لا تتوقف الأوضاع فى إسرائيل منذ تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو الحالية فى ديسمبر ٢٠٢٢عن طرح تساؤلات غير مسبوقة حول المستقبل بشكل يتجاوز حدود مستقبل القضية الفلسطينية إلى مستقبل إسرائيل ذاتها.
تساؤلات ظهرت واضحة مع مصادقة الكنيست الإسرائيلى فى ٢٤ يوليو الجارى (٢٠٢٣) على قانون إلغاء حجة أو ذريعة المعقولية، الذى دخل حيز التنفيذ فى ٢٦ يوليو مع إعلان المحكمة العليا أنها لن تصدر أمرا قضائيا بعرقلته، كما طالبت أصوات فى المعارضة، على أن تناقشه فى شهر سبتمبر المقبل.
من جانب آخر، تجاوز نقد تحركات الحكومة المعارضة الداخلية، ومواقف الفصائل الفلسطينية والأطراف الإقليمية المعارضة لإسرائيل، إلى المعسكر الغربى وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية. وفى حين قررت الأطراف الفلسطينية والإقليمية المعارضة لإسرائيل اتباع سياسة عدم التصعيد بهدف تفويت فرص استفادة نتنياهو من تصعيد مماثل لمصلحة سياساته الداخلية وفقا لعدد من التقارير، فإن المعسكر الغربى تعامل مع إصرار حكومة نتنياهو على تمرير التعديلات، رغم النقد والتحذيرات، بوصفه تهديدا للمشترك القيمى والنظام الديمقراطى الذى يجمع بين تل أبيب والغرب.
وبعيدا عن جدل القيم الغربية المشتركة، ظهرت الديمقراطية بوصفها نقطة للجدل داخل المعسكر الإسرائيلى المعارض للتعديلات القضائية، والذى انقسمت الآراء فى داخله بين جماعة ترى أن الديمقراطية شأن داخلى مقصور على المواطن الإسرائيلى، وجماعة تنطلق من أن الدفاع عن الديمقراطية يجب أن يشمل الاحتلال والقضية الفلسطينيةعلى أساس أن الديمقراطية ليست قابلة للتجزئة.
وفى الخلفية انطلقت بعض الأصوات الإسرائيلية المؤيدة للتعديلات القضائية من الاختلاف فى المواقف داخل المعارضة للحديث عن تهديد الوحدة الإسرائيلية، ومكانة الجيش بوصفه جيش الشعب، فى حين رأت أصوات أخرى أن إسرائيل تسير نحو الحرب الأهلية، وسط مطالبات بتدخل أمريكى من أجل إنقاذ إسرائيل من حرب داخلية أسهم حادث الدهس الذى استهدف معارضين للتعديلات فى وسط إسرائيل مساء ٢٤ يوليوفى إبرازها.
يطرح المشهد الإسرائيلى بصوره المختلفة، وغير المعتادة، من الصدام داخل الكنيست إلى الشارع، ومن انسحاب أفراد من جنود الاحتياط فى الجيش، وإضراب الأطباء، إلى الصحف الصادرة بصفحات سوداء فى اليوم التالى للموافقة على القانون، كيف تطورت الأوضاع فى مرحلة ما بعد حكومة نتنياهو، التى توصف بأنها الحكومة الأكثر يمينية وتطرفا فى تاريخ إسرائيل، من حديث يدور حول القضية الفلسطينية ومستقبل التسوية وفرص التصعيد، إلى الحديث عن جوهر الديمقراطية الإسرائيلية فى مواجهة الانتقائية على الصعيد الإسرائيلى - الفلسطينى، وعلاقة ما يحدث بالقيم الإسرائيلية- الغربية المشتركة، والدور الأمريكى وتطورات العلاقات الإسرائيلية- الأمريكية المحتملة بين البعد الإستراتيجى الثابت والقيمى محل التساؤل.
وفى حين تمثل الملفات السابقة قضايا شديدة الأهمية، إلا أنها ليست القضايا الوحيدة المطروحة؛ حيث تقف إسرائيل فى مواجهة جدالات أخرى كبرى ولا تقل أهمية عن السابق، ولكنها تركز بدرجة أساسية على شكل الدولة ووجودها، وقدرتها على تحقيق الأمن ومواجهة التهديدات. ملفات تنطلق من الحديث عن فرص الحرب الأهلية، وتمتد إلى انعكاسات ما يحدث على الواقع السياسى والأمنى، وعلى تماسك الجيش وجهوزيته فى مواجهة التصعيد متعدد الجبهات، وخاصة فى ظل تصاعد المقاومة الفلسطينية فى الضفة الغربية، والحديث الإسرائيلى عن استمرار فرص التصعيد فى الجبهة الشمالية مع حزب الله وغيرها من التحديات الإقليمية.
