تم تكليف ماريو مونتي برئاسة وزراء ايطاليا، ليبدأ تشكيل حكومة الإنقاذ المنتظرة للخروج بالبلاد من الأزمة الاقتصادية الخانقة، معربا عن أمله في البقاء في الحكم حتى موعد الانتخابات المقبلة عام 2013، حرصا على مصداقية الحكومة، مؤكدا أنه لن يكبد الإيطاليين " دماء أو دموعا"، ولكن " فقط تضحيات ".
وبقدر ما لم ترح تصريحات مونتى (68 عاما ) المبهمة والموجزة القلقين على أحوال اقتصاد إيطاليا، بقدر ما زادت المتوجسين حول مسار الديمقراطية الإيطالية توجسا، وهم يسمعون رئيس الوزراء المكلف يؤكد أن اليد العليا في حكم الأمور كلها للأسواق، قائلا " إن عمر الحكومة الجديدة يعتمد على أفعالها وعلى ردود الفعل من جانب الأسواق والمستثمرين ، والمؤسسات الأوروبية والدولية." للقلقين في إيطاليا، سواء اقتصاديا أوسياسيا، ألف حق.
فمن جانب، كانت الأمور قد تدهورت آخر أيام بيرلسكونى، حيث بلغت فائدة السندات الحكومية 7% ، وهى الأعلى منذ طرح العملة الأوروبية الموحدة " اليورو" للتداول قبل أكثر من عشرة أعوام، وهى نفس نسبة الفائدة التي لجأت عندها اقتصادات مترنحة، مثل اليونان والبرتغال بطلب تدخل دولي وأوروبي لإنقاذها.
وقبل أيام من استقالة رئيس وزراء إيطاليا العتيد سيلفيو بيرلسكونى، كانت تكلفة الديون الإيطالية قد بلغت 7% وبلغت هذه الديون مبلغ 1.9 تريليون يورو، ولم تفلح تعهدات بيرلسكونى للأسواق العالمية بقدرة بلاده – صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو- على الوفاء بالتزاماتها المادية.
بل لم تبد هذه الأسواق شيئا من اللين إلا مع إعلان بيرلسكونى اعتزامه الأكيد الاستقالة، بعد تمرير البرلمان خطة التقشف الاقتصادي المطلوبة أوروبيا، وتداول اسم كاريو مونتى، الاقتصادي الأشهر في إيطاليا، والمفوض الأوروبي لأكثر من عشرة أعوام، كخلف تعقد عليه الآمال.
لكن الأسواق كانت من الصرامة بحيث عاجلت إيطاليا تحت حكم مونتى بضربة مفادها أن الطريق لا يزال طويلا أمام روما لاستعادة ثقة الأسواق، فقد سجلت الأسواق صباح الاثنين 14 نوفمبر الجاري ، بيع إيطاليا سندات خماسية بقيمة إجمالية بلغت 3 مليارات يورو بفائدة بلغت 6.29%، والتي تعد الأعلى في تاريخ منطقة اليورو، منذ انطلاقها عام 1997.
مونتى قال الحق إذن، عندما أرجع الأمر كله في كلمته إلى ردة فعل الأسواق والمؤسسات المالية والاقتصادية في أوروبا والعالم. فالأسواق هي الآن الفاعل الأول والرئيسي، ليس فقط ماليا واقتصاديا، ولكن سياسيا أيضا.
فبيرلسكونى الذي حكم إيطاليا طوال أكثر من 17 عاما متفرقة منذ 1994 لم تسقطه قضاياه الجنسية الشهيرة، واتهاماته بالتربح والفساد واستغلال النفوذ ، لكن أسقطته الأسواق، عندما ظل على إنكاره لأخطائه السياسية وحجم الأزمة المالية التي خلفتها، بل ومغالاته في مناكفة المعارضة والتصادم معها في وقت متأزم لا يسمح بتصادم أومناكفة. وبناء عليه، فقد رئيس الوزراء السابق أغلبيته البرلمانية، وأصبح رحيله محتوما.
نموذج التكنوقراط
وكان للأسواق أيضا الكلمة في تحديد خلف بيرلسكونى العتيد، فتحقق الصعود لنموذج الحكم التكنوقراطي المستقل في دول الأزمة الأوروبية. ففي إيطاليا مثلا، تم تكليف مونتى برئاسة الوزراء، وهو الحائز على تأييد المؤسسات المالية العالمية، والكيانات الأوروبية لخبراته الواسعة التي قد تحقق لإيطاليا تعافيا تدريجيا.
كما أنه قيادي مستقل سياسيا يقف على مسافة واحدة من جميع الأحزاب المتناحرة في إيطاليا، ولن يكون مثل سلفه طرفا في صراع حزبي، وينشغل عن التعامل مع الأزمات الحقيقية. كذلك كان الحال في اليونان التي سبقت إيطاليا في العناوين الرئيسية بوصول أزمة ديونها المتجاوزة إلى 340 مليار يورو إلى حد مخيف، مع فشل خطط الإنقاذ المتتالية، بما رجح إعلان إفلاسها كدولة، والتساؤل حول إمكانية طردها من منطقة اليورو، وهو بالمناسبة ما نفى إمكانيته جان كلود يونكر، رئيس مجموعة اليورو، مشيرا إلى أن المعاهدة المؤسسة للمجموعة لا تشتمل على ما يسمح بمسألة الطرد أو خروج إحدى الدول الأعضاء.
