يعكف المهتمون بالاقتصاد وعلومه على البحث عن حلول جدية، تماشيا مع مستجدات الأوضاع الاقتصادية المتفاقمة على المستويين المحلى والدولى، وربما يمثل الاقتصاد غير الرسمى حلقة مهمة ضمن حلقات الاقتصاد الكلى، وإن عُدَّ حلقة لا تزال مفقودة، ومصنفة تحت بند الاقتصادات العشوائية وغير المنظمة، بل يمكن القول بالاقتصادات غير المعترف بها قانونيا، لا سيما مع تحركات الدولة العديدة تجاه محاولات دمجه والاستفادة منه. وتبلغ نسبة الاقتصاد غير الرسمى فى مصر، وحسبما جاء فى أحدث تقارير وزارة التخطيط نهاية 2022، تبلغ نسبته من الناتج المحلى ما يقرب 50%، أى نصف ما تنتجه البلاد من السلع والخدمات، من ثم يتساوى فى حصيلة إنتاجيته والاقتصاد الرسمى، ما يؤدى إلى وجوب وضع السياقات المختلفة وآلياتها خلال عمليات الدمج واستيعاب العائد.
وترى منظمةالعمل الدولية، أن أكثر من 60% من السكان يعملون فى مجال الاقتصاد غير الرسمى، ويتركز أغلبهم فى الدول النامية، كما استحوذت هذه النوعية من الاقتصادات على ما يقرب 40% من الناتج المحلى، ذلك فى المدة بين 1990- 2015.
وطبقا لعدد من الدراسات الاقتصادية، فى المدة بين 2017:2018 اقتربت نسبة مساهمة القطاع غير الرسمى من الـ 50% من مجمل القطاعات الاقتصادية، وفيما يخص القطاعات الزراعية وقطاع الأسماك استحوذ على ما يقرب 70%، أما معالجة النفايات والإمداد المائى فتجاوز نصيبه 60%، فى حين غاب عن قطاعات بعينها أهمها قطاعات إمدادات الغاز والكهرباء، وأسواق المال والتأمين.
نهج الدولة:
وفى هذا الصدد تحديدا، انتهجت الدولة عدة أطر فيما يخص التحفيزات ومنح التسهيلات المختلفة للاقتصاد غير الرسمى، لا سيما ما تعلق بالإعفاءات الضريبية والمنح المجانية، مع التصاريح المختلفة والمظلات التأمينية والاجتماعية، فضلا عن جميع ما يؤمن ممارسات هذه الاقتصادات غير المنظمة وعمالتها.
يأتى فى مقدمة هذه الأطر، قانون تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة والمتناهية الصغر لسنة 2020، وجاء شاملا فيما أتاحه من ضمانات لتحسين الكفاءة الإنتاجية لهذه المشروعات واستمراريتها، والأهم تخفيف الأعباء الضريبية عن أصحاب المشروعات، أو بمعنى أكثر دقة، انتهاج نظم ضريبية غير معقدة تقترب من التصاعدية، فمثلا فى حال بلغت الإيرادات السنوية ما يقرب 250 ألف جنيه تكون الضريبة ألف جنيه سنويا، وحال بلوغها 500 ألف جنيه سنويا تكون الضريبة 2500 جنيه سنويا، وعند تراوح الإيرادات السنوية بين مليون إلى مليونين تفرض الضريبة بما يعادل 0.5%، وما بين مليونين إلى 3 ملايين تعادل الضريبة0.75 %، وهكذا بشكل تصاعدى، أضف أيضا حجم الإعفاءات من رسوم التوثيق وعقود التسهيلات الائتمانية والإنشاءات وضرائب الأرباح الرأسمالية، وبالطبع جميعها تخضع للاشتراطات والإجراءات.
وربما الفيصل هنا، هو الإقرار الضريبى السنوى الذى يقدمه الممول أو صاحب العمل، وبموجبه يتم استبيان طبيعة النشاط وحجم الأعمال مع تقدير الإيرادات، وبديهى تتم محاسبة الممول طبقا للاشتراطات والإجراءات نفسها التى يحددها القانون، أيضا حدد نوعية المشروعات الخاضعة والجهات المنوط بها تقديم هذه الخدمات والتسهيلات.
غير أن الدولة وقبيل القانون أعلاه، كانت قد وضعت عملية دمج الاقتصاد غير الرسمى ضمن أبرز مستهدفاتها التنموية 2030، فطالما نظمت مصر العديد من المنتديات لوضع الرؤى بخصوص أهدافها التنموية، وربما تصدرت عملية دمج الاقتصاد غير الرسمى أبرز الطروحات، لما له من تأثيرات مباشرة فى العملية التنموية، وتم وقتها صياغة التحفيزات والتسهيلات نفسها مع الفوائد المخفضة، إلى جانب المنح والأراضى والمناطق الصناعية أيضا المؤهلة لمختلف الأنشطة، فى تحركات فعالة من أجل الدفع برواد هذه الأعمال، وبالتوازى مع هذه التحركات جرت محاولات تقدير قيم الاقتصاد غير الرسمى ومعرفة نسب مساهمته فى الناتج المحلى، إلى جانب إبراز فوائد الدمج ومزايا عائد الاقتصادات الرسمية.
