الأذكياء هم فقط من يستطيعون تحويل «المحنة» إلى «منحة»، «والأزمة» إلى «فرصة»، وهو ما يحدث فى مصر الآن، وبخطى سريعة وواثقة، للخروج من تداعيات أزمة اقتصادية عالمية فرضتها ظروف لم تكن فى «حسبان أحد»، بدأت بجائحة «كورونا» التى هبطت من السماء على الكرة الأرضية، ثم جاءت الحرب الروسية ـ الأوكرانية التى لم تكن «متوقعة» أو «محسوبة»، لتزيد من حجم الأزمة الاقتصادية العالمية.
تضرر الاقتصاد المصرى شأن باقى الاقتصادات العالمية، كبيرها وصغيرها على السواء، وإن اختلفت حدة الضرر بين هذا وذاك. وقد تابع العالم كله أقوى اقتصاد عالمى، وهو الاقتصاد الأمريكى، يعترف بالأزمة، مما جعل البنك الاحتياطى الفيدرالى يتدخل، ويرفع أسعار الفائدة عدة مرات متتالية، فى إطار محاولاته لكبح جماح التضخم، ثم انفجرت أزمة الديون الأمريكية، التى هزت ـ ولاتزال ـ الأسواق العالمية، بعد أن تم تخفيض التصنيف الائتمانى للاقتصاد الأقوى عالميا من قِبل وكالة «فيتش» للتصنيف الائتمانى خلال الفترة الماضية.
أدت الأزمة الاقتصادية العالمية إلى مضاعفة أسعار السلع الإستراتيجية فى كل دول العالم مثل أسعار الحبوب (القمح والذرة والأرز)، وكذلك أسعار الطاقة (البترول ـ الغاز)، إلى جانب أسعار العديد من السلع الأخرى مثل أسعار الورق والحديد والأدوات الكهربائية، وغيرها.
ولأن مصر ــ للأسف الشديد ــ تستورد أضعاف ما تصدره، فقد ظهرت ما يمكن تسميتها «الفجوة الدولارية» بسبب سيادة سلوك اقتصادى خاطئ عبر أكثر من 6 عقود، يتضمن «استسهال» استيراد كل شىء وأى شىء، لذلك فقد كان من الطبيعى أن تظهر تلك الفجوة نتيجة مضاعفة فاتورة الاستيراد عالميا أكثر من ثلاثة أضعافها، وبشكل «مفاجئ»، لم يكن فى الحسبان، وهى الزيادة التى التهمت الزيادات النسبية فى الصادرات، وكذلك الزيادات الكبيرة فى الموارد السياحية، ودخل قناة السويس، وتحويلات المصريين بالخارج.
التهمت فاتورة الاستيراد كل تلك «الفوائض» التى تحققت خلال الفترة القليلة الماضية، ومن هنا كان لابد من السير بسرعة نحو إعادة هيكلة الاقتصاد المصرى، والاستفادة من الأزمة العالمية، وتحويلها إلى فرصة ومنحة خلال الأعوام القليلة الماضية.
للإنصاف، لم تكن الأزمة الاقتصادية العالمية هى السبب الأساسى فى إعادة ضبط بوصلة الاقتصاد المصرى، حيث إن محاولات إعادة هيكلة الاقتصاد المصرى بدأت منذ ما يقرب من 6 أعوام، حينما بدأ الرئيس عبدالفتاح السيسى فى تنفيذ برنامجه لاستصلاح واستزراع ما يقرب من 4 ملايين فدان، بالإضافة إلى التركيز على ملف توطين الصناعات الإستراتيجية من خلال إقامة مناطق صناعية متعددة فى العديد من المدن والمحافظات، أبرزها المنطقة الاقتصادية فى إقليم قناة السويس، إلى جانب تذليل جميع العقبات التى تواجه الاستثمار فى ذلك القطاع الإستراتيجى.
سجل ملف الزراعة واستزراع الأراضى تطورا مذهلا خلال الفترة القليلة الماضية، حيث بلغ إجمالى ما تم استصلاحه واستزراعه فعليا ما يقرب من ٣ ملايين فدان، فى تطور مذهل ولافت للانتباه.
نسبة كبيرة من هذه الأراضى دخلت الخدمة فعليا، وأصبحت مصدرا مهما للإنتاج، مما أسهم فى تقليل فاتورة استيراد السلع الغذائية المتضخمة، والتى تضخمت أكثر وأكثر بفعل فارق السعر وليس بكمية الاستيراد، حيث ارتفعت الفاتورة سعريا على الرغم من انخفاض الكميات، وهو ما يؤكد سلامة ما تم اتخاذه من إجراءات فى هذا الصدد، لأنه لولا تلك الإجراءات لتضاعفت فاتورة استيراد السلع الغذائية أكثر وأكثر من ذلك بكثير.
على الجانب الآخر، فقد حققت الصادرات الزراعية قفزة هائلة نتيجة دخول الأراضى الجديدة الخدمة، وتدفق إنتاجها إلى الأسواق المحلية والعالمية، حيث حققت الصادرات الزراعية المصرية رقما قياسيا خلال النصف الأول من العام الحالى، وصل إلى ٤ ملايين و٦٥٤ ألف طن، وكانت أبرز الصادرات الزراعية: الموالح والبطاطا، والبصل والعنب والطماطم والخضراوات، وغيرها، بزيادة ٣٠٪ عن الفترة المقابلة من العام السابق، وبما يقدر بنحو ٣٫٢ مليار دولار.
