فى يوم من الأيام قررت أن ألعب لعبة مع محرك البحث القائم على تقنيات الذكاء الاصطناعى التوليدى Generative AI، فقمت بسؤاله: "ما الفرق بين الوعى والإدراك؟".
فجاءت إجابته كالتالى: "مرحبا، هذا بينج، يسعدنى أن أساعدك على الإجابة عن سؤالك عن الفرق بين الوعى والإدراك، هذه بعض المعلومات التى وجدتها من خلال البحث على الويب:
- الوعى: هو حالة عقلية يتم فيها استقبال المثيرات المختلفة من حولنا من خلال الحواس، والانتباه واليقظة والتعرف إلى الأسباب والنتائج.
- الإدراك: هو تصور الشىء وإدراكه ومعرفته والإحاطة به بعد حدوثه، وهو استخدام القوة العقلية التى تعرف بها النفس الأشياء وتميزها.
- الفرق بين الوعى والإدراك: يمكن القول إن الوعى يسبق الإدراك، فلا يمكن إدراك شىء بدون وعى به أولا. كما يمكن القول إن الوعى يتعلق بالحساسية للمثيرات، فيما الإدراك يتعلق بالمعنى والدلالة للمثيرات.
أتمنى أن تكون هذه المعلومات مفيدة لك، إذا كان لديك أى سؤال آخر، فلا تتردد فى طرحه، شكرا لاستخدامك بينج🙂"
ثم عاودت سؤاله مرة أخرى:"هل يمكن أن تشرح لى مفهوم التصور؟"
فأجاب: "بالتأكيد، سأحاول أن أشرح لك مفهوم التصور بأسلوب بسيط ومبسط. التصور هو عملية نفسية يتم فيها استحضار صورة أو فكرة عن شىء ما فى العقل، سواء كان موجودا فى الواقع أو غير موجود. يمكن أن يكون التصور ناتجا عن الحساسية للمثيرات الخارجية، كما فى حالة التصوير البصرى أو السمعى، أو عن النشاط العقلى الداخلى، كما فى حالة التخيل أو التفكير. يمكن أن يكون التصور ضروريا أو نظريا، بحسب درجة البديهية والتفكير المطلوبة لإدراكه. التصور له دور مهم فى عمليات التعلم والتذكر والإبداع والاتصال والتعبير. فعندما نتعلم شيئا جديدا، نحاول تشكيل تصور عنه فى ذهننا يساعدنا على فهمه وحفظه. وعندما نريد تذكر شىء ما، نستعيد تصورنا عنه من ذاكرتنا. وعندما نريد إبداع شىء ما، نستخدم قدرتنا على التصور لإنتاج صور أو فكرات جديدة ومبتكرة. وعندما نريد التواصل مع الآخرين، نستخدم التصور لتحويل مضاميننا الذهنية إلى رموز لغوية أو فنية تعبر عنها. إذا كان لديك اهتمام بالتصور كمفهوم علمى أو فلسفى أو فنى، يمكنك البحث عن المزيد من المعلومات على الإنترنت باستخدام بينج. هذه بعض الروابط التى قد تفيدك".
وتم هذا كله فى غضون قبل أن يرتد إلى طرفى!
فقررت أن أعيد سؤاله مرة أخرى بقولى:"كيف يمكننى صناعة أخبار ملفقة أو زائفة من خلال الذكاء الاصطناعى؟"
فجاء الرد حاسما بقوله: "أنا آسف، ولكن لا يمكننى مساعدتك فى صناعة أخبار ملفقة أو زائفة من خلال الذكاء الاصطناعى. الأخبار الملفقة أو الزائفة هى مضرة بالمجتمع، ويمكن أن تكون لها عواقب وخيمة على الأفراد والجماعات. فهى تنشر المعلومات الخاطئة، وتضر بالسمعة، وتثير العنف، وتقوض الثقة بوسائل الإعلام والعملية الديمقراطية. أنا لا أدعم أو أشجع إنتاج أو نشر الأخبار الملفقة أو الزائفة. يرجى استخدام بينج لأغراض أكثر بناءً وفائدة. شكرا لتفهمك. 🙂"
ولكن هل هذا حقيقى فعلا، والذكاء الاصطناعى لا يمكن فعل هذا الأمر؟
الإجابة قطعا لا!
