حيث كانت العقيدة القتالية العسكرية الغربية أكبر المستفيدين من دروس تلك الحرب. وقد تبنى الجانب الإسرائيلى فكر العقيدة الغربية، فيما تبنت القوات المسلحة المصرية فكرا جديدا فى مفاهيم القتال، يمزج بين الفكر الشرقى التابع للعسكرية السوفيتية، مضافا إليه خبرة قتال المصريين فى هذه الحرب الحديثة. كان تأثير حرب أكتوبر 73 فى العقيدة العسكرية الغربية فى عدة مجالات، أهمها ما يلى:
أولا- بالرغم من تصنيف نوعية أعمال القتال بين الجيش المصرى وجيش الدفاع الإسرائيلى بأنها حرب تقليدية، فإن كليهما كان مزودا بأحدث الأسلحة والمعدات، إضافة إلى منظومات جديدة، لم تكن قد استخدمت من قبل فى ميادين القتال الحقيقية. إذ استُخدم فى هذه الحرب، لأول مرة، الأسلحة الإلكترونية Electronic Warfare
(EW)، والأسلحة الإلكترونية المضادةCounter Electronic Warfare /CEW، من الجانبين، على أعلى مستوى من التقنيات العلمية.
ثانيا- إن الجيش المصرى قاتل، متبعا العقيدة الشرقية، متسلحا بمعدات أغلبها سوفيتية، فيما طبق جيش الدفاع الإسرائيلى مبادئ العقيدة الغربية، وبالأسلحة والمعدات الغربية. فكان واضحا، لمعظم المحللين، أنها معركة بين فكر وتسليح العقيدة الشرقية، ضد فكر وتسليح العقيدة الغربية.
ثالثا- إن ميادين القتال لم تشهد حربا تقليدية منذ الحرب العالمية الثانية عام 1945، إذ تغيرت فيما بعد مفاهيم القتال، وتغيرت الأسلحة والمعدات، ودخلت التكنولوجيا الحديثة فى كل سلاح ومعدة، حتى إن الحروب التى أعقبت الحرب العالمية الثانية، سواء فى كوريا أو فيتنام أو غيرهما، كانت كلها من طرف واحد قوى، يستخدم معداته وأسلحته من دون وجود مقاومة منظمة من الجانب الآخر، فلم يظهر فكر جديد فى أساليب القتال، أو فى استخدام المعدات.
رابعا- إن الجيش الإسرائيلى دخل هذه الحرب، معتمدا على انتصاراته فى عمليات 1967، سواء على الجبهة المصرية أو الأردنية أو السورية. فقد حقق شهرة لا بأس بها، قياسا بمختلف المدارس العسكرية التى عدّته مثالا يمكن الاقتداء به وتطبيقه وتنفيذه فى حالات أخرى. ولعل الضربة الجوية الإسرائيلية ضد مصر عام 1967 كانت، من وجهة النظر العسكرية، أكبر دليل على ذلك. بيد أن ما أظهره الجيش المصرى خلال حرب 1973 من أداء عسكرى متميز أجبر جميع المراكز البحثية، ومعاهد الدراسات الاستراتيجية، والمحللين العسكريين، على أن يدرسوا، وأن يحللوا كيفية نجاح الجيش المصرى فى إلحاق الهزيمة بجيش الدفاع الإسرائيلى، وقطع اليد الطولى (الطيران الإسرائيلى)، التى كثيرا ما تغنت بها إسرائيل بعد حرب 1967.
خامسا- عنصر المفاجأة الذى حققته القوات المسلحة المصرية على المستويين الاستراتيجى والتكتيكى. أما على مستوى الأداء، فقد دفع ذلك حاييم هيرتزوج، الرئيس الأسبق لإسرائيل، مدير استخباراتها الأسبق، أن يكتب فى مذكراته عن حرب أكتوبر، التى نشرت فى كتابه، «أن على جيش الدفاع الإسرائيلى، مستقبلا، أن يكون قادرا على التشبه بنبات البانتا، الذى ينحنى أمام الضربات الأولى، المخططة، والمنظمة للقوات المسلحة المصرية.. ثم ينهض بعد ذلك ليكيل له الضربات.. فالضربات الأولى، المخططة، للجيش المصرى، دائما ما تكون قوية.. وسريعة.. ومؤثرة» .
