خلال المؤتمر الصحفي للمتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخروفا، على هامش انعقاد القمة الروسية الإفريقية الثانية، بمدينة سان بطرسبرج، تحدثت المسئولة الروسية، ردا على تساؤلي حول تفسير الانفتاح الروسي نحو القارة الإفريقية في هذا التوقيت؟، والذي تترجمه شواهد عديدة، لعل أبرزها قيام وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بأربع جولات إلى الدول الإفريقية خلال العام الماضي فقط.
وبعيدا عن حسابات الظرف الدولي المرتبط بتطورات وتداعيات الحرب الأوكرانية على روسيا وإفريقيا، فسَرت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، سبب ابتعاد بلادها لفترة عن القارة الإفريقية، خصوصا في الفترة التي تلت الحرب الباردة وصولا لبداية الألفية الجديدة، وقالت أن روسيا تستعيد تواجدها مرة أخرى في إفريقيا، خاصة وأنها دعَمت دول القارة سابقا لنيل استقلالها، وأرجعت فترة الابتعاد إلى قيام الحكومة الروسية بإعادة هيكلة قانونية وصياغة جديدة لمسار العلاقات مع القارة الإفريقية بما يتوافق مع قواعد القانون الدولي وأيضا مع قدراتها ويمكنها من القيام بدور شريك "حقيقي ومضمون" مع إفريقيا في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والإنسانية، وهو ما يفسر الحرص الروسي على دورية انعقاد القمة الروسية الإفريقية كل ثلاث سنوات، كأهم حدث في مسار العلاقات والشراكة بين الجانبين.
وبغض النظر عن الرواية أو التفسير الروسي، للانفتاح تجاه قارة إفريقيا، فالمراقب والمتابع لمسار التعاون بين الجانبين، يجد أننا أمام إعادة صياغة لرؤية جديدة لعلاقات موسكو مع دول إفريقيا، على الصعيدين الثنائي والشراكة الجماعية، رؤية تتبناها الحكومة الروسية وفقا لأجندة مصالحها في القارة، وتتخذ مساحات تحركها من بوابة نقاط الضعف والتحديات أمام تواجد القوى الأخرى صاحبة التأثير في القارة وخصوصا القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية وأيضا الصين.
من هذا المنطلق، تطرح هذه الخلفية، استفهاما أساسيا، حول أي قالب يمكن أن نضع فيه مسار العلاقات الروسية الإفريقية وكيفية النظر إليها؟، وكيف يراهن كل طرف على الأخر حاليا؟ وما الذي تمثله القمة الروسية الإفريقية لهذه الشراكة؟، ولطرح مقاربة تقدم إجابات لهذه التساؤلات، يقتضي الحديث عن محددات الموقف الروسي تجاه إفريقيا، ودلالات توقيت القمة الروسية الإفريقية ومستوى المشاركة فيها، فضلا عن التوقف مع أهم بنود إعلان سان بطرسبرج، وأيضا مع الرؤية المصرية للشراكة الثلاثية مع روسيا وإفريقيا، وختاما مع فرص وتحديات التوسع الروسي بإفريقيا.
أولا- دلالات توقيت القمة الروسية الإفريقية:
جاءت القمة الروسية الإفريقية الثانية، في توقيت وظروف دولية صعبة على الجانبين، الروسي والإفريقي، توقيت يفرض احتياج كل طرف للآخر، خاصة في ظل تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية المستمرة منذ عام وخمسة أشهر.
أ- على الصعيد الروسي:
تأتي الضغوط والعقوبات الغربية على الجانب الروسي، دافعا لوجهة موسكو نحو إفريقيا، وهنا ترى روسيا في تعزيز تواجدها بالقارة الإفريقية وعلاقاتها بالدول الإفريقية أهمية استراتجية لمواجهة العزلة الدولية، وتحقيق هدفها الاستراتيجي الخاص بإنشاء عالم متعدد الأقطاب، لذلك كثفت موسكو من قنواتها الدبلوماسية، وجولات مسئوليها بدول القارة الإفريقية خلال العام الماضي.