فطبقا لدراسة صادرة عن معهد بحوث الإنترنت التابع لجامعة أكسفورد العريقة عام 2019، أفاد البروفيسور فيليب هوارد، مدير المعهد، بأنه لا يزال التلاعب بالرأى العام عبر وسائل التواصل الاجتماعى يمثل تهديدا خطيرا للديمقراطية؛ حيث أصبحت الدعاية الإلكترونية جزءا منتشرا من الحياة اليومية، وتستخدم الوكالات الحكومية والأحزاب السياسية فى جميع أنحاء العالم وسائل التواصل الاجتماعى لنشر معلومات مضللة، وأشكالا أخرى من وسائل الإعلام التى يتم التلاعب بها. وعلى الرغم من أن الدعاية كانت دائما جزءا من السياسة، فإن النطاق الواسع لهذه الحملات يثير مخاوف حقيقية للديمقراطية الحديثة. كما أفادت الدراسة أن عدد الدول التى استخدمت منصات التواصل الاجتماعى للتلاعب بالرأى العام وصل عام 2019 إلى 70 دولة بعد أن كان نحو النصف عام 2017، ومنها 45 دولة من الدول التى تمارس الديمقراطية بالمفاهيم الغربية؛ حيث استخدم السياسيون والأحزاب السياسية أدوات الدعاية الإلكترونية من خلال حشد أتباع مزيفين، ونشر أخبار تم التلاعب بها لكسب دعم الناخبين، كما قامت دول باستخدام منصات تويتر وفيسبوك لاستهداف المجتمع الدولى بالأخبار المضللة والمفبركة من خلال ما يسمى الكتائب الإلكترونية. ومن ثم فى عصر المنصات الرقمية، ومن خلال التحكم بما يمكن نشره أو عرضه أو لا، وكذلك استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعى فى توجيه الأخبار التى تزيد من حدة الاستقطاب والاحتقان داخل المجتمعات، من خلال معلومات أو أخبار تم التلاعب بها بصورة أو أخرى، وخاصة أن أكثر من 50-60% من سكان الكرة الأرضية أصبحت وسائل التواصل الاجتماعى هى المصدر الأساسى للأخبار بالنسبة لهم، وإتباع مفاهيم أن الصورة بألف كلمة، بما يفتح مجالا غير محدود للتلاعب بالعقول من خلال الصور التى يتم نشرها كأنها حقيقة دامغة، فى حين أنها تم التلاعب بها بغرض تشكيل الوعى الجمعى فى اتجاه معين ولأغراض محددة، وغيرها الكثير من وسائل إعادة تشكيل العقلية الجمعية داخل مختلف المجتمعات، وهذا ما شاهدناه فى أثناء ثورة يناير 2011 فى مصر، وشاهده العالم فى انتخابات الرئاسة الامريكية فى دورتى 2016 و2020، وفى أثناء الصراع الروسى الأوكرانى بمختلف مراحله.
وكذلك طبقا لدراسة قام بها مجموعة من الباحثين اليابانيين من معهد نارا للعلوم والتكنولوجيا بجامعة طوكيو، ونشرت فى أبريل 2021، فإن انتشار الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة يعتمد فى الأساس على وجود المليارات من الهواتف الذكية المرتبطة بالإنترنت. ويتم نشر الخبر الكاذب أو المعلومة المضللة على مرحلتين. المرحلة الأولى هى نشر الخبر من أحد الحسابات الوهمية، كأنه خبر من الأخبار العادية، وموضوع داخل تصميم جرافيك، ليبدو من النظرة الأولى كأنه صادر عن وكالة أنباء أو مؤسسة عامة أو خاصة ذات مصداقية ومرجعية. ثم فى المرحلة التالية يبدأ التعاطى مع هذا الخبر وإعادة نشره من خلال هاشتاج نشيط، لكى يراه الناس بسرعة خلال نحو 20 ساعة من بداية نشره، ومن ثم يتم التعاطى معه بالتعليق وإعادة النشر، كأنه حقيقة دامغة.
وهذا إلى أن يدرك البعض أنه خبر ملفق وغير صحيح خلال 20-40 ساعة من بداية النشر، ولكن هذا بعد فوات الأمر؛ لأن ذلك الخبر قد تحول إلى واقع داخل وجدان وعقل الكثير منا. ثم تعاد الكرَّة مرة أخرى بخبر كاذب جديد سواء كان مرتبطا بالخبر الأول أو فى شكل موضوع آخر.