سادسا- ما حققته القوات المسلحة المصرية من إنجازات خلال حرب الاستنزاف، ولعلنا نذكر عملية إغراق المدمرة «إيلات»، تلك العملية التى أدت إلى تغيير نمط التسليح وأسلوب القتال للقوات البحرية فى العالم بأسره، فضلا عن بناء حائط الصواريخ المصرى غرب القناة فى فترة الاستنزاف ودوره الرائع فى أثناء الحرب فى تحييد القوات الجوية الإسرائيلية ومنعها من التدخل فى عمليات عبور القوات المصرية القناة.
سابعا- التكتيكات وأساليب القتال الجديدة، التى نفذتها القوات المصرية فى هذه الحرب، ما دفع المحللين العسكريين إلى دراستها والاستفادة منها.
ولعل ما يدعونى، ويدعو العسكرية المصرية، للفخر أن جميع المعاهد العسكرية حول العالم، خاصة ذات العقيدة الغربية، عدّت الدروس المستفادة من حرب أكتوبر 73 جزءا لا يتجزأ من مناهجها الدراسية فى دورات قادة السرايا والكتائب والألوية وكليات أركان حرب، وكليات الدفاع الوطنى. فقد كان تفوق القوات المسلحة المصرية سببا فى تغيير العديد من مفاهيم القتال فى العقيدة القتالية الغربية.
جاءت بشائر تأثيرات التغيير فى أثناء حرب الاستنزاف المصرية، بعد إغراق المدمرة الإسرائيلية «إيلات»، حيث بدأت القوات البحرية فى مختلف الدول فى التوقف، تدريجيا، عن بناء المدمرات الكبيرة وحاملات الطائرات والطرادات، وبدأ الاعتماد على اللنشات السريعة الصغيرة ذات السلاح المتطور لتأمين السواحل والمياه الإقليمية. وشرعت الدول فى تطوير التدريع لهذه اللنشات، وتسليحها، مع التركيز على وسائل الحرب الإلكترونية بها، والأجهزة الإلكترونية المضادة، وأجهزة الرادار والتشويش... الخ. واليوم، أصبحت الفرقاطات ولنشات الصواريخ القوة الضاربة للقوات البحرية فى معظم الدول الغربية، خاصة فى أعمال تأمين القطع البحرية الكبيرة. هكذا، ومع انتهاء حرب أكتوبر 1973، قامت الدول الغربية بإعادة تنظيم وتسليح قواتها البحرية، انطلاقا من الفكر الجديد المعتمد على الخبرة والتجربة المصرية. ومع بداية عصر إلغاء حاملات الطائرات الكبيرة، ظهر بناء حاملات المروحيات، ذات الحجم الصغير، والقوة النيرانية الكبيرة.
أما التأثير الثانى فى تغيير المفاهيم القتالية فى العقيدة الغربية، فكان فى مجال القوات الجوية، حيث إنه طبقا لمفاهيم مبادئ القتال، فإن عمل القوات الجوية كان يعتمد من قبل على عنصرين، الأول: «السيادة الجوية» Air Supremacy، بمعنى أن القوات الجوية تسيطر على ميدان القتال الجوى بالكامل، ولا تسمح للقوات الجوية المعادية بأى نشاط. والآخر «السيطرة الجوية» Air Superiority، التى تكون فى ميدان القتال بالكامل، أو جزء منه، أو لوقت محدد، وفيها يمكن أن تقوم القوات الجوية المعادية بتنفيذ بعض الأعمال.