ولعل الشاهد على ذلك اتخاذ العديد من الدول الإفريقية موقفا محايدا بشأن الصراع في أوكرانيا، فخلال جلسة التصويت بالجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 مارس 2022، امتنعت 17 دولة إفريقية عن التصويت على قرار يدين روسيا، ضمن 35 دولة على مستوى العالم، وغابت 8 دول إفريقية عن جلسة التصويت، وصوتت دولة إريتريا ضد القرار. وهذا ما يفسر الانفتاح الدبلوماسي الروسي تجاه دول القارة.
وعلى مستوى التعاون التجاري والأمني، تعد موسكو أكبر مورّد للأسلحة إلى إفريقيا في اتجاه جنوب الصحراء، وتأتي بعدها الصين وفق إحصاءات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام حول صادرات الأسلحة عالمياً خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، وقدّر الرئيس الروسي حجم التبادل التجاري بين روسيا والدول الإفريقية بنحو 18 مليار دولار في 2022.
ب- على الصعيد الإفريقي:
في المقابل كانت الدول الإفريقية الأكثر تضررا من تداعيات تلك الحرب وخصوصا ما يتعلق بالأزمات الاقتصادية ووقف سلاسل الإمداد وتوريد الحبوب أحد الدوافع الرئيسية للتقارب الإفريقي مع موسكو، خاصة أن 40% من واردات القمح بالدول الإفريقية تأتي من روسيا وأوكرانيا، وبالتالي تنظر دول القارة لقمة الشراكة مع روسيا كضرورة قصوى لبحث حلول عاجلة لأزمات الأمن الغذائي بها، وخصوصا بعد إعلان موسكو الانسحاب من مبادرة حبوب البحر الأسود، ومن هنا تأتي الأهمية القصوى للقمة الروسية الإفريقية الثانية، عن غيرها من شراكات التعاون الدولي مع القارة الإفريقية.
وتفاقمت أزمات الغذاء بإفريقيا في ظل نقص واردات القمح والحبوب، داخل الدول الإفريقية، ووثق تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، حجم الخسائر الإفريقية، حيث زادت معدلات تضخم المواد الأساسية الغذائية في إفريقيا على المتوسط العالمي بنسبة 12.6 في المئة، أما الأزمة الأكبر فكانت في وقف حركة التبادل التجاري بين دول إفريقيا وكلا من روسيا وأوكرانيا، وخصوصا فيما يتعلق بواردات القمح والحبوب، حيث تمثل واردات القمح نحو نصف الحركة التجارية بين البلدان الإفريقية وأوكرانيا البالغة 4.5 مليار دولار عام 2021، كما تساوي 90 في المئة من مبادلاتها مع روسيا التي تبلغ أربعة مليارات دولار.
وكانت كلا من أوكرانيا وروسيا توفر 40% من احتياجا القارة من القمح، وأدت الحرب إلى نقص 30 مليون طن من الغذاء في إفريقيا، وتسببت في زيادة أسعار الغذاء بنسبة 40%.
كل هذه التداعيات، كانت دافعا لإعلان دول القارة الإفريقية منتصف يونيو الماضي مبادرة سلام لإنهاء الحرب الأوكرانية، باعتبارها الأكثر تضررا منها، تضمنت 10 نقاط، قدمها وفد وساطة من رؤساء دول وحكومات 7 دول إفريقية على الجانبين الروسي والأوكراني، لكن لم تحظى بتفاعل كافي من الطرفين.
