موقف العراق الرسمي، ولا أقول الشعبي، من الثورات والانتفاضات العربية عموما ومن الانتفاضة السورية على وجه الخصوص، لا يبدو محيرا فحسب، بل معيبا؛ إذا نظرنا إليه من زاوية أخلاقية. فالعراق الذي عانى من الاستبداد والقمع فترة طويلة، كان حريا به أن يكون الأكثر تعاطفا ودعما للشعوب التي تنتفض من أجل الحرية والحقوق والعيش الكريم. لكن موقف الحكومة العراقية ابتعد كثيرا عن مثل التوجه، وبدا ناقدا بل رافضا لما عرف بـ«الربيع العربي»، خصوصا بعد اندلاع الأزمة السورية، وإن ظهر تباين في الموقف الرسمي بين كتلة المالكي والتحالف الكردي الذي التزم بالموقف الحكومي الرسمي، لكنه لم يخف في تصريحاته الصادرة من كردستان تأييده للثورات العربية، وتعاطفه مع الانتفاضة السورية.
هذا التباين داخل الائتلاف الحكومي ليس إلا جزءا من مشهد بالغ التعقيد تتداخل فيه الاعتبارات الداخلية بالوضع الإقليمي والتجاذب الطائفي الذي طغى، للأسف الشديد، في المنطقة مع النفخ المستمر في ناره. ومثلما دفع الشعب العراقي في السنوات الماضية ثمنا باهظا لهذه الاعتبارات المتداخلة، فإن الشعب السوري المنتفض يجد نفسه ضحية لها.
اللافت أن موقف رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، تمايز بعض الشيء عن الموقف الإيراني في بدايات «الربيع العربي». فطهران هللت للتغيير في مصر وتونس، بل إنها سعت لتبني هذه الثورات والإيحاء بأنها مستلهمة من الثورة الإيرانية عام 1979، وهو إيحاء واهم تماما، لأن الثورات العربية أقرب في الواقع وفي الزمن إلى «الربيع الإيراني» الذي تمثل في «الثورة الخضراء» التي قمعتها الحكومة الإيرانية بعنف شديد. لذلك لم يجد الموقف الإيراني الصدى الذي أرادته طهران، بل قوبل باستنكار لدى الكثيرين الذين اعتبروه محاولة مبكرة للركوب على الثورات العربية، ومناورة لاستخدامها ورقة في الصراع الإقليمي. وجاءت الانتفاضة السورية لتعري الموقف الإيراني تماما، إذ انسلخت طهران من ترحيبها المتحمس بـ«الربيع العربي» لتنبري للدفاع عن حليفها في دمشق بمختلف السبل إلى حد اعتبارها هذا الدعم «واجبا دينيا»، مما أعطى لموقفها وجها طائفيا، إضافة إلى أن وصفها المتكرر لما يحدث في سوريا «بالمؤامرة» يضع الأمر في سياق التجاذبات والصراعات الإقليمية.
أما المالكي فقد انتقل من الترحيب بـ«الربيع العربي» إلى الهجوم عليه باكرا عندما وجد نفسه، في فبراير (شباط) الماضي، في مواجهة مظاهرات شعبية واسعة بدا واضحا أنها متأثرة بالثورتين التونسية والمصرية، وإن كانت مطالبها تركزت على القضاء على الفساد وتحسين الخدمات وإجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية. وعندما اتسع نطاق المظاهرات في «يوم الغضب» الذي امتد إلى العديد من المحافظات، خرج المالكي في خطاب يدعو الناس إلى عدم المشاركة في الاحتجاجات التي وصفها بـ «المريبة»، ملمحا إلى بقايا البعثيين وربما إلى بعض معارضيه الآخرين، قبل أن يعلن عن إجراءات للتصدي لها، مما أدى إلى وقوع عشرات القتلى برصاص قوات الأمن. «يوم الغضب» الذي دفع البرلمان العراقي إلى الدعوة للجنة تحقيق في الأحداث وإلى إعلان تفهمه لمطالب المحتجين، لم يكن يتيما، إذ أعقبته سلسلة مظاهرات في «جمعة الكرامة» و«جمعة الحق» و«جمعة المعتقلين» وغيرها، قبل أن تنحسر تدريجيا بعد شهور.
المهم أن تلك الأحداث دفعت رئيس الوزراء العراقي لاتخاذ موقف مناهض لـ«الربيع العربي» على خلاف الحليف الإيراني الذي رأى فرصة في هذا «الربيع» لاستغلالها في الصراع الإقليمي. لكن هذا التمايز في المواقف لم يدم طويلا، إذ عاد الطرفان للتلاقي في الأحداث السورية.
حكومة المالكي التي لسعتها الانتقادات سعت جاهدة لتبرير مواقفها الأخيرة في اجتماعات الجامعة العربية بشأن سوريا، ولرد الاتهامات التي وجهت إليها بأنها اتخذت هذه المواقف بضغط من إيران، قائلة إن العراق لا يتبع لأي دولة، وإنه اتخذ مواقفه بناء على مصالحه الوطنية. إلا أن هذه التصريحات لم تقنع الكثيرين الذين يرون أن المالكي وكتلته البرلمانية سايرا الموقف الإيراني، وتأثرا بالحسابات الطائفية التي باتت تلقي بظلالها على الأزمة السورية. فرئيس الوزراء العراقي الذي حذر في مقابلة قبل أيام من حرب أهلية إذا سقط نظام الأسد، وجد نفسه يسوق المبررات الطائفية لهذا التحذير. فعلى الرغم من قوله إن حكومته أبلغت النظام السوري أن زمن حكم الحزب الواحد والطائفة الواحدة قد ولى، فإنه أتبع ذلك بقوله إن إزاحة نظام الأسد بأي شكل سيؤدي إلى صراع داخلي «بين مجموعتين وإلى حرب أهلية ستؤدي إلى تحالفات في المنطقة»، مشيرا إلى أن العراق عانى من حرب طائفية، ولذلك يخشى على مستقبل سوريا والمنطقة برمتها.
هذا الكلام يوضح أن الحسابات والمخاوف الطائفية ليست بعيدة عن الأذهان في المواقف من الأزمة السورية. ورغم أن الكثيرين يحاولون تغليف هذا الأمر بالعبارات الدبلوماسية، فإنه من المستحيل حجب الشمس بغربال. مقتدى الصدر كان أكثر وضوحا في الحديث من المنظور الطائفي، عندما هاجم الجامعة العربية لمساندتها «لما تسمى الثورة السورية وهي ثورة مسلحة تستهدف المواطنين والعسكريين وتعمل بمنهج طائفي مقيت»، على حد تعبيره.
في وسط هذه التجاذبات بدا موقف التحالف الكردي محرجا بالنظر إلى التباين بين تصريحاته المؤيدة لـ«الربيع العربي» والمتعاطفة مع الانتفاضة السورية ومسايرته للموقف الحكومي المعارض لقرارات الجامعة العربية الأخيرة. فالأكراد يرون في أي تحول ديمقراطي فرصة لدعم حقوق الأقليات، لكنهم في الوقت ذاته يمشون بحذر في الملف السوري مراعاة لوضع الأكراد هناك، وفي الوقت ذاته يجدون أنفسهم محشورين بين تضارب المصالح بين تركيا وإيران، ومضطرين لمراعاة الحساسيات الداخلية في العراق إزاء الملف السوري.
المشكلة للانتفاضة السورية أنها لا تواجه فقط تعقيدات المشهد العراقي، بل وضعا إقليميا لا يقل تعقيدا.
-----------------------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية الأربعاء 7/12/2011.