لقد اعتدنا أن نرى المتعصب دينيا وهو يؤكد ويعتقد فى انتسابه إلى السماء، ومن ثم يتحدث باسمها بيقين مطلق، فكيف السبيل لمحاورته من قبل أهل الأرض المساكين؟ فهو كائن غير قابل للتكيف أو التعايش، فكان ذهابه للتعصب ودعوته لمن يقابله لأن يتبعه بكل غباوة قلب وحماقة فكر.
وفى هذا السياق كان الدكتور يحيى الرخاوى، رحمه الله، يحذر محادثيه، من أنه: "من الخطورة أن نخلط بين "التطرف" و"التعصب"، أنا شخصيا أدافع عن التطرف، لو كان موقفا لإعلان الوضوح، انطلاقا لحركة مسئولة فى مواجهة نقيض على الطرف الآخر، لكن التعصب جمود وانفراد وأحكام فوقية تدمغ المخالف؛ لأنه مخالف، التطرف عادة ما يكون بالنسبة للمواقف والأهداف، أما التعصب فهو عادة ما يكون بالنسبة للوسائل والأشخاص".
وبناء عليه، يرى الرخاوى أنه من الشرف والفخر التطرف للحق، ومن الجبن والعار التعصب بمكابرة وجمود، من الشرف التطرف فيتوحّد الاتجاه إلى وجه الله أو اليقين بحتمية الإيمان كضرورة بيولوجية، ومن العمى أن التعصب لطقوس مذهب دينى بذاته أو التفسير البشرى التاريخى، بوصفه الصواب الأوحد فى كل زمان ومكان.
وفى سياق تفهم آخر للتطرف، عبر عباس العقاد عن روعة التطرف وجمال حركيته الباعثة للحياة حتى لو كان تطرفا فى التشاؤم، ولذلك دافع عن سوداوية المعرى وشوبنهور بالمقارنة بالبلادة وعدم الاكتراث اللذين يسودان العصر الحاضر.
ومعلوم أن احتكار الحقيقة وقف على المتعصب المتجمد الأعمى، أما الذى يقف على طرف قضية، ليحدد مكانه ومعالمه ومسئوليته فهو مشروع مبدع لا أكثر ولا أقل.
ومن الخطورة بمكان إصدار أحكام تتصف بالتعميم، فالسيطرة على الأتباع واردة حين يقوم من يسمى المتطرف المتدين، وغير المتدين، بحظر التفكير ورفض النقد ووأد الإبداع.
لقد بات معلوما أن التعصب الدينى لا ينشأ أصلا إلا فـى غياب العقل والمنطق، ولا يجد بيئته المناسبة التى تدعم تطوره وازدهاره إلا فى الأماكن التى ينتشر فيها الجهل ويغيب فيها العقل، مدفوعا ببعض رموز ورجال الدين المتعصبين، والتفسير السيئ للنصوص، وفى الأخير تقبل الفرد الذى يُقاد كما يُقاد القطيع.
وهل ننسى القيادى الإخوانى البارز "صبحى صالح"، ومن نسى منا ذلك المحامى ودوره فى زمن الذهاب إلى حكم الإخوان أذكرهم، فهو عضو لجنة "البشرى" لوضع التعديلات الدستورية بعد أحداث 25 يناير ــ بداية صعود المنحدر الإخوانى وفق تعريف "مرسى" العجيب ــ وبداية إعلان النية السوداء من أول خطوة بعد الثورة، قال من بين ما قال ذات مرة بحماس المنتمى الإخوانى: "أسأل الله أن يتوفانى على الإخوان"، وبالطبع هى فى أصل المقولة التى اقتبس منها مقولته "اللهم أمتنا على الإسلام"، ولكن وبسرعة قام إخوانى آخر "فهلوى" بإخراجه من المأزق، فقال "مع تحفظى على طريقة قوله ذلك، ليس المقصود منها أن الإخوان ديانة والعياذ بالله، ولكن الإخوان وسيلة لنصرة هذا الدين، وهو يرى فى الجماعة السبيل الأمثل، فدعا الله أن يعمل لدينه حتى آخر لحظة فى حياته".
ذكرتنى تلك الحكاية الإخوانية بمقولة "فولتير" المفكر الفرنسى الشهير (1694- 1778) ، التى كتبها كوصية له وهو فى أيامه الأخيرة وبعد صراعه مع الكنيسة فى زمانه: "إن فولتير يموت على عبادة الله وكراهية الكهان"، ردا على تدخل ووصاية الكنيسة التى أعلن رفضها فى زمانه، ولأن "فولتير" كانت من قضاياه الرئيسية المطالبة بحرية التعبير والتسامح الدينى، فقد خاض معارك هائلة مع السلطة المتمثلة فى الكنيسة، وكان لفكره وفكر أقرانه من المفكرين والمصلحين الأثر والدور المهم لتحريك وتفعيل الثورة الفرنسية، وكان الملك لويس الخامس عشر قد أصدر قرارا بمنع دخوله فرنسا وحَرمت الكنيسة وجود كتبه وعدته هرطيقا مخربا للعقيدة الصحيحة وهادما لتعاليمها.
ورغم مرور أكثر من قرنين من الزمان على حكاوى الصراع بين المؤسسات الدينية وأهل الفكر والإصلاح فى بلاد الفرنجة، بالفصل الكامل بين المؤسسة الدينية ونظام الحكم، لا يزال رجال الدين لدينا يمارسون ألوانا من الوصاية على فكر وقناعات الناس، فى هذا السياق أرى أن مقولة "الكنيسة هى الممثل السياسى للأقباط وستظل كذلك"، هى وصاية دينية سياسية غير مقبولة على المواطن.
وفى النهاية، أرى أن كل شخص متعصب طائفى هو فى الواقع يقوم بدور ما فى تشكيل ملامح الصورة الكاملة للحصيلة السلبية التى تنتجها الطائفية، فالطائفية بدون الجماهير المعتنقة لها هى: لا شىء.
وإن من يمتنع عن الوقوف مع الحق لأسباب طائفية، أو يكذب على نفسه ليبرر أن الحق ليس حقا، فإنه شخص لا يمكن أن يجمل من صورة ضميره ألف دين خاص يعتنقه.