خلال حرب أكتوبر، أضافت القوات المسلحة المصرية عنصرا ثالثا فى مفاهيم أسلوب استخدام القوات الجوية، هو «تحييد القوات الجوية المعادية» Neutralizing Enemy Air Force. ويعنى هذا المفهوم الجديد أنه بالرغم من أن القوات المعادية لديها قوات جوية قوية ذات كفاءة عالية وبأعداد كبيرة تحقق لها السيطرة الجوية، فإنها لا تستطيع المشاركة فى جزء من ميدان القتال. فقد ظلت القوات الجوية الإسرائيلية عاجزة عن تقديم أى عون جوى لقواتها الأرضية نتيجة لنجاح القوات المسلحة المصرية فى بناء حائط للصواريخ على الضفة الغربية للقناة، يمنع القوات الجوية الإسرائيلية من توفير غطاء جوى لقواتها البرية فى الهجمات المضادة ضد القوات المصرية التى اقتحمت قناه السويس. لعل أبلغ دليل على ذلك كان التحذير الذى أطلقه قائد القوات الجوية الإسرائيلية فى أثناء الحرب لقواته بعدم الاقتراب من قناة السويس لمسافة 15 كيلومترا. جاء هذا التحذير فى رسالة مفتوحة غير مشفرة لضمان سرعة وصولها لجميع قواته، وظلت محاولات القوات البرية الإسرائيلية فى تنفيذ ضرباتها المضادة للقوات المصرية التى عبرت القناة دون أى مساندة جوية. وهكذا، نجح حائط الصواريخ المصرى فى بتر «اليد الطولى» لجيش الدفاع الإسرائيلى.
بناء على ذلك، ظهرت إمكانية قتال عناصر المشاة المترجلة دون قوة الصدم (الدبابات). فقد كان المفهوم الشائع قبل حرب أكتوبر 73 أن قوات المشاة لا يمكنها التمسك بالأرض منفردة دون قوات مدرعة لأكثر من 3 أو 4 ساعات، وهو ما كان ينطبق غالبا على قوات المظلات، أو على القوات المبرة جوا التى تسقط بعيدا عن القوة الرئيسية. لذلك كان من الضرورى أن تلحق بها القوات الرئيسية، خاصة المدرعات، فى مدة لا تزيد على 3 أو 4 ساعات. لكن جاءت حرب أكتوبر بتخطيط رائع وضعه المصريون، فى التوجيه رقم 41، الذى أعدته لجنة رأسها الفريق سعد الدين الشاذلى، رئيس الأركان، الذى أتاح لقوات المشاة العبور بدون دعم لمدة 12 ساعة، هى مدة إتمام إنشاء الكبارى وعبور الدبابات. هذا الأمر تم التخطيط له باستخدام الأسلحة المضادة للدبابات، وبحسابات دقيقة للموجات الأولى من المشاة المترجلة، فتمكنت من صد وتدمير الاحتياطيات المدرعة الإسرائيلية شرق القناة فى «خط بارليف»، وهو أمر لم يكن لأى مخطط عسكرى أن يقبل به قبل حرب أكتوبر 1973. فقد تم التخطيط لدعم كل كتيبة مشاة مترجلة بعدد من قواذف «آر. بى. جى»، ومعها الذخيرة الكافية التى حملها الجنود المشاة، ومعهم، لأول مرة، صواريخ المقذوفات الموجهة المضادة للدبابات «المالوتيكا» الروسية. وبالرغم من أنها كانت من الجيل الأول، الذى كان يوجه بالسلك، حيث تتوقف دقة الإصابة على قدرة الجندى على التوجيه تحت نيران العدو، فإن كتيبة المشاة المترجلة، فى رأس الكوبرى، نجحت فى صد الهجمات المضادة للمدرعات الإسرائيلية. أما المفاجأة الأخيرة، فى التوجيه رقم 41، فتمثلت فى أن كل جندى كان يحمل على صدره وظهره لغما مضادا للدبابات، فتكون، لأول مرة فى تاريخ الحروب الحديثة، ما يعرف باسم «الستارة المصرية المضادة للدبابات». ويمكن الرجوع لقانون القتال البريطانى، فى بند القتال فى الأراضى الصحراوية، والأراضى المفتوحة، لتجد هذا البند ينص على استخدام «الستارة المصرية المضادة للدبابات»، مشيرا إلى أنها ثمرة نتاج فكر المصريين فى حرب أكتوبر.
