تمت لأوباما جولته في منطقة آسيا- الباسيفيك، حضر من القمم رفيعة المستوى اثنتين، والتقى بزعامات الإقليم الصاعد، وبدا أنه حقق الكثير من أهداف الجولة سياسيا وأمنيا واقتصاديا، والأهم أنه عاد إلى واشنطن بشيء من الحجج الجديدة لدعم موقفه في الحملة الانتخابية للرئاسة التى تكاد تصل إلى مرحلة الغليان قبل أوانها.
قيل إن أوباما خرج في جولته بحثا عن سوق آمن للاقتصاد الأمريكى، بعد تصدع منطقة اليورو، ووصول بعض شظايا الأزمة إلى شواطيء الولايات المتحدة ، ودفعا لاتفاقية التجارة الحرة المخطط لإبرامها مع ثمان من دول المنطقة. وقيل أيضا إنه أراد لنفسه هذه المرة أن يسبق الأحداث بخطوة ( عكس ما حدث في منطقة الشرق الأوسط وربيعها العربى) ويكون له موضع قدم في إقليم صاعد يرجح أنه سيحدد مجريات الأوضاع الدولية سياسيا واقتصاديا خلال المرحلة المقبلة.
هكذا قالت وزيرة الخارجية الامريكية، هيلارى كلينتون، في مقالها المنشور بمجلة t Foreign Policy بعنوان " أمريكا والقرن الباسيفيكى"(،(1 بما يرشح الإقليم بقوة ليكون هدفا لاستثمار أمريكا السياسي والاقتصادى خلال العقد المقبل، خاصة بعد تخلص الأخيرة من عبء العراق وأفغانستان. بل إن الوزيرة كلينتون تجادل بأن دور أمريكا، في هذه المنطقة تحديدا، يضمن للأخيرة دوام الزعامة ويحفظ لها مصالحها إجمالا.
وقيل أيضا فيما قيل إن كلمة السر في الجولة من المبتدى إلى النهاية هى " بكين "، وإن أوباما سعى لاستعراض العضلات الأمريكية أمام الصين، ولسان حاله صارخا "نحن هنا". والهدف أن يسجل، من جانب، بعض النقاط في مرمى الجمهوريين الذين بدأوا يرددون بالفعل نغمة النفوذ الأمريكي المتراجع أمام الصين، و يرسخ، من جانب آخر، موقعه فى الإقليم، مؤكدا قدرة أمريكا على مناطحة الصين في قلب فنائها الخلفى.
" كلمة السر.. بكين"
الحقيقة أن كل ما قيل وردده العالمون ببواطن السياسة الأمريكية في تحليلهم لبواعث جولة الأيام التسعة وأهدافها لم يخالف الصواب. فبشىء من التأمل، يتضح أن كل هذه الأهداف والنوايا تتقاطع وتتكامل لتقدم صورة واضحة عما تسعى وراءه أمريكا بين دول آسيا- باسيفيك، وحتى ما قيل عن أن "بكين" بمثابة " كلمة السر" لا تنقصه الدقة أيضا. وكيف تحاول أمريكا التربع في الإقليم دون أن ترتطم بالصين، وهو ارتطام على كل حال مقصود؟.
خرج أوباما في جولته، بعد أن نفضت الولايات المتحدة يديها من العراق وأفغانستان عسكريا، وترك وراءه الشرق الأوسط يمر بمخاض سياسى واجتماعى عسير، وعملية سلام متجمدة يصعب للولايات المتحدة الاستثمار بها حاليا.وفيما تنتفض أوروبا تحت وقع أزمة اليورو، بدا أن جميع المؤشرات ترجح كافة آسيا – الباسيفيك كمحدد لما هو آت. فأسواقها شاسعة وتتوسع، وبها كبريات الاقتصاديات الصاعدة ( هذا إن كان لفظ صاعدة لا يزال يليق ) مثل الصين، والهند، وإندونيسيا، ناهيك عن أن دولها تسهم بنصف إجمالى الناتج المحلى العالمى، وتقف وراء نصف حركة التجارة دوليا.
والحقيقة أن الرجل التزم بتطبيق الرؤية التى سبقته كلينتون إلى تقديمها نظريا في مقالها. ففى استراليا، توصل إلى اتفاق مهم بزيادة حجم القوات الأمريكية المرابطة هناك لتصل إلى وحدة تدخل كاملة ( نحو 2500 جندى ) بحلول عام 2016، مؤكدا في خطابه أمام البرلمان الاسترالى أن الخفض في موازنة الدفاع الأمريكية لن يؤثر فى الالتزامات الأمريكية في منطقة آسيا – باسيفيك، وأنه اتخذ قرارا بأن تلعب بلاده دورا أكبر وأطول أمدا في" تشكيل المنطقة ومستقبلها".
وفي هذه الخطوة أكثر من إنجاز. أولا: دعم قوى للوجود العسكرى الأمريكي في منطقة آسيا الباسيفيك، مع العلم بأن القوات التى ينتظر أن ترابط في استراليا تحديدا ستكون لها أهمية خاصة، لتمركزها في نقطة تعد معبرا استراتيجيا وسهلا إلى بحر الصين الجنوبى. وبحر الصين الجنوبى، لمن لا يعرفه ، يعد أهم المعابر الاستراتيجية للتجارة، ويزخر بالموارد الطبيعية من بترول وغاز. والأهم، كون بحر االصين الجنوبى بمثابة بؤرة نزاع متوتر بين الصين من جانب وعدد من دول الجوار( فيتنام، الفلبين، بروناوى، ماليزيا، وتايوان) من جانب آخر حول حقوق السيادة على عدد من الجزر الكائنة به (2).