وطبقا لاستبيان أجراه صندوق النقد العربى، فيما تعلق بالاقتصاد غير الرسمى، أثبت ضرورة تطبيق المعايير الدولية المتعلقة بالتعريفات والمنهجيات الصادرة عن منظمة العمل الدولية خلال إحصاءات القطاع غير الرسمى والعمالة غير الرسمية، أيضا فيما تعلق بآلية إعداد الإحصائية والخاصة بالاقتصاد غير المنظم، فإما عبر المسح الخاص لوحدات الإنتاج، أو عبر تقديرات الإنتاج والقيمة المضافة لهذه الاقتصادات لتحديد مجمل إسهاماتها، أيضا أبرز الاستبيان أهمية تنسيق السياسات الحكومية تجاه الاقتصاد غير الرسمى، وما تقتضيه هذه السياسات من تحفيزات وتبسيط إجراءات بهدف الدمج، وهو ما يتماشى والنهج المصرى.
مسببات وتداعيات:
وربما ليس بمستغرب أن نطالع بين مدة وأخرى بتزايد واتساع نشاط الاقتصادات غير الرسمية، لتتوازى فى حجم مساهماتها والاقتصاد الرسمى، لا سيما مع بروز عدة من العوامل وجهت بدورها رواد هذه النوعية من الاقتصادات إلى المضى قدما، دون مراجعة لممارساتهم وأنشطتهم، بالطبع! أهمها كثرة الإجراءات الروتينية والنظم الضريبية المعقدة، ومعاناة شرائح كاملة من الأفراد من التهميش الاقتصادى مع عدم تمتعها ببعض المزايا المجتمعية، أضف أيضا رءوس الأموال المتواضعة لمعظم هذه المشروعات مع انخفاض مستويات التعليم والتأهيل المهنى، والأصعب الأوضاع الاقتصادية المعاصرة ومؤشراتها المتراجعة، لا سيما عقب الأزمات الاقتصادية العالمية، وجنوح بعض الدول إلى سياسات الخصخصة والرأسمالية، وربما ما يؤخذ على قانون تنظيم معاملاتها، أنه على الرغم من حجم المزايا والتحفيزات التى أتاحها، فإنه لا يستقيم أن تجرى المعاملات نفسها لكلا النوعين من المشروعات سواء الكبيرة أو متناهية الصغر، لا سيما فى ظل التحديات التى تعاصرها الأخيرة، وجميعها تحركات تأتى فى إطار مقتضيات الدمج.
وإن كانت الاقتصادات غير الرسمية، أثرت بشكل سلبى فى الموازنة العامة للدولة، على خلفية استفادتها من الموارد، دون مساهمتها فى إيرادات البلاد الرسمية، وتحديدا الحصيلة الضريبية، إلى جانب الغموض وعدم إيضاح أو توفر البيانات الرسمية بشأن حجم أعمالها وأرباحها، ومن ثم صعوبة التقدير السليم لمؤشرات الدولة الاقتصادية والمتعلقة بنسب النمو، البطالة والتضخم، أيضا تداعيات هذه الاقتصادات غير الرسمية على الاقتصادات الرسمية عبر الاستحواذ على أنصبتها المستحقة لها من تسهيلات الدولة وإمكاناتها، إلى جانب ما تصدره للخارج من قناعات وأفكار تجاه المنتجات المحلية خاصة فيما يتعلق بغياب الجودة أوالمعايير الفنية، والأهم ما تسببه من ضغوط على الوضع الاقتصادى للبلاد بشكل عام، وهو ما يبرز فى ارتفاعات نسب الإنفاق العام.
إلا أن نظرية القبول بحتمية دمج الاقتصاد غير الرسمى تستوجب المراجعة، لا سيما مع صعوبة التطبيق، فتبرز هذه العملية كونها أشبه بالمستحيلة ليس فقط لازدياد وتوسع هذه الاقتصادات وغير المنظمة، لكن لما لها من آثار إيجابية وفعالية تجاه شرائح كاملة من المجتمع، ربما لا يستوعبها الاقتصاد الرسمى، ذلك بخلاف حجم الانتعاشة التى تحققها بالأسواق سواء على مستوى السلع والخدمات أو السيولة النقدية، فضلا عن الأطر الديناميكية العالية والقدرة السريعة على اقتحام الأسواق والوفاء باحتياجات قطاعات عريضة من السكان، خاصة الشرائح المتواضعة، هذا بالإضافة إلى إمكانية إعادة التدوير، وربما ترك نسبة منها، أو فلترتها مع فتح المجال أمامها، قد يفيد الأوضاع الاقتصادية. وطبقا لدراسات قريبة، يعمل فى بالاقتصاد غير الرسمى مصر تحديدا نحو 50% من العمالة غير الزراعية، و63% من إجمالى المشتغلين فى جميع القطاعات بما فيهم الزراعية، ويسهمون بما يعادل 30% إلى40% من إجمالى الناتج المحلى، وجميعها نسب عُدت مرتفعة نوعا ما، إذا ما قورنت بدول عربية مجاورة أو حتى غربية.
وربما نتفهم أن يتم الدمج الجزئى بخطة موسعة وعلى مراحل، وهنا لا بد من بحث آلية لكيفية تقدير تأثيرات هذه الاقتصادات ونسبها المحتملة عقب عملية الدمج وكيف أثرت إيجابيا، مع تخصيص هيئات معاونة تكون مهمتها الإشراف والمتابعة مع إجراء التقديرات المطلوبة.