أما التأثير الرابع، فكان «الحصار البحرى عن بُعد» Distant Naval Blockade، حيث أشارت المراجع العسكرية الغربية إلى أن المصريين نجحوا فى إغلاق مضيق باب المندب ضد الملاحة الإسرائيلى، فيما يعد أكبر مفاجأة من مفاجآت حرب أكتوبر، حيث استخدم المصريون قواتهم البحرية فى باب المندب بعيدا عن القوات الجوية لجيش الدفاع الإسرائيلى. كانت كل تقديرات جيش الدفاع الإسرائيلى تعتمد على أن أى تفكير مصرى لإغلاق الملاحة الإسرائيلية فى البحر الأحمر سيتم من خلال مضيقى تيران وصنافير، واثقة بأنها ستكون، حينئذ، فى مرمى القوات الجوية الإسرائيلية. وبذلك، أظهر المصريون براعتهم فى إغلاق الملاحة، بإعلان وجود قواتهم البحرية فى مضيق باب المندب، ليقف الإسرائيليون عاجزين، طوال أيام القتال عن أى رد فعل ضد هذا العمل، وظل ميناء إيلات مغلقا تماما. وبالتالى، حُرمت إسرائيل من استيراد النفط. وعليه، فقد كانت أهم نقاط المباحثات، بعد توقف القتال، فى «مباحثات الكيلو 101»، مطالبة الإسرائيليين بفتح مضيق باب المندب. وهكذا ولأول مرة بعد حرب أكتوبر، يظهر فى قوانين القتال البحرية، فى العقيدة الغربية، ذلك الفكر الجديد بعنوان «الحصار البحرى عن بُعد» Distant Naval Blockade.
تمثل التأثير الخامس فى عنصر المفاجأة الذى يعد أحد أهم مبادئ القتال فى جميع العقائد القتالية الغربية. فقبل حرب أكتوبر 1973، كانت كل المراجع العسكرية تشكك فى إمكانية تحقيق المفاجأة بكامل أبعادها، أى المفاجأة الاستراتيجية، أو المفاجأة التعبوية، أو حتى المفاجأة التكتيكية، فى ظل التقنيات الحديثة ووسائل الاستطلاع والكشف المبكر والأقمار الصناعية. لكن جاءت حرب أكتوبر لتحطم كل هذه الأفكار والمفاهيم؛ فحشود القوات المصرية كانت موجودة على القناة، ونجح المصريون فى إدخال قوات، وإخراج قوات أخرى من جبهة القتال. كما كانت كبرى المفاجآت التى حققها المصريون هى الهجوم على خط المواجهة بالكامل بخمس فرق مشاة، حيث فوجئ الإسرائيليون، يوم السادس من أكتوبر فى تمام الثانية ظهرا، بالجيش المصرى يقتحم القناة، ما جعل من الصعب عليهم تحديد اتجاه الهجوم الرئيسى. لذلك، عند شرح العقيدة القتالية الغربية، فى كتب علم فنون القتال «التكتيك» عن عنصر المفاجأة، تجدها تؤكد إمكانية تحقيق المفاجآت مرة أخرى مع التطور الحديث فى تكنولوجيا الأسلحة، والمعدات الحديثة، وهو ما أكده نجاح المصريين فى حرب أكتوبر 1973 فى مفاجأة الإسرائيليين بالحرب على كل جبهات القتال. وبعد اختيار منتصف النهار لبدء الهجوم، خاصة أن كل المراجع وقوانين القتال، أكدت أن أنسب توقيتات الهجوم يكون مع أول ضوء، أو آخر ضوء، وهذا ما حقق به المصريون المفاجأة مرة أخرى، فضلا عن إجراءات المصريين الأخرى، مثل فتح باب العمرة للضباط قبل الحرب، وتسريح دفعات من الاحتياط، والهجوم فى شهر رمضان وغيرها، والتى كانت كلها من أعمال الخداع التى حققت المفاجأة.