وهكذا، فإن التمركز المحتمل للقوات الأمريكية في استراليا يجعلها لاعبا رئيسيا في هذا الصراع، وحليفا قوىا لفريق الدول الأصغر، محققا توازنا للقوى يجب أن تضعه بكين دوما في الحسبان. بشكل عام، استغلت إدارة أوباما مواقف الصين لتشكيل تحالفات مناوئة لها، مثل دعم الروابط الأمريكية مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية المستاءتين من مغالاة العملاق الصينى في غطرسته، وبالطبع اكتملت القصة بالتحالفات الناشئة مع فيتنام وأخوتها على خلفية أزمة بحر الصين.
كما أـن نزول القوات الأمريكية جنوب استراليا، اعتبارا من عام 2012 المقبل، يحكم الحلقة حول الصين، أخذا في الاعتبار عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين المنتشرين في اليابان وكوريا الجنوبية. أوباما لم يتوقف عند هذا الحد – فهدف الزيارة كما قلنا أمريكا مشددة " نحن هنا"- فمسألة تأمين الممرات التجارية، واستقرار الأوضاع في بحر الصين الجنوبى صعدت على السطح مرات ومرات خلال هذه الزيارة ، إحداها على لسان الرئيس الأمريكى في استراليا، ومرة ثانية خلال قمة دول شرق آسيا، التى اختتم أوباما جولته بحضورها في إندونيسيا.
وفي ذلك تجاهل للتأكيدات الصينية المتكررة بأن هذه الأزمة ستحسم داخليا بين دول المنطقة بدون تدخل أى طرف خارجى، وتأكيد أن الأمور ستسير وفقا لقواعد جديدة تفرغت أمريكا للمشاركة فى وضعها. ويبدو أن القواعد الجديدة بدأت تفرض نفسها، حتى إن رئيس الوزراء الصينى، وين جياباو، اختتم لقاءه مع الرئيس الأمريكى في إندونيسيا، مؤكدا أن بلاده ستعمل على الخروج تدريجيا من أزمة بحر الصين.
شراكة اقتصادية
من أهداف الجولة أيضا التى شكلت ترسيخا للولايات المتحدة في المنطقة، وفي الوقت نفسه نقطة توتر بين واشنطن وبكين، كان دفع أوباما لمباحثات معاهدة تحرير التجارة TPPالمعروفة باسم معاهدة الشراكة العابرة للباسيفيك ( (3فمن المعروف أنه بقدر ما تشكل هذه المعاهدة دعما كبيرا لصادرات الولايات المتحدة، خلقا لفرص عمل أمريكية، ودفعا لسياساتها التجارية، بقدر ما تمثل إزعاجا للصين التى تراها كيانا مناوئا لكتلة دول جنوب شرق آسيا ( آسيان ) زائد ثلاث، فى إشارة إلى كل من الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية. المعاهدة التى كان دفع مفاوضاتها بندا رئيسيا على أجندة أوباما في جميع لقاءاته تمثل ناديا مغلقا أمام الصين المطالبة بحل أزمة عملتها، اليوان،و حماية حقوق الملكية الفكرية، وتقليص أو وقف الدعم المقدم حكوميا في بكين إلى الشركات المملوكة من الدولة.
مسألة استجابة الصين لهذه المطالب والاشتراطات الاقتصادية كانت أيضا قاسما أساسيا في كلمات وتصرييحات أوباما الذى طالب بكين، أثناء مؤتمر صحفى في استراليا، بـ " اللعب وفقا للقواعد السائدة اقتصاديا". صحيح أن هذه التحذيرات والحديث عن دفع المفاوضات لم يؤت بثمار اقتصادية فورية، تزيح عن عاتق الإدارة الديمقرطية شيئا من العبء، لكن أوباما حاول وضع الولايات المتحدة على الطريق السليم بهذا الشأن في المنطقة. كما أن جهود أوباما في هذا الشأن مع بعض الصفقات المليارية التى عقدتها الوفود المرافقة له في إندونيسيا وغيرها ستكون خير عنوان لجانب من حملتها الانتخابية خلال شهور مقبلة.
شهدت جولة أوباما أول مشاركة أمريكية رسمية في قمة دول شرق آسيا، واستغل أوباما هذه الفرصة لتأكيد أن أمريكا دخلت المنطقة لتبقى، وكذلك كان الهدف من وراء كل تصريح أدلى به أو خطوة اتخذها. لم يكن هدف أوباما مجرد مناطحة الصين، لكن اكتساب نفوذ في آسيا- الباسيفيك، لا يمكن أن يتحقق بدون مواجهة القوة الصينية، وقد كان.
1) المقال صادر بتاريخ 11 أكتوبر 2011. و من المعروف أن أول جولة خارجية لهيلارى كلينتون بعد تقلدها منصب وزير خارجية الولاية المتحدة كانت إلى منطقة آسيا باسيفيك، في تأكيد لأهمية الدور الاستراتيجى الذى يلعبه هذا الإقليم وحجم المصالح التى تربط الولايات المتحدة بهذه المنطقة.
(2)الصراع يصل في الأغلب إلى حد المناوشات الحادة، مثل ما حدث مع مانيلا التى أعربت عن شكها فى اختراق القوات الصينية المياه والمجال الجوى الفلبينى نحو ست مرات خلال العام الحالى فقط. ]
3))- المعاهدة المنتظرة مؤلفة من: استراليا، وبروناوى، وتشيلى، ونيوزيلندا، وبيرو، وماليزيا، وسنغافورة، وفيتنام، مع احتمال انضمام اليابان.