ومع إدراك مركزية القضايا السابقة، وتنويعاتها المختلفة، وما يحدث على الساحة الإسرائيلية من تطورات، وانعكاسات ما يحدث على القضية الفلسطينية وفرص التسوية، يتم التركيز فى هذا الموضوع على تناول أبرز القضايا المؤسسة للتطورات الحالية والمستقبلية، وخاصة ما يتعلق بقانون إلغاء حجة المعقولية، وسؤال الجيش والهوية، والجدل حول الديمقراطية، والانعكاسات المحتملة على صعيد العلاقات مع الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التى أعربت بدورها عن أسفها للموافقة على القانون، وأشارت إلى إمكانية تأثر علاقاتها مع إسرائيل بسبب تلك التطورات.
حجة عدم المعقولية وجدل التعديلات القضائية:
يعد القانون الخاص بإلغاء حجة المعقولية، أو ذريعة المعقولية كما يستخدم أحيانا،خطوة ضمن التعديلات القضائية التى طرحت فى يناير الفائت، بعد فترة قصيرة من تشكيل حكومة نتنياهو وأداء اليمين.
وتستهدف التعديلات، المكونة من ٨ مشروعات قوانين طرحتها الحكومة، تقليص دور السلطة القضائية وتحقيق درجة أكبر من الاستقلالية للسلطة التنفيذية فى مواجهتها، ومنح الحكومة سلطات أكبر فى تعيين القضاة. وفى حين ترى الحكومة أن خطوة مماثلة جزء منإصلاحديمقراطى ضرورى فى اللحظة والمستقبل، ويصر نتنياهو على أهميتها من أجل تحقيق التوزان بين سلطات الحكم، ترى المعارضة أنها بمنزلة انقلاب على الديمقراطية ومساس باستقلال القضاء.
وعُدَّ قانون إلغاء حجةالمعقولية، الذى تم فى إطاره تعديل قانون من القوانين الأساسية التى تحل محل الدستور فى إسرائيل، أحد الأسباب الرئيسية للاحتجاجات التى شهدتها إسرائيل أسبوعيا على مدى الأشهر الستة الأخيرة، وإحدى الخطوات الأكثر أهمية فى خطة نتنياهو. وفى حين تسمح حجة المعقولية من تأكد المحكمة العليا، أعلى محكمة فى إسرائيل، أن القرارات التى تتخذ من قبل الحكومة معقولة، وتسمح للمحكمة بإلغاء القوانين والقرارات المخالفة بذريعة أو حجة عدم المعقولية، يحد القانون الذى تمت الموافقة عليه فى ٢٤ يوليو من قدرة المحكمة العليا على مراجعة معقولية قرارات الحكومة.
وفى حين يتسق تحرك الحكومة مع تصور الائتلاف أن المحكمة العليا يسارية التوجه، وتتدخل بدرجة كبيرة فى الشأن السياسى، وترفع من قيمة حقوق الأقليات على حساب المصالح القومية، فإن المعارضة ترى أن إلغاء المعقولية يفتح الباب أمام الفساد وإساءة استخدام السلطة باعتبار أن المعقولية تحقق التوازن بين المصالح السياسية والعامة فيما يتعلق بالقرارات الصادرة عن السلطة التنفيذية، فى حين يشير غيابها إلى تغليب المصالح السياسية على غيرها.
واستخدمت حجة المعقولية بصفة أساسية فى تعيينات كبار الموظفين، ومع إلغائها تصبح الحكومة الإسرائيلية قادرة على تعيين وفصل المسئولين دون تدخل المحكمة، بالإضافة إلى تسهيل تنفيذ سياسات الائتلاف الحاكم دون الرقابة التى وفرها الوضع القانونى القديم، كما يتضح فى جدول رقم (١) الذى يبرز الاختلاف بين الوضع ما قبل وما بعد إلغاء حجة المعقولية على صعيد المحكمة العليا والحكومة.