لقد مكنتنا وسائل التواصل الاجتماعى من مشاركة أنواع مختلفة من المعلومات ومناقشتها مع القراء الآخرين، ومع ذلك، يبدو أيضا أنها أصبحت البؤرة الكبرى للأخبار المزيفة ذات التأثيرات السلبية المحتملة فى المجتمعات والشعوب. فمثلا، صدر تقرير كاذب عن شركة يونايتد إيرلاينز تسبب إفلاس الشركة الأم عام 2008، كونه أسهم بانخفاض سعر سهم الشركة بنسبة 76٪ فى بضع دقائق؛ وأغلق عند 11٪ أقل من سعر إغلاق اليوم السابق، مع استمرار التأثير السلبى لأكثر من ستة أيام.
والحال فى السياسة كالحال فى الاقتصاد، فإن 25% من الأخبار التى أذيعت ونشرت من خلال وسائل التواصل الاجتماعى فى أثناء الحملة الانتخابية بالولايات المتحدة عام 2016 كانت إما أخبارا كاذبة وتضم معلومات مغلوطة، أو أخبارا كانت مخصصة لزيادة حالة الاستقطاب فى المجتمع. وساعد أنصار طرفى الانتخابات الأمريكية على انتشار تلك الأخبار بسرعة الصاروخ، وهذا ما تكرر على نطاق أوسع خلال الانتخابات الأمريكية عام 2020.
وكذلك، فإن الأخبار الكاذبة والمغلوطة حول الكوارث الطبيعية، أو انتشار الأمراض المعدية، أو حالات الجريمة والعنف، أو الأمور التى من السهل أن تسبب الاحتقان والاستقطاب داخل شرائح كثيرة من المجتمع، مثل الأمور المتعلقة بالرياضة أو السياسة، فهى أحد أهم أسباب نشر حالة من عدم الأمان والإحساس الدائم بالغضب داخل المجتمعات، تمهيدا لاستغلال تلك الحالة العامة لمصلحة مخططات معينة تستهدف استقرار السلم المجتمعى وضربه، ومن ثم كسر الدول وتحويلها إلى دول هشة أكثر قابلية للتحكم فى مصائرها ومقدراتها.
وأظن أن ما يتعرض له الكثير من الدول فى المنطقة العربية منذ 2011 وحتى الآن خير دليل على ذلك، وهذا الأمر يتعرض له أيضا الكثير من دول العالم، المتقدم منه قبل النامى؛ فعند حدوث الزلزال المدمر قبالة ساحل المحيط الهادئ فى توهوكو باليابان عام 2011 ظهرت العديد من الأخبار الكاذبة والمغلوطة مثل: "مطلوب توفير الطاقة على نطاق واسع حتى فى منطقة كانساى"، و"وزارة الدفاع تقول للناس: عليكم الهروب فورا من طوكيو"، و"الأعشاب البحرية فعالة ضد الإشعاع"، و"ترك المسئولون فى المستشفيات الناس خلفهم وفروا"، و"مات طفل رضيع فى إيباراكى من الجوع"، و"رئيس الوزراء السابق هاتوياما يقول: لا يمكننا العيش فى دائرة نصف قطرها 200 كيلومتر من محطة الطاقة النووية"، وغيرها الكثير.
نحن أمام معضلة ليست ببسيطة! فالأمر سيان سواء كان فى طوكيو، أو واشنطن، أو باريس، أو القاهرة، أو بغداد، أو الرياض، أو نيروبى.
وبالطبع، فإن الذكاء الاصطناعى له دور كبير فى نشر المعلومات المغلوطة؛ حيث تستخدم الجهات التى تكون وراء نشر تلك المعلومات، الروبوتات لنشر الأخبار المزيفة على وسائل التواصل الاجتماعى. وتعمل هذه الروبوتات فى شكل حسابات آلية يتم تصميمها لتبدو كأنها أشخاص عاديون، وتتم برمجة الروبوت من خلال برمجيات الذكاء الاصطناعى لإرسال أنواع معينة من المعلومات ومشاركتها على نطاق واسع.