ثانيا- قمة سان بطرسبرج.. الفاعلية والنتائج:
قمة "سان بطرسبرج"، هي ثاني منتدى يجمع الدول الإفريقية مع روسيا خلال السنوات الأربع الماضية، حيث كانت أول قمة في أكتوبر 2019، في مدينة "سوتشي" الروسية تحت شعار السلام والأمن والتنمية، ونص الإعلان الختامي لقمة سوتشي على عقد القمة بشكل دوري كل ثلاث سنوات، بالتناوب بين روسيا وإفريقيا، لكن حالت ظروف الحرب الروسية الأوكرانية دون انعقادها في الموعد المحدد أكتوبر الماضي في أديس أبابا بإثيوبيا، لتستضيف روسيا القمة الثانية على أراضيها يومي 27 و28 يوليو.
وخلال قمة سوتشي الأولى وقّع القادة الروس والأفارقة خلالها أكثر من 50 وثيقة للتعاون في مختلف المجالات، بقيمة تتجاوز 12.5 مليار دولار، كما أعلن بوتين خلالها شطب ديون بقيمة 20 مليار دولار مستحقة على الدول الإفريقية لمصلحة روسيا، في خطوة تهدف لتخفيف أعباء الديون عن كاهل الدول الإفريقية.
ومع الأهمية التي اكتسبتها القمة الثانية في سان بطرسبرج، ترقبت الأنظار حجم المشاركة فيها، حيث شاركت ٤٩ دولة إفريقية بوفود رفيعة المستوى، بينها ١٧ رئيس دولة إفريقية، وهي مشاركة اعتبرتها روسيا نجاحا دبلوماسيا، وسط ضغوط غربية مورست على بعض دول إفريقيا لعدم المشاركة، وهو ما أكده الرئيس بوتين، حيث أشار إلى أن ممثلي القارة الإفريقية أظهروا الإرادة السياسية واستقلالهم واهتماماتهم لإقامة التعاون وتعزيزها مع روسيا.
تضمنت أجندة القمة الروسية الإفريقية الثانية، مناقشة أربعة قضايا أساسية هي الأمن الغذائي وأمن الطاقة ونقل التكنولوجيا والرعاية الصحية، وتضمنت الفعاليات، إقامة المنتدى الاقتصادي والإنساني الروسي الإفريقي، الذي تضمن عقد ٣٨ جلسة نقاشية، وشهد توقيع عديد من الاتفاقيات بين الجانبين.
وبالنظر لفعاليات قمة الشراكة الروسية الإفريقية الثانية، فقد ركزت مناقشاتها، وأحاديث القادة المشاركين فيها، على بحث تداعيات الحرب الأوكرانية على القارة، وسبل دعم روسيا لإفريقيا في هذا التوقيت، فضلا عن تجديد طرح المبادرة الروسية لإنهاء الحرب بتسوية سلمية، وهو ما تمت ترجمته في بنود البيان الختامي لتلك القمة، الذي تضمن خطة عمل مع إفريقيا حتى عام 2026 تهدف لزيادة التبادل التجاري وبنيته التحتية والتعامل بالعملات المحلية.. وإجمالا يمكن بلورة أهم ما خرج في قمة سان بطرسبرج في النقاط التالية:
١- التعاون السياسي: من خلال دعم مشاركة إفريقيا في المحافل الدولية وخصوصا في مجموعة العشرين وفي تجمع بريكس، مع توافق رؤى الجانبين بإقامة ب تشكيل نظام عالمي عادل ومُتعدد الأقطاب يقوم على مبادئ القانون الدولي.
٢- التعاون التجاري واستخدام العملات الوطنية: نص الإعلان على اتفاق روسيا وإفريقيا على زيادة التجارة نوعاً وكماً، فضلاً عن استخدام العملات الوطنية في المعاملات التجارية، وفق الرئيس الروسي.
٣- تصدير الحبوب مجانا: وهو ما وعد به بوتين باستمرار إمداد الدول الإفريقية بالحبوب سواء على أساس تجاري أو مجاني، وقال أن بلاده ستقدم الحبوب مجاناً لـ6 دول إفريقية خلال 3 أو 4 أشهر، وذلك بتوفير 50 ألف طن من الحبوب مجاناً إلى بوركينافاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية إفريقيا الوسطى وإريتريا خلال الأشهر المقبلة.