فقد كان أثار إعلان جورج باباندريو، رئيس وزراء اليونان المستقيل ، رغبته في طرح خطة الإنقاذ الأوروبي، وما تشمله من إجراءات تقشفية للاستفتاء الشعبي، غضب الأسواق الأوروبية والعالمية ضده، ومن ورائهم كان انقلاب نواب الكتلة الاشتراكية (باسوك) الحاكمة في برلمان اليونان، والذين سحبوا دعمهم لفكرة الاستفتاء، وأجبرواباباندريو على التراجع عن الفكرة، حتى كان سقوطه الرسمي واستقالته.
ثم جاء اختيار رئيس وزراء اليونان الجديد، لوكاس بابا ديموس ، مطابقا لنموذج التكنوقراطي الذي تنشد رؤيته الأسواق، في أوقات الأزمات، فهو نائب الرئيس السابق للمصرف المركزي الأوروبي، والذي أكد أن أولى أولوياته تتمثل في تمرير المرحلة الثانية من الإجراءات التقشفية التي تقتضيها خطط الإنقاذ الأوروبي، والتي لم تحظ المرحلة الأولى منها إلا بالاستهجان والرفض الشعبي.
كما أنه جاء ليشكل حكومة ائتلافية لتهدئة الصراعات الملتهبة بين الباسوك والمعارضة، والتي نالت( نفس ظروف وملابسات الحالة الإيطالية في هذا الشأن) ثقة الأسواق في قدرة اليونان على إنقاذ نفسها ماليا واقتصاديا.
تحديات إرادة السوق
إذن، هي إرادة السوق، ولا رد لها، ولكن يبدو أن هناك تحديا قويا لهذه الإرادة الصارمة ولنموذج التكنوقراط الذي جلبته إلى الساحة الأوروبية. والمفارقة أن مكمن التحدي هو نفسه ما بدا مكمنا للقوة. فالقيادات الحالية في كل من اليونان وإيطاليا أتت بها إرادة السوق بدون صناديق اقتراع أو استفتاء شعبي، بل نتيجة لتوافق القوى السياسية الموجودة على ساحة البلدين، مقابل شيء من الصفقات في بعض الحالات، وبحجة أن الوضع المتأزم لا يسمح بمزيد من الترقب وعدم الوضوح، انتظارا لرئيس الوزراء المنتخب الجديد، ولكن هذه الوضعية لا تحظى بدعم الجميع.فرجل اليونان الجديد مثلا وجد من يستهجن تكليفه بدون انتخاب في أوساط اليسار هناك، ونعتوه بأنه " لاشيء سوى إرادة بلوتوقراطية اليونان والاتحاد الأوروبي"، واعتبروا توليه الحكم منافيا للمبادئ الدستورية.
في إيطاليا أيضا، تواجه إرادة السوق تحديا، متمثلا في غياب دعم اليمين الإيطالي الذي يزيد ويعيد، مطالبا بالدعوة إلى انتخابات مبكرة، رغم ما قد يمثله هذا من سهم جديد يوجه إلى استقرار إيطاليا. وحتى عندما نال مونتى تأييد الشعب الحرية لصاحبه السابق بيرلسكونى، جاء التأييد مصحوبا باشتراطات أن تقتصر مهمة الحكومة- التي ينتظر أن ينتهي مونتى من تشكيلها الجمعة المقبلة- على تمرير مجموعة الإجراءات والسياسات التقشفية التي تفرضها أوروبا، على أن تبقى حكومة مونتى، حكومة تكنوقراط خالصة بدون سياسي واحد في صفوفها.
بل والمثير أن بيرلسكونى أبى أن يترك الساحة ليتصدرها مونتى، ويحاول استعادة ثقة الأسواق، بل أطلق فور استقالته مجموعة من التصريحات، مفادها أنه لا يعتزم اعتزال العمل السياسي حاليا، وأنه عائد مرة ثانية إلى برلمان إيطاليا.
في تعليقه على تساقط حكومات منطقة اليورو أمام أثقال الديون المتراكمة وأوامر الأسواق، قال جان بير جويت، رئيس الجهاز الوطني للضبط المالي في فرنسا، إن الأمور ستنتهي إلى ثورة الشعوب ضد " الديكتاتورية الفعلية" للأسواق المالية.
حتى الآن، تبدو مسألة الثورة هذه احتمالا بعيدا، ولكن الأكيد أنه حتى وإن كان للأسواق اليد العليا حاليا وللنماذج التي تؤيدها الحكم، فإن الأمور لن تمر دون تحد قوي.