جدول رقم (١): دور المحكمة العليا والحكومة قبل وبعد إقرار القانون
الجهة والأدوار المعنية
|
الوضع ما قبل إقرار القانون
|
الوضع بعد إقرار القانون
|
المحكمة العليا
|
· تنظر فى معقولية قرارات الحكومة على ٣ مراحل، وهى:
1. تصرف أعضاء الحكومة (رئيس الوزراء والوزراء) وفقا للصلاحيات.
2. قبول القرارات بشكل سليم وشفاف.
3. ممارسة صلاحيات وقرارات الحكومة وفقا للقانون، وبحسن نية، ومع الالتزام بقيم المساواة واحترام حقوق الإنسان.
· تسمح للقضاة بإلغاء القرارات المخالفة للمعقولية الصادرة عن الحكومة.
|
· تتوقف المحكمة العليا عن مناقشة التماسات المعقولية التى كانت تقدم ضد رئيس الوزراء والوزراء والمسئولين المنتخبين.
· تستمر المحكمة العليا فى مراجعة قرارات الحكومة والوزراء دون صلاحية الإلغاء.
· تتوقف المحكمة العليا عن مناقشة القرارات المتعلقة بالتعيينات الحكومية فى المناصب العامة أو الفصل منها، والتى لن تصل إليها.
|
الحكومة
|
· تمارس المحكمة العليا رقابة قضائية على عمل السلطة التنفيذية.
|
· الحكومة قادرة على تعيين وفصل المسئولين فى القطاع العام دون تدخل المحكمة العليا.
· سلطات أوسع للحكومة فى تعيين القضاة والوزراء.
|
ويكتسب التعديل أهمية خاصة لدى حكومة نتنياهو فى ظل إبطال المحكمة العليا تعيين زعيم حزب شاس أرييه درعى فى أى منصب وزارى فى الحكومة فى يناير الفائت، وإلغاء تنصيبه وزيرا للداخلية والصحة.
وفى حين استندت المحكمة فى قرارها على إدانة درعى بالفساد والتهرب الضريبى، فى ظل حظر قانون أساس الحكومة تعيين شخص أدين بالفساد وتهم جنائية بمنصب وزارى، فقد مثل قرار المحكمة تحديا لحكومة نتنياهو فى ظل تحالفه مع درعى، الذى حصل حزبه على ١١ مقعدا فى الكنيست، واعتبر قرار المحكمة العليا فيما يتعلق بدرعى سببا رئيسيا من أسباب حملة الائتلاف ضدها.
ويوضح هذا السياق مكانة حجة المعقولية فى ضبط تحركات السلطة التنفيذية، وضمان التوازن داخل النظام، ومعه حجم الاحتجاجات وردود الفعل التى صاحبت تصويت الكنيست فى ٢٤ يوليو الجارى بوصفه التصويت الأخير على المقترح الذى مررته لجنة الدستور والقانون والعدالة بالكنيست فى ١١ يوليو بأغلبية ٦٤ صوتا مقابل ٥٦ صوتا. ومثل إقرار القانون بالقراءة الثانية والثالثة، بأغلبية ٦٤ صوتا ومقاطعة المعارضة، خطوة ضرورية من أجل أن يصبح القانون نافذا، بما ينقل الجدل حول القانون، والذى يتضح فى الجدول رقم (٢)، من خانة التنظير إلى الواقع.
جدول رقم (٢): الجدل حول قانون إلغاء حجة المعقولية
الموقف من القانون
|
المفهوم
|
الديمقراطية
|
المبررات
|
الأصوات المؤيدة
|
إصلاح قضائى
|
يحقق الديمقراطية ويزيد من دور الشخصيات المنتخبة.
|
يقلص تدخل القضاة غير المنتخبين فى قرارات الحكومة المنتخبة من الشعب.
|
الأصوات المعارضة
|
انقلاب
|
يقلص الديمقراطية، ويسهم فى تحول إسرائيل إلى دولة دكتاتورية.
|
يقلص الضوابط والتوازنات الضرورية للديمقراطية الإسرائيلية.
|
ويبرر الجدل السابق حول أهمية المعقولية بالنسبة للديمقراطية الإسرائيلية أسباب استمرار الاحتجاجات، ومسارعة العديد من ضباط الاحتياط فى الجيش والشرطة إلى رفض الخدمة فور إقرار القانون، وحديث المعارضة عن ضرورة استمرار الرفض والمقاومة، وتأكيد أهارون باراك، الرئيس السابق للمحكمة العليا، على أن إقرار التشريع القضائى "يوم حزين" دون أن يستبعد أن تكون "هناك أيام أكثر حزنا" قادمة، مضيفا "لقد بدأنا للتو".