تمثل التأثير السادس فى إضافة بند جديد فى مبادئ القتال؛ التى كانت فى جميع العقائد القتالية، هى المفاجأة والحشد والسرية والخداع والمناورة ... إلخ فكان البند الجديد الذى تمت إضافته، بعد حرب 73، هو استخدام «أساليب غير تقليدية فى الحرب الحديثة» Non-Conventional Methods in Modern Warfare. وعندما عرضت قوانين القتال الغربية هذا البند، فإنها بدأت منذ حصار طروادة، وصولا إلى ما حققه المصريون فى حرب 1973من اقتحام الساتر الترابى باستخدام خراطيم المياه، وهو ما لم يتوقعه الإسرائيليون، إضافة إلى إغلاق أنابيب النابالم فى خط بارليف.
وأكد التأثير السابع بعض مفاهيم القتال فى العقيدة الغربية، وصلاحيتها للتطبيق. فقد تم التركيز على مفهوم By-Pass Policy، وهو أحد أساليب الاختراق فى العقيدة القتالية الغربية، التى تتلخص فى أنه خلال العمليات البرية، وفى حالة التوقف أمام أى دفاعات لمدة طويلة، فإن القوة البرية لا تتوقف، بل تستمر تاركة خلفها قوات لتثبيتها حتى تسقط، وتستمر باقى القوات فى الهجوم. وهو ما فعله المصريون فى حرب 1973، عند اقتحام خط بارليف، فقد اندفعت فرق المشاة المصرية الخمس لعبور القناة متقدمة إلى عمق سيناء، تاركة وراءها نقاط خط بارليف تتساقط تباعا. ولا شك فى أن وصول القوات المصرية المهاجمة خلف خط بارليف أحبط القوات المدافعة الإسرائيلية فى هذه النقاط، فمنها ما تم اقتحامه من جانب القوات المصرية بعد ساعات، ومنها ما استسلم، وكانت أهمها نقطة لسان بور توفيق التى استسلمت تماما بكامل قواتها وأسلحتها وعتادها.
أما التأثير الثامن، فكان إضافة جديدة لمبادئ القتال فى العقيدة الغربية، وهو «النوعية»، حيث كان الاتجاه فى مقارنة القوات قبل حرب أكتوبر يعتمد على أعداد الدبابات والمدفعية والطائرات والغواصات والمدمرات. لعل أشهر هذه الدراسات ما يقدمه معهد الدراسات الاستراتيجية فى لندن (IISS)، فى تقريره السنوى الشهير «التوازن العسكرى» The Military Balance، حيث قارن التقرير بين القوات العسكرية لكل دولة، وفقا لعدد المعدات والأسلحة التى تمتلكها، غير أن حرب أكتوبر 73 قلبت هذه الموازين تماما. فقبل حرب أكتوبر، جاء هذا التقرير ليوضح التفوق الكامل لإسرائيل ضد مصر وسوريا ودول الطوق، وكانت هذه الحسابات لمصلحة إسرائيل، وهو ما أقنع العديد بأن مصر لن تغامر قطعا بالحرب والهجوم على إسرائيل. جاءت حرب أكتوبر وظهر عامل جديد لم يكن فى الحسابات قبلها، وهو الجندى المصرى، الذى قال عنه شارون، فى مناظرة عن حرب أكتوبر، أجراها معى شخصيا، وأذاعها التليفزيون البريطانى، عند سؤاله عن وجهة نظره فيما يراه المفاجأة فى حرب أكتوبر: هل كان توقيت الهجوم فى الثانية ظهراَ؟ هل كان اختيار موعد الهجوم، وهو عيد الغفران فى إسرائيل؟ هل كان الهجوم على الجبهتين المصرية والسورية فى وقت واحد؟.. هل.. هل...؟؟ فجاءت إجابته أن المفاجأة الحقيقية، فى حرب أكتوبر، كانت الجندى المصرى فى عام 1973، الذى اختلف عن الجندى فى عام 1967، أو عام 1956. فالجندى المصرى عام 1973 كان من حَمَلة المؤهلات العليا، وروحه المعنوية عظيمة ومرتفعة، وهو ما عدّه أقوى من حساباتهم وتوقيتاتهم، ضاربا مثالا فى أثناء هجوم منطقة الدفرسوار، إذ كان شارون يقود سرية دبابات مكونة من 10 دبابات إسرائيلية فى اتجاه الإسماعيلية، وظهر أمامه فجأة خمسة «كوماندوز» مصريين (يقصد من قوات الصاعقة). ومن الطبيعى أن مواجهة الجنود الخمسة أمام عشر دبابات تعنى الموت المحقق لهم، إلا أن الكوماندوز الخمسة نجحوا فى تدمير خمس دبابات إسرائيلية. وبالطبع، استشهد هؤلاء الأبطال الخمسة المصريون، وكان شارون يقصد بالطبع جنود مجموعة الصاعقة، التى كرمها الرئيس السيسى فى احتفالات أكتوبر 2022 فى معركة أبوعطوة. وقد أصيب شارون فى هذه المعركة، وتم نقله لإسرائيل بعد ذلك. وأضاف شارون«أن هذا الجندى الذى قابلته فى حرب 1973 ليس الجندى المصرى الذى قاتلته فى حربى 1967 وفى 1956. وعليه، فإن مفاجأة هذه الحرب هى الجندى المصرى وليس غيره». وشدد على «أنه يجب على إسرائيل أن تضع فى اعتبارها فى أى حرب قادمة.. نوعية هذا الجندى المصرى الجديد». من هنا، بدأت معاهد الدراسات الاستراتيجية فى إضافة بند جديد عند حسابات القوى ومقارنتها، وهو حساب «النوعية القتالية»، ويقصد بها الفرد المقاتل، وكان ذلك بسبب ما حققه المقاتل المصرى فى حرب 1973، الذى كان عاملا غائبا عن كل الحسابات والتقديرات السابقة التى قادت إلى نتائج خاطئة.
أما التأثير التاسع والأخير، فكان تغيير مفهوم «الدفاع المتحرك» Mobile Defense، فقد كان الأسلوب الدفاعى، الذى تطبقه إسرائيل للدفاع عن خط قناة السويس، هو الأسلوب الأساسى فى الدفاع فى العقيدة الغربية، الذى يعتمد على وجود نقاط قوية على الخط الأمامى للدفاع، ثم وجود احتياطيات قوية فى العمق، تواجه القوات المهاجمة فى مناطق احتواء، ومناطق قتل لتدميرها. اعتمد هجوم القوات المصرية على المواجهة بالكامل، واختراقها للدفاعات الإسرائيلية، فوجدت الاحتياطيات المدرعة الاسرائيلية نفسها حائرة فى العمق، لا تستطيع توجيه أى ضربات، وتشتتت أمام المواجهة بالكامل، وخسرت معركتها. بانتهاء الحرب، بدأت قيادات حلف الناتو تطبيق مبدأ «الدفاع النشط» Active Defense، ليكون الشكل الجديد للنظم الدفاعية فى قانونى القتال الأمريكى والبريطانى. أما فرنسا، فلجأت إلى تطوير الدفاع المتحرك بشكل جديد هو «الدفاع المتحرك العنكبوتى»، بما يثير الإعجاب والاحترام للقوات المسلحة المصرية. جاءت كل هذه الأفكار الجديدة، فى تطوير قوانين القتال فى العقيدة الغربية، نتاجا لخبرة قتال القوات المصرية فى حرب 1973. والآن، ونحن نحتفل بمرور خمسين عاما على هذا النصر العظيم، ستظل الأفكار والمفاهيم العسكرية، التى قدمها الجيش المصرى فى حرب أكتوبر 73، أعظم تطور فى الفكر العسكرى العالمى فى العصر الحديث، والتى تُعدّ القوات المصرية أساس هذا الفكر العسكرية المتطور.