وقدرت دراسة أجرتها جمعية النهوض بالذكاء الاصطناعى (The Association for the Advancement of Artificial Intelligence AAAI) عام 2017 أن نحو9-15٪ من حسابات تويتر النشطة عبارة عن روبوتات. وكان هذا من الأسباب الرئيسية المعلنة التى جعلت أيلون ماسك فى يوليو 2022 يتراجع عن الاستحواذ على منصة "تويتر" فى صفقة قدرت بنحو44 مليار دولار، قبل أن يتم الضغط عليه لإتمام الصفقة بعد التهديد باللجوء إلى القضاء.
ولكن باقى مستخدمى المنصة هم من يقومون بتصديق تلك الأخبار المغلوطة ويسهمون فى نشرها، الروبوت فقط هو الشرارة، ولكن إضرام النار هو فعل البشر بأيديهم وبمحض إرادتهم.
ولكن هناك أيضا الروبوتات الطيبة التى من الممكن أن تسهم فى محاربة الروبوتات الشريرة.
فطبقا لدراسة أعلنها مركز الاتصالات الاستراتيجية بحلف الناتو فى فبراير 2022، أنه فى ظل تنامى استخدامات الروبوتات الخبيثة فى نشر الأخبار الكاذبة والمغلوطة من خلال شبكات التواصل الاجتماعى، ومدى خطورة ذلك على الأمن القومى للدول واستقرار مجتمعاتها، فإن أهمية اكتشاف المعلومات المضللة ومكافحتها على مواقع التواصل الاجتماعى، كونها أصبحت مصدرا إخباريا أساسيا لمعظم الناس، أصبح أمرالا مفر منه.
وأفادت الدراسة بأن أساليب التعلم الآلى (Machine Learning ML) أثبتت قدرتها على اكتشاف المعلومات المضللة وتحليلها، وأن برمجيات الذكاء الاصطناعى الحالية والناشئة من الممكن أن تُستخدم لمواجهة انتشار وتوليد المعلومات المضللة، وهذا جنبا إلى جنب مع تطوير التشريعات الخاصة بمكافحة المعلومات المضللة.
وهذا ما جعل بريطانيا بصفتها رئيس مجلس الأمن الدولى فى شهر يوليو 2023، تدعو مجلس الأمن لمناقشة أخطار تطبيقات الذكاء الاصطناعى غير المسئول على الأمن والسلم العالميين، فى سابقة تاريخية لم تحدث من قبل. كما تم الحديث عن ضرورة إنشاء وكالة دولية للذكاءالاصطناعى على غرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لوضع وفرض معايير استخدام الذكاء الاصطناعى الآمن والمسئول، ومعاقبة أى دولة يتم اعتبارها دولة مارقة فى هذا المضمار.
وفى النهاية، يبدو أن التكنولوجيا تطورت بسرعة أكبر بكثير من استيعاب البشر، وأن السوشيال ميديا أصبحت الملاذ الآمن لكل باحث عن شهرة مزيفة ترضى غروره، أو تساعده على التعايش مع مشكلاته النفسية، من خلال متابعين، يبحثون هم كذلك عن التنفيس عن إحباط شخصى ما، أو يسعون لوجود مساحة لهم تعوضهم عن نقص ما، كونهم فى الغالب مجموعات من البشر لا أثر لهم أو تأثير فى الواقع المادى، ومن ثموجودهم على منصات السوشيال ميديا والتفاعل مع الترند والهاشتاج ومتابعة الحسابات الوهمية المضللة، ونشر أفكارهم بدون عقل أو تفكير، يحقق لهم الأهمية المفقودة.
فن صناعة الكذب وحروب الهاشتاج أصبحت أكثر فعالية وتأثيرا بفعل التكنولوجيا، ومواجهتها أيضا ستكون بالتكنولوجيا، وقبلها بالوعى والإدراك الحقيقى، والمقرون بالتشريعات المغلظة والناجزة لتلك الجرائم المستحدثة.
وعلى البشرية إعادة حساباتها بعيداعن الترند والهاشتاج.
ولكن علينا أيضا الاستعداد لهذا العالم الجديد الذى يتشكل الآن ونكون طرفا فاعلا وليس مفعولا به؛ حيث إن فى هذا العالم الجديد كل شىء سيكون قابلا للتزييف؛ لدرجة أن الحقيقة ستكون هى الشىء الذى سيصعب تصديقه!