التصويت على القانون بين ضعف نتنياهو والمعارضة:
مثَّل التصويت النهائى على القانون تعبيرا عن فشل جهود الوساطة التى قام بها الرئيس الإسرائيلى إسحاق هرتسوغ ونقابة العمال. وعبرت ردود الفعل بدورها عن انقسام واضح فى الآراء بين الحكومة التى رأت ما حدثخطوة مهمة للمستقبل وللديمقراطية الإسرائيلية، والمعارضة التى رأت أن ما يحدث نتاج لحكم الشخصيات اليمينية المتطرفة فى الحكومة. ورأت المعارضة التى عبر عنها رئيس الوزراء الإسرائيلى السابق يائير لبيد، أن الحل فى اللجوء إلى المحكمة العليا من أجل إبطال القانون. من جانب آخر، فإن التفسيرات المختلفة للقانون الذى تمت المصادقة عليه ترى أن المحكمة العليا لا تستطيع إبطال القانون فى ظل مصادقة الائتلاف الحكومى على القانون بوصفه تعديلا على القانون الأساس الخاص بـ "القضاء والتشريع".
وإلى جانب العديد من التفاصيل الخاصة بقانون إلغاء حجة المعقولية، والجهود التى بذلت من أجل الوساطة، أدى الإعلان عن استعداد نتنياهو التوصل إلى اتفاق مع المعارضة يتم وفقا له تأجيل التصويت النهائى لمدة تتراوح من ٦ أشهر إلى عام، وعدم قدرته على القيام بذلك فى ظل مواقف شخصيات مختلفة فى الائتلاف، وتهديد وزير الأمن القومى إيتمار بن غفير بحل الائتلاف فى حال التوافق على حلول توافقية لا تتضمن التصويت فى الكنيست، إلى الإضرار بصورة ومكانة نتنياهو.
ومع الحديث عن تراجع مكانة نتنياهو لمصلحة حسابات اليمين الأكثر تطرفا فى الائتلاف، وتراجع نسب تأييده فى استطلاعات الرأى لمصلحة وزير الدفاع السابق بينى غانتس، فإن المعارضة لم تسلم بدورها من الانتقادات خاصة أنها تقف فى مواجهة تحديات ضخمة تتعلق بالتعديلات التى يقوم بها الائتلاف الحكومى على الجهاز القضائى، والبحث عن سبل المواجهة.
وتتجاوز خطوات وأهمية التعديلات القضائية التى يهدف الائتلاف الحاكم إلى تنفيذها قانون حجة المعقولية أو الحديث عن احتمال عودة درعى إلى الحكومة بعد صدور القانون، إلى تحقيق تماسك الائتلاف الحاكم وضمان أمن نتنياهو شخصيا من جانب آخر.
وترتبط تحركات نتنياهو بالتعامل مع لوائح الاتهام الخاصة به، التى أدت إلى الحديث عن وجود مصالح مباشرة لرئيس الوزراء فى إقرار التعديلات القضائية بما رتب إعلان المحكمة العليا فى ١٣ يوليو النظر فى التماس قدم فى إبريل الفائت من عدد من القيادات السياسية والعسكرية السابقة، يطالب بتنحية نتنياهو بسبب وجود تضارب فى المصالح، فى ظل محاولته إجراء تغييرات على الجهاز القضائى رغم أنه يحاكم فى ٣ قضايا جنائية تشمل الرشوة والاحتيال وإساءة الأمانة. وعلى الرغم من قدرة المحكمة العليا على إدانة نتنياهو وإصدار قرار بسجنه، فإنها لا تستطيع تنحيته وفقا لقانون أقره الكنيست فى مارس ٢٠٢٣.
يتسم المشهد الإسرائيلى السياسى بالتعقد والانفتاح على العديد من الاحتمالات التى لا يحد منها الموافقة على القانون، بحكم الأغلبية التى يتمتع بها الائتلاف فى الكنيست، والاعتبارات التى تؤدى إلى وجود علاقة تكافلية بين الأعضاء من شأنها تمرير تلك السياسات وغيرها، دون أن تضمن الاستقرار والتهدئة فى ظل استمرار الاحتجاجات وخطاب التصعيد والتهديد باسم الديمقراطية، ورفض سياسات نتنياهو التى تضحى بالدولة من أجل الائتلاف والمصالح الضيقة وفقا لتصريحات المعارضة.