٤- تخفيف الديون وبرنامج مساعدات مالية: في هذا الإطار أعلن بوتين، أنّ روسيا ستخصّص نحو 90 مليون دولار إضافية للدول الإفريقية لتخفيف الديون، كاشفاً أنّه حتى الآن تمّ شطب نحو 23 مليار دولار من الديون الإفريقية على روسيا، كما أشار إلى أن بلاده ستقدم ١.٥ مليار روبل مساعدة للدول الإفريقية لمحاربة الأوبئة، ودعم أنظمتها الصحية.
٥- تقدم الدعم في الحرب على الإرهاب: من خلال تأسيس آلية تنسيقية روسية إفريقية في مجال مكافحة الإرهاب، ودعم الدول الإفريقية في مجال الأمن، وتزويد إفريقيا ببعض الأسلحة مجانا لتعزيز الأمن في القارة والعمل بشكل أوثق مع أجهزة إنفاذ القانون والمخابرات الإفريقية.
٦- زيادة صادرات المنتجات الروسية: وذلك من خلال إزالة الحواجز التجارية بين الجانبين، والعمل على زيادة صادرات المنتجات الروسية، خاصة الماكينات والأسمدة والحبوب إلى الدول الإفريقية، مع تعزيز التعاون الصناعي بين الجانبين بإقامة المشاريع المشتركة، ومن بينها المنطقة الصناعية الروسية في قناة السويس، وغيرها من المشروعات خصوصا في المجال المعلوماتي وأمن المعلومات.
٧- زيادة المنح الدراسية ونقل التكنولوجيا: من خلال زيادة المنح الدراسية وتدريب الكوادر الإفريقية في الجامعات الروسية، وإقامة فروع للجامعات الروسية في عدد من الدول الإفريقية، بجانب نقل التكنولوجيا للدول الإفريقية.
ثالثا- مصر والتعاون الثلاثي مع روسيا وإفريقيا:
خلال مباحثات القمة الروسية المصرية، التي جمعت الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والمصري عبد الفتاح السيسي، في مدينة سان بطرسبرج، تحدث الرئيس السيسي عن استعداد الدولة المصرية لتعزيز مختلف أوجه التعاون الثلاثي بين البلدين في القارة الإفريقية، بما يقضي أن تكون مصر بوابة الانطلاق للشراكة الروسية الإفريقية، بحكم موقعها الجغرافي وما تمتلكه من قدرات لتحقيق ذلك.
وما يدعم هذا التوجه، إحصائيات التعاون المشترك بين الجانبين المصري والروسي، ذلك أن ثلث معدل التبادل التجاري بين روسيا وإفريقيا يأتي مع مصر، بإجمالي نحو ٨ مليار دولار، من أصل ١٨ مليار دولار مع قارة إفريقيا، فضلا عن تنفيذ الجانب الروسي اثنين من أكبر المشروعات الاقتصادية والتنموية بمصر، وهما محطة الضبعة النووية لتوليد الطاقة الكهربائية، والمنطقة الروسية الاقتصادية بقناة السويس.
لاشك أن هذه المسارات، تشكل مزايا تفضيلية للجانب المصري في سياق الشراكة الروسية مع إفريقيا، وفي نفس الوقت عند التوقف أمام الحضور والتفاعل المصري، رفيع المستوى، في قمة سان بطرسبرج، نجد أنه كان معبرا بشكل أساسي عن شواغل القارة الإفريقية وتحدياتها المختلف في ظل الظروف الدولي الحاضر وتأثيراته الصعبة على الدول الإفريقية.
