منذ أن أدى الرئيس الأمريكى السابق رونالد ريجان، الذى كان ممثلا سينمائيا، دورا أفادته فيه الخبرة فى الإيقاع برجل قروى روسى كان يسمى جورباتشوف ليفتت القطب الروسى أو ما سمى وقتها الاتحاد السوفيتى مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، حينها نظر إليه الشعب الأمريكى وعدَّه بطلا قوميا استطاع التخلص من الدب الروسى عن طريق تلقيم جورباتشوف بمسكرات الديمقراطية والعدالة والسلام العادل القائم على نبذ النزاعات وتسوية الخلافات سلميا ليتقدم العالم الحر نحو السلام الشامل ومنع الحروب بين الشعوب، وليبارك الرب الأسرة الدولية... إلى آخره من الكلام المعسول الذى غسل دماغ الدب الروسى ليحطم نفسه بنفسه ويكسر زلع العسل التى يعيش عليها بل يهديها طواعية لعدوه اللدود الذى ظن فيه الصديق الودود الوفى ليجعل منه القطب الأوحد والدولة العظمى،حتى قامت الحرب الأوكرانية، ويومها قلت: لقد أخطأت أمريكا الحسابات؛ حيث منحت الدب الروسى فرصة ستندم عليها لاحقا!
واليوم وبعد ما يقرب من سبعة عشر شهرا من بداية الحرب الروسية الأوكرانية التى ظلت أمريكا تنفخ فى كيرها إلى أن اشتعلت، وبعد أن ظهر مدى الضعف الفعلى، غير المتوقع الذى كثيرا ما حاول الغرب تصويره على غير حقيقته عن طريق أقلامه الإعلامية، لما أسموه حلف الناتو الذى كان يمثل البعبع المخيف لروسيا الاتحادية الذى هذب بوتين أغصانه خلال عقدين من الزمن. تقوم اليوم الإدارة الأمريكية باتخاذ قرار أقبح من سابقيه بإرسال حزمة مساعدات أمريكية تشمل شحنات من القنابل العنقودية المحرمة دوليا إلى أوكرانيا!
نعم، فلنضحك ولتبكِ معا فى الوقت ذاته؛ لنعرف كم أدت الولايات المتحدة بشعوب العالم أجمع لمصلحتها، فهى التى تحرم وقتما كان التحريم لمصلحتها، فيما تحلل حينما يكون أيضا لمصلحتها، وليذهب باقى العالم عدا أمريكا إلى الجحيم!
إذا أردت أن تكون كبيرا فلتكن كبيرا بمواقفك بقراراتك بثباتك على المبدأ أيا كان !
إلا أن الإدارة الحالية من المؤكد أنها قد أضرت بمصالح الولايات المتحدة أكثر كثيرا مما أفادتها!
فما المبرر هذه المرة؟
لقد استخدمت الولايات المتحدة هذه القنابل العنقودية من قبل عند الهجوم الذى شنته على العراق والتى أقرت بعد سنوات من حدوثه أنه لم يكن بالعراق أى أسلحة نووية أو غيرها، ولكنها كانت مجرد حجة لغزو العراق!
نعم، أقرت أمريكا بكذبها على شعبها وحلفائها والعالم أجمع، فماذا كانت النتائج؟؟ لا شىء على الإطلاق.
إذا فما الذى يمنعها من تكرار الكذب واتخاذه ملاذا آمنا؟
اليوم بعد أن اكتشفت فشل الهجوم المضاد المزعوم الذى ظل الإعلام الغربى يهدد به ويطنطن له، ويصوره على أنه سيكون نهاية روسيا الضعيفة التى لن تستطيع أن تحرك ساكنا مع بدء الهجوم المضاد الذى سيسحق القوات الروسية غير المدربة... إلخ
لنفاجأ اليوم بخطوة تظهر لك مدى إفلاس الغرب والناتو؛ حيث تحارب روسيا وحدها كل دول حلف الناتو مجتمعة لمدة سبع عشر شهرا دون أن ينالوا منها! ولا تعتقد أن أوكرانيا هى فقط من تحارب، فالقيادات غربية والخطط أمريكية، وصور الأقمار الصناعية الأمريكية تمد أوكرانيا بكل إحداثيات وأماكن وجود القوات الروسية، وكل دول حلف الناتو قد أفرغت مخازنها من الأسلحة بتوريدها لأوكرانيا فأرسلت بريطانيا أحدث مدرعاتها وصواريخها التى استولت روسيا على بعضها ودمرت الباقى منها، وألمانيا قد ورَّدت أحدث دباباتها التى استولت روسيا على عدد منها ودمرت الباقى من الصفقة كاملة، وأرسلت أمريكا أحدث نظم الدفاع الجوى "باتريوت" الذى قيل إنه لا يمكن تدميره، فدمرته روسيا كاملا واستولت على عدد من المدرعات والصواريخ الأمريكية التى ما كانت لتحلم بالحصول عليها!