الواقع السياسى والجيش الإسرائيلى:
تعاملت العديد من الأصوات الفلسطينية والأطراف الإقليمية الرافضة لإسرائيل مع الأحداث التى تشهدها تل أبيب بوصفها مرحلة فى رحلة تآكلدولة إسرائيل، وبداية محتملة لحرب أهلية لا تستبعدها أصوات إسرائيلية، وعاملَ دعمٍ لقوى هجرة مضادة تقوم على مغادرة إسرائيل إلى الدول الغربية فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وفى حين تحظى تلك المواقف باهتمام القيادات الأمنية الإسرائيلية، فإن قضية الجيش الإسرائيلى وعلاقته بالتطورات السياسية- القضائية القائمة، وانعكاسات تلك التطورات على المستقبل، تمثل أحد أسباب الاهتمام والقلق الأكثر أهمية فى التعامل الإسرائيلى.
وترتبط المخاوف بمستقبل فكرة جيش الشعب فى ظل إعلان عدد متزايد من جنود الاحتياط من وحدات الجيش المختلفةوقف الخدمة اعتراضا على التطورات السياسية، بما يطرح لدى القوى الأمنية تساؤلات معلنة حول مستقبل الجهوزية الإسرائيلية ليس فى مواجهة جبهة واحدة، مثل الضفة الغربية أو غزة، ولكن فى مواجهة جبهات متعددة بما فيها الجبهة الشمالية.
وأصدر معهد أبحاث الأمن القومى الإسرائيلى فى ٢٣ يوليو،بدوره، إنذارا عاجلا يتعلق بخطر تفكك جيش الشعب فى ظل التطورات التى تشهدها إسرائيل. واعتبر تحذير المعهد أن إسرائيل فى الطريق نحو "جيش ضعيف، وواقع يعرض معادلة الردع الإقليمى للخطر فى ظل تهديدات متزايدة من عدة جبهات". ورغم التحذير الذى أعلن قبل الموافقة على القانون فى الكنيست، فإن الائتلاف الحكومى استمر فى تحركاته كما خطط دون الاستجابة للتحذيرات الداخلية أو الخارجية، مع تهميش المعارضة الشعبية.
من جانب آخر، تصاعدت الأصوات التى تعترض على جنود الاحتياط الرافضين لاستمرار الخدمة بشكل حذرت من تأثيره أصوات مختلفة رأت أن تلك الانتقادات من شأنها تعميق الفجوة وأسباب الصراع والمواجهة الداخلية عبر زيادة العداء تجاه جنود الاحتياط المعارضين للقانون. وترتب تلك المخاطرالحاجة إلى اقترابات مختلفة فى التعامل مع الإشكاليات المترتبة على السياسات القائمة وخاصة إذا استمر الائتلاف فى جهوده من أجل إجراء تعديلات الأخرى الخاصة بطرق اختيار قضاة المحكمة العليا وغيرها من الخطوات التى تشملها التعديلات القضائية.
وبشكل عام، ومع إعلان عقد جلسة فى شهر أغسطس من أجل تقييم واقع الجيش، وحصر عدد من توقف من جنود الاحتياط، تظل تحذيرات معهد أبحاث الأمن القومى حول مخاطر تقويض أساسات جيش الشعب وتآكل الردع، وتزعزع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وإضعاف الاقتصاد وتعميق الشروخ المجتمعية، حاضرة كما ظهر خلال التطورات التى شهدتها إسرائيل ما قبل وما بعد الموافقة على القانون فى ظل حكومة "لا يمكن التوصل لتفاهمات" معها كما ذكر لبيد الذى عدَّ، بعد فشل المفاوضات من أجل تأجيل التصويت، تحركات الحكومة من شأنها إضعاف "دولة إسرائيل وشعب إسرائيل وجيش الدفاع الإسرائيلى".