من هذا المنطلق، كانت أزمة الحرب الأوكرانية وآثارها المختلفة، في صدارة الملفات التي ركزت عليها مباحثات ونشاط الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال مشاركته في القمة، وجاءت صياغة الرؤية المصرية للتعاطي مع تلك الأزمة في كلمة الرئيس السيسي، ليؤكد على الموقف الإفريقي الداعي لضرورة وقف هذه الحرب، حتى لا تتضاعف فاتورتها أكثر من ذلك على أمن واستقرار الدول الإفريقية.. وإجمالا ركزت عناصر الرؤية المصرية على النقاط التالية:
١- أشار الرئيس السيسي، في إطار دعوته لوقف الحرب الأوكرانية إلى ما أسماه بـ"سلام الأقوياء"، القائم على الحق والعدل والتوازن، فكان هو خيارها الاستراتيجي الذي حملت لواء نشر ثقافته، إيماناً منها بقوة المنطق لا منطق القوة، وبأن العالم يتسع للجميع".
٢- التأكيد على ضرورة أن تبقى الدول الإفريقية بمنأى عن مساعي الاستقطاب في الصراعات القائمة، لأنها ذات سيادة وإرادة مستقلة وتنشد السلم والأمن والتنمية المستدامة.
٣- التأكيد على ضرورة صياغة حلول مستدامة للصراعات القائمة، وفقا لأهداف ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ القانون الدولي بما في ذلك التسوية السلمية للنزاعات، والحفاظ على سيادة الدول ووحدة أراضيها.
٤- الامتناع عن استخدام الأدوات المختلفة، لإذكاء الصراع وتعميق حالة الاستقطاب، ومن بين ذلك توظيف العقوبات الاقتصادية خارج آليات النظام الدولي متعدد الأطراف.
٥- ضرورة الأخذ في الاعتبار احتياجات الدول النامية وعلى رأسها دول القارة الإفريقية فيما يتعلق بالتداعيات شديدة الوطأة على اقتصاداتها جراء الصراعات والتحديات القائمة، وبالتحديد في محاور الأمن الغذائي، وسلاسل الإمداد وارتفاع أسعار الطاقة، وهو ما يستدعى أهمية إيجاد حلول عاجلة لتوفير الغذاء والأسمدة بأسعار تساعد إفريقيا على تجاوز هذه الأزمة.
٦- حتمية وجود صوت إفريقي مؤثر وفعال، داخل المحافل الدولية القائمة، بما يعمل على إيصال موقف الدول الإفريقية ويحقق القدر المطلوب من التوازن عند مناقشة القضايا ذات التأثير المباشر على مصالحها، ومن بينها عضوية الدول الإفريقية في مجموعة العشرين.
وتفاعلا مع تلك الرؤية، سعى الرئيس الروسي بوتين لتقديم رسالة طمأنة للوفود الإفريقية، عقب كلمة الرئيس السيسي، مشيرا إلى أن "العلاقات المصرية الروسية تمتد عبر عشرات السنين، وهذا أمر واقع، والواقع يقول إن العلاقات المصرية الروسية هي علاقات استراتيجية في مجال الاقتصاد والسياسة، لدينا مشاريع كبيرة مشتركة، وفيما يخص الأغذية والعجز في الأسعار والأغذية، أريد أن أكرر الصعوبات في أسواق الطاقة والغذاء ليس بالأمس وليس في أعقاب الأزمة الأوكرانية، ولكنها ظهرت في أثناء مكافحة وباء كورونا.
رابعا- فرص وتحديات التحرك الروسي في إفريقيا:
المتابع والمدقق للتحرك الروسي، نحو القارة الإفريقية، يجد أنه قائم على رؤية جديدة تمت صياغتها بعد دراسة تفصيلية لواقع التنافس والتواجد الدولي بالقارة الإفريقية وتحدياته، خاصة نقاط الضعف والتحدي أمام تواجد القوى الغربية في القارة.