إذن، فهل تعتقد أن روسيا تتعجل إنهاء الحرب؟ لا أعتقد ذلك!
لماذا؟ للعديد من الأسباب:
أولا:الحرب فرصة لروسيا لتجربة أسلحتها الخفية فى حرب فعلية للتعرف إلى المزايا والعيوب التى ستفيدها حتما فى تطوير أسلحتها، وتحديث الجديد منها بحيث يكون لها اليد الطولى فى سباقها مع العدو اللدود حلف الناتو.
ثانيا:الحرب مورد رئيسى للحصول على نماذج وعينات مجانية تستولى عليها من الجبهة، ومن ثم تطوير ما لديها من منظومات للتغلب على وقهر الأسلحة الأمريكية والبريطانية وغيرها من دول حلف الناتو.
ثالثا:إظهار قدرات ومدى تفوق أسلحتها على الأسلحة الغربية للعالم الذى يشترى هذه الأسلحة.
رابعا:الحصول من الأراضى الأوكرانية على ما يؤمن حدودها.
خامسا:استنزاف قدرات الجيش الأوكرانى لتحييد أى خطورة محتملة مستقبلا.
سادسا:تقليص حجم الجيش الأوكرانى عن طريق التخلص من أفضل عناصره فى الحرب الدائرة؛ حيث يخسر الجيش الأوكرانى الكثير من رجاله يوميا، وكلما طال أمد الحرب قلت أعداد الجيش وتحصيناته وأسلحته... إلخ
العجيب أن أمريكا بإقرارها إرسال القنابل العنقودية لأوكرانيا تعطى الضوء الأخضر لباقى دول العالم باتخاذ الإجراء نفسه ما يجعل قواتها فى مختلف الأرجاء تواجه احتمالية ضربها بالسلاح نفسه الذى كان محرما دوليا، خاصة بعد أن وجهت لها الأمم المتحدة نداء لعدم تنفيذ مثل هذا القرار، فيما أقره بايدن كتبرير لإرسال القنابل العنقودية قائلا إنه قد اتخذ القرار نظرا لقرب نفاد الصواريخ عيار 155 مم وعدم قدرته على مد أوكرانيا بالمزيد منها سريعا لعدم توافرها (للعلم فقد أرسل الغرب مليونى صاروخ كمساعدات دمرت جميعها فى الحرب). لذا، وطبعا نظرا لتوافر هذه القذائف العنقودية بكثرة فى المخازن فسيتم إرسالها حتى يمكن لأوكرانيا مد أجل استخدام الباقى من الصواريخ عيار 155 مم لحين توفيرها، وكذا لتتخلص أمريكا من المخزون الذى أصبح عبئا على أمريكا نفسها! والعذر أقبح من الذنب!
ولتعرف ما هذه القذائف العنقودية، فهى يمكن أن تكون على شكل صواريخ أو مقذوفات يمكن إطلاقها بأكثر من وسيلة سواء من قاذفات أو طائرات أو كقنابل...
ويتكون المقذوف من أعداد مختلفة من القنابل الأصغر حجما قد تصل إلى ستمائة قنبلة أو مقذوف داخل مقذوف واحد أكبر حجما بحيث ينفجر المقذوف الأكبر هذا قبل وصوله إلى الأرض، ويلقى بالمقذوفات داخله على مساحات شاسعة ينفجر بعضها وتبقى نسبة 20% منها دون انفجار بحيث تمثل تهديدا محتملا انفجاره فى أى وقت لاحق، وقد يستغرق هذا شهورا أو سنوات!
لذلك، فقد كانت محرمة دوليا حتى استباحتها أمريكا فى العراق واليوم فى أوكرنيا، أو دعنا نقل فى روسيا!
وما دام أنها كما أقرت جينيفر ساكى، المتحدث الرسمى باسم البيت الأبيض فى واقعة سابقة كانت قد اتهمت فيها روسيا باستخدام القنابل العنقودية، بأنها جريمة حرب فلماذا لا تحاسب أمريكا على جرائم الحرب التى أقرتها بنفسها على لسان المتحدث الرسمى؟!
وما زاد الطين بله، تصريح جاك سوليفان مستشار الأمن القومى الأمريكى الذى جاء ردا على سؤال لأحد الصحفيين قائلا: إن الحكومة الأوكرانية ستستخدم هذه القذائف العنقودية بحرص شديد خوفا على شعبها، وأضاف موجها حديثه للصحفى: هل تظن أنها ستلقيها على إحدى دول الشرق الأوسط أو آسيا أو بلاد بعيدة!
إذن فما عدا الغرب، الجميع متاح ومباح، هذه هى مقاييس الديمقراطية الأمريكية!
وما دام أن القوة العظمى تضع مبادئ الخطأ والصواب، فيجب أن تحاسب الدولة المسماة بالعظمى أكثر من غيرها على جرائم قد قامت بها وقد يفعلها آخرون!
قليلا من الحياء يا سادة، فقديما قالوا السياسة... فلتستحوا ولتتطهروا من هذه السياسة!