وبشكل عام، لم يسدل الستار بعد على كلمة النهاية فى التطورات القائمة والمحتملة، التى تصدق بدورها على الجيش بدرجة كبيرة؛ حيث يمكن أن تكبر كرة الثلج. وفى حين قد لا يظهر حجم تلك الانعكاسات فى اللحظة، فإنها مرجحة للظهور مع الوقت حين تنشر تقارير واضحة حول انعكاسات ما يحدث على القوات التى توقفت عن المشاركة، أو فى مواجهة تصعيد جديد من شأنه أن يبرز مدى تأثر الجيش أو قوة الردع الإسرائيلية، وتقييم كل تلك التطورات على الوضع الأمنى فى اللحظة والمستقبل.
الديمقراطية بين التقييد والعمومية:
تتقاطع الانتقادات التى توجه من قبل أصوات مختلفة، بما فيها أصوات فلسطينية، حول التطورات الإسرائيلية وفكرة الديمقراطية وتناقضها مع السياسات الإسرائيلية المتبعة فى التعامل مع الجانب الفلسطينى، مع إحدى نقاط الاختلاف الواضحة فى الجدل الإسرائيلى الداخلى والخاص بجوهر الديمقراطية، وكيفية تعريفها، وحدود ما تشمله الديمقراطية الإسرائيلية وخاصة ما يتعلق بالتعامل مع الشعب الفلسطينى وفكرة الاحتلال والدولة الفلسطينية المستقلة.
فى هذا السياق، ترى المجموعة المعارضة للتعديلات القضائية ضمن "الكتلة ضد الاحتلال" أن الاعتداءات التى تتم من قبل المستوطنين "جزء من خطة الحكومة الانقلابية لنشر الدكتاتورية"، وترفض الفصل بين الاحتلال والاعتداء على الديمقراطية، أو الحديث عن وجود ديمقراطية حقيقية فى ظل الاحتلال. فى المقابل، ترفض مجموعة أخرى ترفع شعار "رفاق السلاح" الربط بين الاحتلال والاحتجاج والديمقراطية. وظهر الخلاف واضحا بين الطرفين حين هاجمت مجموعة من الداعين للفصل بين الاحتلال والديمقراطية متظاهرين من المجموعة الأولى التى تربط الديمقراطية والاحتلال؛ بسبب رفع شعار "لا ديمقراطية مع الاحتلال"، والمطالبة بوقف اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين.
جدل ظهر واضحا خلال العملية العسكرية الإسرائيلية فى مخيم جنين فى بداية شهر يوليو الجارى؛ حيث طالب عدد من المشاركين فى الاحتجاجات بالتوقف فى ظل "المعركة الوطنية ضد الإرهاب" التى تديرها الدولة فى المخيم، فى حين رفض قادة الاحتجاج وقف نشاط الاحتجاج. وفصل بيان قادة الاحتجاج بين مواجهة "حكومة متطرفة" وبين دعم المقاتلين بوصفهم إخوة فى الجيش ورفاقا فى السلاح "يحاربون الإرهاب".
وترى أصوات داخل الإعلام الإسرائيلى، بدورها، أن الاختلاف القائم يحتاج إلى إعادة نقاش،على أساس أن هناك صعوبة أو تناقضا بين رفع شعارات الديمقراطية مع إبقاء الاحتلال خارج حدودها، أو ما أشارت إليه صحيفة "هآرتس" فى ٣ يوليو الجارى من تناقض بين الدفاع عن دولة إسرائيل من الدكتاتورية، والوقوف ضد من يرفض الاحتلال رغم أن ما تقوم به إسرائيل فى المناطق الفلسطينية المحتلة هو دكتاتورية عسكرية. وفى السياق نفسه، انتقد الكاتب الإسرائيلى جدعون ليفى، بعد صدور قانون إلغاء حجة عدم المعقولية، قادة المعارضة الذين يطالبون بالديمقراطية رغم أنهم هم أنفسهم ارتكبوا جرائم بحق الشعب الفلسطينى.
وعلى الرغم من أن انتقادات مشابهة تطرح فى مواقف أخرى، كما حدث على هامش الترحيب بالهجرة الأوكرانية بعد الحرب الروسية- الأوكرانية، والمميزات التى قدمت للمهاجرين التى لا تقدم للمواطن الفلسطينى، فإن التفاعلات التى تتم على هامش مشهد الاحتجاجات، والتناقضات بين المطالبة بالديمقراطية المقيدة على مجموعة من السكان، ومن قبل شخصيات تمارس القمع ضد الشعب الفلسطينى، من شأنها أن تتزايد مع الوقت وتطرح تساؤلات أكثر عمقا ليس على المستوى الإسرائيلى فقط ولكن على المستوى الدولى. وعندما يطرح الحديث عن القيم الغربية المشتركة سيكون على هذه الدول أن تبرر محدودية تطبيق تلك القيم الديمقراطية عندما يتعلق الأمر بالحالة الفلسطينية.