هذه الرؤية صاغها المسئولين الروس خلال مداخلاتهم في القمة الروسية الإفريقية، وتناولت عددا من النقاط المهمة، أبرزها التأكيد على الميراث التاريخي لروسيا في دعم استقلال الدول الإفريقية، وأنها لم تكن دولة مستعمرة يوما ما، فضلا عن تغليب المصالح الاقتصادية والتجارية في العلاقات والشراكة، وهو ما يعكس نأي الجانب الروسي بنفسه عن التدخل في الصراعات القائمة ببعض الدول الإفريقية.
أيضا تركيز القمة على التعاون الروسي الإفريقي في المجال الإنساني، في ظل ما تعانيه غالبية دول القارة من الفقر وضعف قدراتها في تلبية احتياجات مواطنيها الأساسية، إلى جانب رفض الدعوة الغربية لانتشار "المثلية"، وهي قضية تتعارض مع التقاليد والأعراف الإفريقية.
ورغم ذلك لا يمكن النظر إلى مستوى الشراكة الروسية الإفريقية الحالية، باعتبارها فرصة للانفتاح الروسي الشامل في الساحة الإفريقية، وإنما هناك تحديات أمام هذا التحرك يقتضي وضعها في الحسبان، عند الحديث عن خطة العمل الروسية الإفريقية حتى ٢٠٢٦، والتي تحدث عنها الرئيس الروسي في ختام قمة "سان بطرسبرج".
أ- الفرص:
- فتح أسواق جديدة بالقارة الإفريقية، في إطار تعاطي الجانب الروسي مع العقوبات الغربية، وهو ما يفرض على الجانب الروسي فتح قنوات وخطوط تجارة مع مختلف أقاليم القارة الإفريقية، خاصة أن المساعدات الروسية لا تنطوي على حزمة مشروطية سياسية، مثل دعاوي تعزيز النظم الديمقراطية وحالة حقوق الإنسان، كما هو الحال في الشراكة مع الغرب.
- في ختام القمة الروسية الإفريقية الثانية، وقع الجانب الروسي مذكرات تفاهم مع المنطقة الاقتصادية لوسط إفريقيا، ومنظمة "النيباد" التابعة للاتحاد الإفريقي، وهو ما يعكس الانفتاح التجاري الروسي على مختلف أقاليم القارة، خاصة أن معظم معدلات التبادل التجاري الروسي تتركز في منطقتي شمالي وجنوب إفريقيا، وإعلان الجانب الروسي تقديم الدعم للدول الإفريقية لتفعيل منطقة التجارة الحرة يمكن أن يعزز من مستوى التبادل التجاري.
- الرهان الإفريقي على الجانب الروسي، في مواجهة أزمة نقص الحبوب والغذاء، بتقديم تسهيلات للدول الأقل نموا، وهو ما تعهد به الرئيس بوتين في ختام القمة، بتقديم الحبوب مجانا لعدد من دول إفريقيا لتلبية احتياجاتها من الغذاء، وهي فرصة لتوسيع قاعدة التعاون في مجالات أخرى.
- تنويع الجانب الروسي من قنوات التواصل مع إفريقيا، فبالإضافة إلى الجانبين العسكري والاقتصادي، تعهدت موسكو بتعزيز التواجد الإنساني والثقافي، من خلال دعم الأنظمة الصحية الإفريقية وزيادة عدد الدارسين الأفارقة في الجامعات الروسية، وفتح فروع للجامعات الروسية في إفريقيا، ومراكز لوكالات أنباء روسية في عدد من دول القارة، ودعم حركة السياحة الروسية، بما يضمن بتوسيع تواجد القوى الناعمة الروسية.
