إن وجود الولايات المتحدة على رأس العالم كقوة مسيطرة وكقطب أوحد يرجع لعدة عوامل، من التفوق العسكرى إلى النجاح الاقتصادى إلى القوة الصناعية والوسائل الدبلوماسية الناجحة، وواحد من أهم العوامل التى تجعل الولايات المتحدة متفردة عالميا هو الدولار، بفضل هيمنته على التجارة العالمية ونظام "البترودولار" فالدولار الأمريكى هو العملة الأكثر استخداما والأقوى عالميا فى النظام الدولى الراهن، وخير دليل على تلك الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة هو تصريح الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب فى خطاب ألقاه بولاية فلوريدا مطلع إبريل الماضى: "عملتنا تنهار، وقريبا لن يكون الدولار هو العملة العالمية، إنها هزيمة غير مسبوقة فى ٢٠٠ عام، وهذا سيبعدنا عن مكانتنا كقوة عظمى"، وبدون أدنى شكفإن من أكبرالتهديدات لتلك السيطرة تتمثل فى تحالف "بريكس" الصاعد بقوة، وفيما يلى نتعرف إلى المصطلح، ومن أينأتى؟ وأين تكمن قواه؟ وماهية موارد الدول الأعضاء؟ وما مدى تأثيره فى الاقتصاد العالمى فى الحاضر والمستقبل؟
بريكس (هو اختصار لأسماء الدول ذات أسرع نمو اقتصادى فى العالمB.R.I.C.S )، وهى: البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا، أسست المجموعة عام ٢٠٠٩ بالدول الأربع الأوائل وانضمت الأخيرة فى ٢٠١٠، وربما من أهم الأسباب التى أدت إلى تأسيسه هى السياسة أتبعها الغرب والولايات المتحدة مع روسيا والصين بحجة أنهم يرون أن الأخيرتين دول تدار بأنظمة سلطوية وغير ديمقراطية ما أدى إلى بحثهما عن تكتلات وحلفاء يتوافقون مع سياساتهما.
أولا- مميزات ونقاط القوة لتحالف"بريكس":
يتمتع التكتل بالعديد من المميزات من ضمنها وربما أكبرها هى الرقعة الأرضية التى تنتشر خلالها الدول الأعضاء؛ حيث يمتد التكتل بأعضائه الخمسة فى أربع قارات، مايغطى٣٩.٧ مليون متر مربع،أى تقريبا ٢٧% من مساحة العالم،ما يجعل التكتل يتحلى بالكثير من الموارد المتنوعة ذات القيمة اللازمة للنمو والازدهار؛ حيث تتمتع البرازيل بثروة زراعية مميزة، كما أن روسيا وجنوب إفريقيا غنيتان بموارد معدنية وباطنية هائلة،وتمتازالهندبالموارد الفكرية غير المكلفة إلى جانب التقدم التكنولوجى، فضلاعن الصين ذات القاعدة الصناعية والإنتاجية الكبيرة. وأيضا يمتلك التكتل قوة بشرية ضخمة تمثل سوقا تجارية رحبة؛ حيث يمثل سكان الدول الأعضاء تقريبا ٤٠% من سكان العالم، فضلا عن تطورها الاقتصادى وسرعة نموها فقد وصلت مساهمة مجموعة "بريكس" فى الاقتصاد العالمى إلى ٣١.٥%، فيما توقفت مساهمة مجموعة الدول الصناعية السبع عند ٣٠.٧% فكل هذه العوامل وأكثرأسهمت فى جعله جهة عالمية لا يستهان بها.
ثانيا- مظاهر استياء الدول من "التجارة الدولارية":
بالتأكيد وجود كيان مثل هذا يهدد عرش الدولار الأمريكى،ولكن علينا ألا ننسى ربما أكبر عامل قد يساعده وهو استياء العديد من دول العالم خصوصا الدول النامية من "التجارة الدولارية" التى تعكس معنى سيطرة الدولار على عمليات التجارة العالمية ما يمنحه قوة على حساب عملاتهم المحلية؛ حيث تطور الأمر لتصريح قادة بعض الدول علنا بهذا الاستياء، وربما أكبر الأمثلة الحية لهذه التصريحات جاءت من الرئيس البرازيلى "لولا دا سيلفا"؛ حيث إنه يرى أنه لا يرى أى منطق فى إجراء الدول لتجارتها بدعم من الدولار بدلا من أن تقوم بها بدعم من عملاتها المحلية، إلى جانب تصريح رئيس وزراء ماليزيا "أنورإبراهيم" أنه ليس هناك سبب يجعل ماليزيا تستمر فى الاعتماد على الدولار، وتابع إن دولته فى مفاوضاتها مع جارتها إندونيسيا تثيران مسألة استخدام عملتى البلدين فى التبادل التجارى، إلى جانب زيادة الدعوة للتخلى عن الدولار من روسيا عقب اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية بسبب استخدامه كأداة عقابية على روسيا، وقد أعرب الرئيس الروسى بوتين عن النية لإنشاء عملة مشتركة تعتمد على سلة من عملات دول المجموعة، فبالتأكيد مثل هذه التصريحات والتوجهات تثير قلق واهتمام الولايات المتحدة للمستقبل الذى لم تتضح معالمه بعد.