الغرب وتساؤلات اللحظة:
تعيد التحديات التى تحيط بإسرائيل لدى الداخل الإسرائيلى والغرب إلى الواجهة ما أشار إليه توماس فريدمان فى مقاله المعنون: "إسرائيل التى نعرفها انتهت"، الذى نشر فى نيويورك تايمز فى نوفمبر ٢٠٢٢، بعد انتخابات الكنيست التى فازت فيها شخصيات من أقصى اليمين الإسرائيلى المتطرف، وتطرح تساؤلات متعددة حول وجود إسرائيل جديدة، وانعكاسات إسرائيل تلك على المشهد الفلسطينى فى ظل الحديث الإسرائيلى المتكرر عن استبعاد فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة بوصفها الحل النهائى المنتظر.
ويتجاوزالوضع الحالى، وفقا للداخل الإسرائيلى والغرب، الحديث عن التعامل مع القضية الفلسطينية إلى حديث السلطوية الإسرائيلية، وأسئلة المشترك القيمى، والاستمرارية والتغيير بما يتناسب مع الشكل الذى يمكن أن يتمخض عن تلك التطورات.
كما تفرض تلك التطورات الحاجة للتعامل مع الأسئلة التى طرحها فريدمان، وخاصة ما طرحه حول حاجة المعابد اليهودية فى أمريكا والعالم للرد على سؤال: "هل علىَّ أن أدعم إسرائيل هذه أم أحجم عن دعمها؟". وفى ظل التطورات الحالية، وتجاوز الجدل حول حكومة يمينية متطرفة فى مواجهة الشعب الفلسطينى، تجد الولايات المتحدة، كما غيرها من الدول الغربية، أن عليها أن تعيد طرح سؤال فريدمان بطريقة أخرى يتم من خلالها تحديد الموقف من حكومة إسرائيلية تراها يمينية وقابلة للتصنيف بوصفها غير ديمقراطية، أو فاشية كما ترى المعارضة الإسرائيلية.
وإذا كانت الانتقادات الأمريكية والغربية الموجهة مازالت متحفظة نسبيا، وتستبعد إحداث تغييرات كبرى فى جوهر العلاقات القائمة، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الحاضر القريب، والأشهر التى مرت على إسرائيل خلال العام الحالى، وصور التعامل مع الاحتجاجات الشعبية، والتصاعد فى التوجهات اليمينية المتطرفة، وما يرتبط بها من سياسات وتحركات على صعيد الاستيطان، واقتحام المسجد الأقصى، وتآكل فرص الدولة الفلسطينية بوصفها جوهر الحل السياسى، والتعامل مع فكرة الدولة الفلسطينية بوصفها فكرة يجب أن تُستبعد كما أعلن نتنياهو - تجعل من الصعب التنبؤ بما يمكن أن ينتج من خطوات ومعها ردود الفعل الإسرائيلية ذاتها، وكذلك المواقف الغربية وخاصة الأمريكية.
فى النهاية، فى حين انقسمت الآراء بين أعضاء الائتلاف والمعارضة بعد الموافقة على قانون إلغاء حجة المعقولية، واختارت المحكمة العليا ألا تصدر أمرا قضائيا بعرقلة القانون على أن تفتح النقاش حوله فى سبتمبر، وتحدَّث نتنياهو عن رغبته فى التوصل إلى توافق قبل نهاية العام، تظل الاحتجاجات وأصوات المعارضة فى خلفية المشهد الإسرائيلى المفتوح على العديد من أشكال التطور المحتملة فى الأيام والشهور المقبلة. تطورات تبدأ من الحديث عن مخاطر محدودة، رغم أهميتها، على صعيد الاقتصاد وشركات التكنولوجيا، إلى قضايا الأمن، وتوازن الردع، وجاهزية الجيش للحرب المتعددة الجبهات، وتماسك الدولة فى مواجهة الحرب الأهلية، وحركة الهجرة من وإلى إسرائيل بوصفها قضايا مطروحة للجدل.