ب- التحديات:
إلى جانب ما تمثله خطة العمل الروسية الإفريقية حتى ٢٠٢٦ من فرص، هناك مجموعة من التحديات يجب وضعها في الحسبان، هي:
- ضعف التبادل التجاري الروسي وقدراته، ذلك أن هناك دول لديها قدرات تنافسيه عالية في الشراكة التجارية مع إفريقيا، وعلى رأسها الصين التي تعد الشريك التجاري الأول مع إفريقيا بنحو ٢٠٠ مليار دولار، وأيضا الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، في حين أن معدلات التبادل مع روسيا تصل لنحو ١٨ مليار دولار، وهو ما يفرض تحديات أما حركة التجارة الروسية، في ظل تنافسية عالية من الدول الكبرى الأخرى.
- ازدواجية المواقف الروسية، تجاه عدد من القضايا الخلافية في إفريقيا، خاصة أنها تنتهج سياسة براجماتية، وعلى قدر من المرونة، حيث تقدم مصالحها بشكل أساسي، وهو ما يظهر تباين الموقف الروسي في بعض الأحيان مثل موقفها في قضية سد النهضة في الوقت الذي تبرم فيه اتفاق شراكة استراتيجية مع مصر.
- ضعف التمثيل الدبلوماسي الروسي في الساحة الإفريقية، بالمقارنة بفاعلين دوليين آخرين، حيث أغلقت روسيا ١٢ سفارة لها في إفريقيا بعد الحرب الباردة ونحو ١٣ مركز ثقافي، وان كانت إعادة فتح بعض السفارات إلا أنها لازالت تحتاج للتوسع في التمثيل الدبلوماسي بمختلف مناطق القارة.
- تحدي البعد الجغرافي وهو أمر أشارت إليه، المتحدثة باسم الخارجية الروسية زخروفا، حينما أشارت إلى أن العامل الجغرافي من التحديات التي تعوق الشراكة الروسية الإفريقية على عكس قرب العامل الجغرافي بين إفريقيا وغالبية الدول الأوروبية، وربما يفسر هذا حالة البطء التي تنتاب تنفيذ بعض من المشروعات الروسية المتفق عليها مع بعض الدول الإفريقية.
الخلاصة:
وسط الضغوط والعقوبات الغربية تجاه روسيا، على خلفية الحرب الأوكرانية، عززت موسكو من تنفيذ رؤية جديدة للانفتاح نحو القارة الإفريقية، على أساس رؤية استراتيجية تعتبر إفريقيا ركيزة أساسية بالنسبة لروسيا للوصول لغايتها الأساسية وهي إقامة عالم متعدد الأقطاب.
ومع موقف الدول الإفريقية في بداية الحرب، ثم عقوبات العزلة الدولية، اتجهت موسكو لتعزيز شراكتها مع إفريقيا، لكن العودة الروسية نحو إفريقيا، تتبنى في الأساس التعاون الاقتصادي والعسكري والثقافي والإنساني، وفقا لسياسة عملية مرنة، تستهدف ما أعلنه بوتين في القمة الروسية الإفريقية الثانية في سان بطرسبرج تحقيق "الشراكة المتساوية"، أي التي تحقق المصلحة للجميع.
هذا ما ضاعف من أهمية انعقاد قمة الشراكة الروسية الإفريقية الأخيرة في روسيا، ذلك أن كلا الطرفين يراهن على الآخر، فالجانب الروسي يسعى لكسر عزلته الدولية من بوابة القارة الإفريقية، والأخيرة تستهدف تجاوز آثار الحرب على الأمن الغذائي لدولها من خلال توسيع الشراكة التجارية مع روسيا، خاصة في مجال الحبوب.
وإذا كان الرئيس الروسي بوتين، أعلن في ختام القمة خطة عمل شاملة بين روسيا وإفريقيا حتى عام ٢٠٢٦، تتضمن مختلف المجالات، لكن لا تزال كثير من الدول الإفريقية تعول على الجانب الروسي في سرعة تنفيذ تعهداته للدول الإفريقية، خاصة ما يتعلق بتصدير الحبوب والأسمدة والتكنولوجيا، إلى جانب باقي تعهدات خطة عمل "سان بطرسبرج".