ثالثا- استراتيجيات تحالف "بريكس" للتوسع:
قد بدأت ملامح وسياسات التوسع لمجموعة "بريكس" عقب تداعيات وعواقب فيروس كوفيد-١٩ على العالم؛ حيث أدى تدهور الأحوال الاقتصادية للعديد من البلدان لمناقشة الدول الأعضاء مسألة التوسع، ربما أول معالم ذلك التوسع هو فتح باب الانضمام إلى بنك التنمية الجديد ألا وهو البنك الخاص بتحالف "بريكس"الذى تصل ميزانيته حسب آخر المؤشرات إلى مائة مليار دولار تحت إدارة الدول الأعضاء الخمس، ويعمل البنك على دعم المشروعات العامة أو الخاصة من خلال الضمانات والقروض والمشاركة فى رأس المال.
وشهد عام ٢٠٢١ انضمام دول مثل بنجلاديش وأوروجواى والإمارات، وفى مارس ٢٠٢٣ انضمت مصر رسميا إلى بنك التنمية الجديد بموجب قرار جمهورى، ويتم الترويج لبنك التنمية ككيان يتمتع بالاستقلالية وغياب المشروطية التى أضر من خلالها صندوق النقد الدولى والبنك الدولى بالعديد من الدول خاصة الدول النامية، فمثل هذه السبل تجذب العديد من البلدان للانحياز إليه، والتخلي عن الكيانات التى تدار بتوجهات غربية، ومع انعقاد قمة "بريكس" فى أغسطس المقبل بجنوب إفريقيا التى قد تناقش مسألة العملة البديلة مع مناقشة قضية الدول المرشحة للانضمام إلى المجموعة؛ حيث أعلن المندوب الجنوب إفريقى تلقى المجموعة طلبات رسمية للانضمام إلى المجموعة من قبل ٢٢ دولة، ومع تأكيد المجموعة انفتاحها على التوسع يبدوأن "بريكس" على الطريق الصحيح لتحقيق على الأقل بعض من أهدافه.
رابعا- التحديات والعوائق التى تواجه "بريكس":
سبق أن تم تأكيد أن"بريكس" هو تحالف اقتصادى يمثل تحديا كبيرا للسيطرة الاقتصادية والنقدية للولايات المتحدة والدولار، ولكن تلك القضية تظل ضبابية فى الوقت الحالى؛حيثتواجه العديد من التحديات التى تتمثل فى امتلاك الدولار حصة كبيرة من احتياطيات دول العالم من النقد الأجنبى متمثلافى ١٣ تريليون دولار أى ٥٨.٣٥% من إجمالى احتياطيات الدول من النقد الأجنبى، وعلى الرغم من أن هذه النسبة انخفضت على مدى السنوات الماضية فإنها لا تزال نسبة هائلة، وأيضا يمثل وجود نظام "البترودولار" الذى بموجبه تتم تجارة النفط بالدولار إلى جانب العديد من السلع الاستراتيجية مثل الذهب وغيره الذى يتم التجارة فيها بواسطة الدولار عائقا كبيراأمام التكتل، وعلى الناحية الأخرى فعدم تجانس الأعضاء واتحاد أفكارهم ونياتهم تجاه بعض القضايا المتعلقة بالتوسع، مثل توحيد العملة ووجهة نظرهم تجاه النظام الدولى القائم قد تمثل عائقا فى سبيل نجاح المجموعة فى آمالها، فهل تستطيع دول التكتل وضع اختلافاتها تجاه تلك القضايا جانبا وتبنى استراتيجيات ترضى كلالأطراف؟
فى نهاية المطاف، كل العوامل التى سبق ذكرها بالإضافة إلى الحذر الذى يحوم حول قضية الدولار تحديدا؛ فقادة التحالف لا يريدون أخذ قرارات متهورة ومتسرعة تضعنا أمام حرب اقتصادية طولية الأمد؛ حيث يتوقع خبراء مجموعة "جولدمان ساكس البنكية" أن يكون التكتل من أقوى وأنجح التكتلات، وربما يكون ندا قويا للدولار بحلول عام ٢٠٥٠، فيبقى فى النهاية السؤال: هل تستطيع الدول الأعضاء تشكيل استراتيجية طويلة المدى لزعزعة هيمنة الدولار وبدء حقبة اقتصادية عالمية جديدة أم يكون مجرد أمل مبالغ فيه؟