أعتقد أن الملف الزراعى، بكل ما يتضمنه من إنتاج واستصلاح واستيراد وتصدير، يتجه بكل قوة نحو تحقيق التوازن خلال المرحلة القليلة المقبلة، بمعنى أنه من المتوقع أن تتوازن صادرات مصر، من السلع والمنتجات الغذائية، مع استيرادها، خاصة بعد استكمال باقى مراحل استصلاح واستزراع الـ٤ ملايين فدان المقررة خلال السنوات الثلاث المقبلة على أقصى تقدير.
تبقى قضية الصناعة والفجوة الهائلة بين فاتورة استيراد السلع الصناعية، مقارنة بفاتورة تصديرها، خاصة بعد الزيادات الهائلة التى طرأت على الأسعار العالمية بعد أزمتى «كورونا» والحرب الروسية ـ الأوكرانية.
-
من هنا جاء اجتماع الرئيس عبدالفتاح السيسى، الأحد الماضى، مع د. مصطفى مدبولى، رئيس مجلس الوزراء، والمهندس أحمد سمير، وزير التجارة والصناعة، لمتابعة تنفيذ الإستراتيجية الوطنية لتنمية الصناعة، والرؤية المستقبلية التى تتبناها الدولة، لرفع معدلات نمو قطاع الصناعة، وزيادة نصيبه من الناتج المحلى الإجمالى.
الاجتماع شهد توجيه الرئيس بإطلاق حزمة من الحوافز للمشروعات الصناعية، بغرض توطين الصناعات التى تحتاجها الأسواق المصرية، للحد من الاستيراد وزيادة الصادرات.
وقد تم إطلاق حزمة ضخمة من الحوافز التى من المتوقع أن يكون لها مردود إيجابى ضخم على ملف توطين الصناعة، وتحقيق ذلك الحلم فى كل المجالات الصناعية بلا استثناء، خاصة تلك المجالات الإستراتيجية والأساسية التى تحتاجها الأسواق المصرية.
صحيح لدينا قاعدة صناعية ضخمة فى العديد من المجالات، لكن لابد من الاعتراف بالحاجة إلى المزيد من برامج توطين الصناعة، لأن المشكلة أن هناك قطاعا كبيرا من الصناعات القائمة عبارة عن «تجميع»، وليس تصنيعا بالمفهوم الحقيقى والشامل.
على سبيل المثال، صناعة السيارات مثلا مازال معظمها قائما على «التجميع»، بدءا بالبطاريات و«الكاوتش» و«الشاسيه»، وانتهاء بالموتور، مما يسهم فى تضاؤل نسبة المكون المحلى، مقارنة بالمكون الأجنبى، وارتفاع فاتورة هذه المستلزمات.
ليست صناعة السيارات وحدها، بل الأمر يمتد لصناعات أخرى كثيرة مثل صناعات الأدوية والأعلاف والهواتف المحمولة والقطارات، وغيرها من أنواع الصناعات المختلفة.
بعض هذه الصناعات ضرورى ومطلوب، والبعض الآخر يأتى فى مرتبة تالية، ومن هنا كان توجيه الرئيس بحزمة الحوافز الجديدة التى شملت الإعفاء من جميع أنواع الضرائب لـ5 سنوات باستثناء ضريبة «القيمة المضافة»، وإمكان مد سنوات الإعفاء ومضاعفتها، وكذلك إمكان استعادة 50٪ من قيمة الأرض المقام عليها المشروع إذا تم تنفيذه فى نصف المدة المحددة له، إلى جانب التوسع فى منح «الرخص الذهبية» لجميع المشروعات التى تستهدف تعميق التصنيع المحلى.
هذه الحزمة الهائلة التى تم إطلاقها لتشجيع الصناعة الوطنية سوف تستهدف، على وجه الخصوص، الصناعات الإستراتيجية التى تحتاجها الأسواق المصرية، وفقا لحجم الاستثمار الخارجى أو الداخلى فيها، والضوابط التى سوف يحددها مجلس الوزراء.
أتمنى أن يسارع مجلس الوزراء فى إعلان هذه الضوابط بسرعة، لتحفيز المستثمرين المحليين والأجانب، على السواء، ونشر قوائم تفصيلية بالصناعات المستهدفة خلال المرحلة المقبلة.
لابد أن تكون الأولوية للصناعات الإستراتيجية، وأن تتحول مصر إلى قلعة صناعية ضخمة للصناعات العالمية والمحلية، لتكون البوابة الرئيسية للتصدير إلى الدول العربية والإفريقية بحكم موقعها الإستراتيجى.
نجاح ملف توطين الصناعة، كما حدث فى ملف استصلاح واستزراع الأراضى، يعنى ببساطة حدوث تغيير هيكلى فى الاقتصاد المصرى، وتحويله من اقتصاد شبه ريعى، تعتمد مصادره الرئيسية على الخدمات والسياحة، إلى اقتصاد إنتاجى تعتمد مصادره الرئيسية على الإنتاج الزراعى والصناعى، إلى جانب المصادر الأخرى.
المؤكد أن مصر تشهد تحولا ضخما وإستراتيجيا فى كل ملفاتها، خاصة ما يتعلق بالملف الاقتصادى، والاستفادة من المحن والأزمات التى هبطت على العالم دون إرادة من أحد، لتتحول إلى «منحة» دائمة تسهم فى تحصين الاقتصاد المصرى من الأزمات الطارئة وغير الطارئة، أو تلك المتوقعة أو غير متوقعة، بعد استكمال خطط التحول الهيكلى للاقتصاد المصرى إلى اقتصاد إنتاجى خلال الفترة القليلة المقبلة - إن شاء الله.